28 September 2019 - 12:08
رمز الخبر: 453682
پ
آية الله قاسم:
ألقى سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم كلمةً في مؤتمر الإمام السجاد الدولي الذي عُقد في مدينة بندر عباس جنوب الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحدث فيها عن حياة الإمام السجاد “عليه السلام.

وجاء في كلمته ما يلي:

السلام عليكم أيها الأخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته..

حياة الإمام السجاد “عليه السلام”، حياته الإرادية كانت سجوداً هو عين القيام، وكانت قياماً هو عين السجود.

حياةٌ كُلّها سجودٌ وقيامٌ من أجل الله، والسجود لله معناه عدم السجود لغير الله، والقيام لله تبارك وتعالى ليس له إنعكاسٌ على البشرية إلا إنعكاساً بالخير والعطاء الخيّر والثّرّ.

القيام لله عزّ وجلّ له مردودٌ واحدٌ في الأرض، هو المردود الإيجابي، مردود الإعمار للنفوس، مردود الإعمار للأرض، مردود أن تزكو الحياة، أن ترقى الحياة، أن تسمُق الحياة.

ذلك هو الإمام السجاد “عليه السلام” الذي لم يختلف أحدٌ ممّن قرأه -فيما أظن- على أنّه ذلك الإنسان العظيم سواء كان هناك إعترافٌ ممّن قرأه بعصمته أو لم يكن اعتراف.

وما أظن أن يقرأ الإمام السجاد “عليه السلام” قارئٌ إلا ويخرج بهذه النتيجة، أنّه ذلك الإنسان العظيم المنفتح على الهمّ الإنساني كلّه. إنسانٌ لا تؤطره الأرض، لا يؤطره حدٌّ من حدودها ولا كلّ حدودها. إنسانٌ قلبه، لحظات حياته، كلّ نفسٍ من أنفاسه موصولٌ مبهورٌ لجلال الله وجمال الله وعظمة الله.
إنّه في الأرض جسماً، ولكنّه مع الله دائماً بقلبه وروحه، وليس معنى أن يكون القلب مع الله أن يزاوله همّ الإنسانية والتفكير فيما فيه صلاح الإنسانية ورُقيّها وزكاتها ووحدتها وأمنها وسلامها.
كلمتان قصيرتان جداً، كلمة في بعض الآيات الكريمة، وكلمة أخرى تتصل بالكلمة الأولى هي في ضوء دعاء مكارم الأخلاق من الصحيفة السجادية.

قوله تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

أمّا العبادة التكوينية فليست معنّيةً هنا، لأن الخلق نفسه حدوثاً واستمراراً يعني عبادة المخلوقين من ناحية تكوينية. المخلوق بيد خالقه خاضعٌ ذليلٌ مقهور، وهذه هي العبادة التكوينية.

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي في الجانب الإرادي للإنسان، وأنّ الغاية من خلقه أن يكون كلّ نشاطه، كل لحظة من لحظات حياته الإرادية، كل حركةٍ وسكونٍ من حركاته وسكوناته في هذه الحياة القائمة على التوجه الإرادي وعلى الإختيار والحرية يجب أن تكون عابدةً لله، خاضعة لإرادة الله، تابعةً لها، مؤتمرة بأمر الله منتهية بنهيه.

لماذا هذا؟
هذا للإنسان وليس لله. للكمال طريقٌ واحد، والطريق إلى الكمال لا يكون كذلك –أي لا يكون طريقاً للكمال- إلا بأن يوصل للكامل، ولا كامل إلا الله تبارك وتعالى.

ليس هناك طريقٌ آخر ثانٍ لهذا الإنسان يطلب بسلوكه الكمال إلا الطريق إلى الله تبارك وتعالى.
هذا شيء.

هذا الطريق الذي يسلكه العبد طلباً للكمال إلى بارئه هو طريق العبادة لله عزّ وجلّ. الخضوع للكامل يعطي كمالاً، يشّدّك بالكمال، يجعل حركتك وسكونك قائمتين دائماً ومتجهتين دائماً بالأخذ بوجودك وذاتك على طريق الكمال وفي جهة الكمال.

لذلك، كلّ لحظة طاعة هي خطوة في اتجاه كمال الذات، وكل خطوة معصية هي خطوة في الاتجاه المعاكس لكمال الذات، تنزل بك إلى الأرض، تهوي بك إلى الأرض، تخلطك بالطين، تجعلك من الطين، تُكَلسك، تُجمّدك، تفصلك عن عطاء السماء، والأرض دائماً محتاجةٌ في كل لحظة من لحظات وجودها ومن لحظات حياتها إلى السماء.

غاية الخلق تقدّم في الآية الكريمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
الآيات القرآنية تؤكد أنّ كلّ الرسالات وكلّ الرُسل، وكل الكتب الإلهية، جاءت لبيان المنهج العبادي الذي يوصل الإنسان إلى كماله على طريق الله تبارك وتعالى. تأخذ بيد هذا الإنسان إلى الله في كلّ حركةٍ وسكون ليكون صورةً من رحمة الإله، من علم الإله، من قدرة الإله، من إرادة الإله، من لطف الإله.

تقول الآية الكريمة (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فكلّ الرسل أتت للأخذ بهذا الإنسان على طريق العبادة لله عزّ وجلّ، ليس في مساحة الصلاة، في مساحة الصيام، في مساحة الحجّ، إنما في كلّ مساحة الحياة، من صلالتها إلى بذلها، من كل حركةٍ وسكون حتى في النكاح وكلّ ممارسةٍ من ممارسات الحياة.

هذه العبادة ما عطاؤها؟
تقول الآية الكريمة (الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

الصراط المستقيم واحد هو صراط الله تبارك وتعالى، العبادة لهذا الغرض، لهذا الهدف الكبير، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
الإنسان في أصله عدم، ليس له من وجود، وليس له من خير، ليس له من هدى، ليس له من نور، ليس له من ظهور إلا بعطاء الله تبارك وتعالى.

ولكي يظهر هذا الإنسان، ولكي يزكو هذا الإنسان، ولكي يتخلّص من نقاط ضعفه التي تفرضها عليه محدوديته وفقره الذاتي الأصل، ولكي يأتي هذا الإنسان شيئاً، ولكي يمثل معنى، ولكي تكون له قيمة وليتوفر على هدى لابد أن يستعطي كلّ ذلك من الله تبارك وتعالى، وطريق استعطاءه هو طريق العبادة، بأن تخضع كل حركةٍ وسكونٍ منه إلى الله تبارك وتعالى المربوطة بالهدف الخاص الذي حدده الله عزّ وجلّ لبناء هذا الإنسان حتى يأتي كاملاً.

فهناك خلقٌ من أجل هدف محدد، هذا الهدف جاءت من أجله كلّ الرسالات وكلّ الرُسل، هذا الهدف وهو هدف العبادة يتمثّل في منهجٍ إلهي دقيق مُحكم من صناعة علم الله وحكمته ورحمته وإحاطته، وهذا المنهج العبادي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور.

فسيبقى الإنسان ظلاماً، وستبقى الحياة ظلاماً، وستكون الحياة ظلماً وعشوائية وحروباً وتمزقات وضياعاً وتيهاً، ما لم يأخذ الناس بمنهج الله وعبادته ليُخرجهم من الظلمات إلى النور.

في خطابٍ من الله تبارك وتعالى لخاتم النبيين “صلى الله عليه وآله وسلم”: (إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).

هذه الآية تُقدّم لنا نتيجة المنهج الإلهي متمثلةً في شخص الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم”. نموذجٌ إنسانيٌ أعلى، صنعته الرسالة الإلهية، صنعه المنهج الإلهي العبادي، فجاء على خُلُقٍ عظيم، فماذا تعني هذه المرتبة؟

الخلق العظيم ليس ابتسامةً شكليّةً في الخارج وإنْ سَحَرت بعض القلوب، ليست معاملةً في ظاهرها أنّها إنسانية، ليست رحمةً تبدو للعيون رحمةً على خلاف حقيقتها، الخلق العظيم روحٌ شفافة، روحٌ زكت، سمت، سمُقت، تخلّصت من ضغط وجاذبية الطين، روحٌ صارت موصولةً بالله تبارك وتعالى، كلّها نورٌ من عنده، ملؤها صفاتٌ محدودة من صفات الله، أسماءٌ جميلة على محدوديتها من أسماء الله الحسنى المطلقة، تلك هي الأخلاقية، أخلاقية لا تملك الأرض عليها تأثيراً، لا يملك الهوى منها نصيباً، ليست فيها شائبةٌ من جهل، روحٌ طهُرت، زكت، عصمها الله تبارك وتعالى عن الزلل والخطأ، ذلك هو الإنسان الذي تصفه الآية الكريمة (إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).

هذا الإنسان ماذا يُعطي؟
كلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ. قلبٌ هو ذلك القلب الذي أشارت إليه الآية الكريمة، روحٌ شفّت وزَكت وطَهُرت وانعصمت بعصمة الله عزّ وجلّ، لا يأتي منها إلا خير، إلا هدى، إلا رُقيّ، إلا صلاح، إلا إعمارٌ للقلوب والنفوس والأرض كلّها.

(إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) صار هذا الوجود وجوداً بنّاءً لا يبني إلا الخير، لا يهدم إلا الشر، لا يواجه ولا يحارب ولا يُناهض إلا الباطل، لا يناصر ولا يشيد إلا بالحق، ذلك هو رسول الله، وذلك كلّ إنسانٍ انصنع على ضوء المنهج الإلهي العبادي الحقّ.

كلّما قَرُب الإنسان من ربّه تبارك وتعالى، كلّما اهتدى، كلّما كَمُل، كلّما نضج، كلّما وعى، كلّما صدق، كلّما أخلص لله ولعباد الله، وليس من مخلصٍ لله إلا وهو مخلصٌ لعبيده، وليس من مطيعٍ لله إلاّ وكان نَفّاعاً لعبيده، فذلك هو رسول الله وكلّ من كان على شاكلة رسول الله “صلى الله عليه وآله”، وذلك هو شأن كلّ المرسلين “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.

فريقان من الناس، حاضران، مستقبلان، حضارتان. هذا الفريق له منطلقه، وذلك الفريق له منطلقه. البداية هي أن يكون مَثَلي مثلاً أعلى أو مَثَل سوء.

الآية الكريمة تقول: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ۖ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فإما أن تضع يدك في يد الله، وإما أن تضع يدك في يدٍ أخرى ليست على طريق الله وإنما يدٍ مخالفةٍ لله. كلّ من عدى الله وكلّ ما عدى الله في ذاته باطل، عدم، صفر. جبرئيل في ذاته صفرٌ عَدمٌ باطل، رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” في ذاته ليس شيئاً، هو شيءٌ عظيمٌ جليلٌ كبيرٌ وكلّ الأنبياء لهم أوزانهم العالية الكبيرة بالله تبارك وتعالى، بصلتهم بالله، باستعطائهم من الله، بعطاء الله لهم.

فإذا تركت الله لم يبقَ لك إلا مَثل السوء، وإذا أردت المثل الأعلى فليس لك إلا الله تبارك وتعالى.
فصناعةٌ تُصنع في ضوء عطاءات وفي ضوء التعلّق والتدّلي بالمثل الأعلى، وحياةٌ تُصنع على طريق الإرتباط بمَثل السوء. مَثل السوء لا يعطي إلا ما هو من جنسه، المثل الأعلى يعطي ما هو غنيٌ به من كمالٍ، ومن جمالٍ، ومن جلالٍ، ومن خير.

فالبداية بأن نرتبط بمثل السوء، أو بالمثل الأعلى، أن تنشدّ حضارتنا، حياتنا إلى الله أو إلى الشيطان، وكلّ من عدى الله واتُخذ إلهاً إنما هو شيطانٌ بمستوىً من الشيطنة وإبليسٌ صغير.

الحياة حتى ترشُد ويعلو قدرها، الإنسان حتى يرشُد ويعلو قدره، حتى يكون وجوداً متميزاً من بين المخلوقات بعطاءه، بأثره، لابد أن ينشدّ إلى الله تبارك وتعالى.
هذا هو المنطلق، طريقان لا ثالث لهما، ومنطلقان لا ثالث لهما.

تبدأ رحلة الصعود عند الإمام السجاد “عليه السلام” من هذه النقطة. يقول في دعاءه “عليه السلام”: (أَللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَالِ. أللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَـا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ، وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَىَّ فِي رِزْقِكَ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي، وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ.) ثم يضيف “عليه السلام”: (أللَّهُمَّ لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا، وَلا عَآئِبَةً أُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْرُومَـةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا.)

يطلب إيماناً صحيحاً راسخاً بالمثل الأعلى، بالله الكامل تبارك وتعالى. يطلب ارتباطاً داخلياً شديداً متيناً أكيداً بالله تبارك وتعالى، لكي لا يأخذ من غير هذا الذي يرتبط به شيئاً، لكي لا تكون له وجهةٌ له أخرى، لكي لا يكون له هدفٌ آخر، لكي لا يتلقى أي توجيهٍ آخر من جهةٍ أخرى، يريد أن يخلُص قلبه لله عزّ وجلّ، ليُصاغ محتوى هذا القلب في ضوء جمال الله، جلال الله، كمال الله تبارك وتعالى، حتى يأتي هذا القلب نموذجياً رائعاً، كلّه ضياء، كلّه نورانية معنوية، وكلّه إشعاع.

هذه هي البداية، هذا هو موقع القوة، هذا هو موقع الصلاح، هنا بداية حياة، حياة لا تجد فيها إلا خيراً، لا تجد فيها إلا عزّة، لا تجد إلا فيها وعياً، لا تجد فيها إلا زكاةً وطهراً.

(وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ)، أكمل الإيمان هو قمة الإيمان وهو واضح، يقين هو أفضل اليقين، اليقين له شيءٌ لا يشوبه، رؤية لا يشوبها أدنى شكّ، فماذا يُطلب في هذا اليقين ليكون أفضل يقين؟ أن يكون متعلقاً بالحقائق الكبرى، أن لا يقف عند الحقائق الصغرى.

هناك يقين بأمور صغيرة، بأمور محدودة، بأمور حياتية بسيطة، هذا يقينٌ نافع لكن لا يبلغ من نفعه شيئاً مما عليه اليقين بالحقائق الكبرى التي تدور مدارها الحياة، والتي تنطلق منها الرؤية الحياتية، السلوك الحياتي، التي تعتمد عليها الحياة في أصولها الكبرى وفي مهماتها العظيمة، يريد ذلك اليقين الذي يوصله إلى الحقائق الكبرى، الذي يوصله إلى ما عليه الغيب من صدقٍ وحقانيّةٍ وجمالٍ وجلال.

(وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ)، ما لم يَسلَم القلب، ما لم ترشد النيّة، وليس من نيةٍ راشدة، وليس من نية مأمونة، معطاءة ولا تثمر إلا الخير، إلا بأن تكون نيّةً مرضية عند الله تبارك وتعالى.

فيريد “عليه السلام” من قلبه أن لا يحتضن أيّ نيةٍ لا يرضاها الله تبارك وتعالى.

(..وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَالِ.)، واضح جداً أن الأعمال ستكون كلّها حسنة وستكون أحسن الأعمال حينما يكون إيمان، وحينما يكون يقينٌ بالله، وحينما يكون نيّةٌ تكون مُرضيةٌ لله تبارك وتعالى.

فمن أين بداية صحة الحياة؟ صحة أوضاع الحياة؟ صحة الوضع الإقتصادي؟ صحة الوضع السياسي؟ صحة الوضع الإجتماعي؟ صحة الوضع الأمني؟

كلّ ذلك معتمدٌ على صلاح هذا الإنسان، فالبداية أن يصلح الإنسان، وصلاح الإنسان ليس له إلا منطلق واحد وهو أن يكون داخل الإنسان ناظراً لله تبارك وتعالى، مشدوداً إليه، طالباً رضاه، متجهاً دائماً إليه.

في الفقرة السابقة طلب الإمام “عليه السلام” من الله تبارك وتعالى أن تكون نيّته أحسن النيّات، وفي هذه الفقرة الآتية يقول “عليه السلام”: (أللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَـا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي.)، إذا كتبت لي تلك النيّة التي هي أحسن النيات، فأعطني منها الكثير، أفِضْ عليّ من هذه النيّة ما يناسب كرمك، فكلّما عَمُر قلبي بهذه النيّة كلما عمرت حياتي بالخير وكلما عمرت حياتي بالعطاء وكلما وجد الخلق في حياتي أُنساً، وكلما وجد الصالحون في حياتي أُنساً وبركةً لهم، عندما تكتب لي النيّة الحسنة فزدني منها فإنها من خير الخير.

(أللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَـا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي.)، أخرجني من الجهل المرّكب، اجعلني على يقينٍ صادق، ويقين متعلّق بالحقائق الكبرى.

(وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي.)، أخاف كلّ الخوف أن يكون في داخلي ما جدّ مما لا يرضيك، إنْ جدّ ما لا يرضيك وإنْ كنتَ تتسامح فيه من غيري فإنّي أريد داخلي مرضّياً عندك بالكامل، أريد له صالحاً كلّ الصلاح كما تريد، فلا تترك منّي فاسداً أبداً، أصلحه ربّي برحمتك، فيريد لذاته أن تكون الذات الإلهية النقيّة، الصورة الصادقة لجمال درجةٍ من الجمال، ودرجةٍ من الكمال، وإنْ كان ذلك الجمال والكمال محدوداً، إلا أنّ كل جمالٍ من جمال الله كبير، وكلّ كمالٍ من كمال الله عظيم.
فيريد ذاتاً تمثّل انعكاساً لجلال وجمال وكمال الله تبارك وتعالى، الإنعكاس الذي يناسب هذا المخلوق المحدود الفقير الذي كلّه حاجةٌ إلى الله تبارك وتعالى.

وهذه الذات الجميلة بالجمال المحدود الراجع إلى عطاء الله تبارك وتعالى تهفو إليها القلوب، تهوي إليها القلوب، ولذلك تجد في كلّ عبدٍ صالح مهوىً للقلوب الطيّبة، وإنما تهوي في هذه الذات شيئاً من الجمال الذي وجدته فيها وهو جمالٌ لم يأتي هذه الذات إلا من صلتها بالله تبارك وتعالى.

(أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَه..)، هناك حاجات دنيوية، ضرورات دنيوية، أريد من الله عزّ وجل أن يخرجني من ضغط هذه الضرورات، ومن ضغط هذه الحاجات لأتفرّغ للهدف الكبير من الحياة، هذه مشاغل حياتية، مشغلة اللُقمة، مشغلة الكسوة، مشغلة المأوى، وهي مشاغل واقعية ضرورية ضاغطة جداً، فأريد من الله عزّ وجلّ أن يُخلّصني من ضغطها وييسّر لي أمرها من أجل أنْ تكون حياتي خالصةً على طريق الهدف، طلب الهدف الكبير وهو طلب صناعة الذات الإلهية النظيفة الزكيّة التقيّة المعصومة.
هذا هو طلب الإمام “عليه السلام”، إهتمامٌ بالذات، ليس بالمسكن، ليس باللقمة، ليس بالجاه، ليس بالموقع، إنّما الإهتمام بالذات، ماذا سيبقى لنا غير ذاتنا؟ كلّ ما عدى ذاتنا كلّه ذاهبٌ، كلّه إما أن نرحل عنه أو يفلت من أيدينا، لن تبقى إلا الذات، ولا أدري كيف أطلب جمال داري ولا أطلب جمال ذاتي، كيف يليق في العقل وفي الذوق وفي الوجدان وفي النظرة السليمة أن أطلب جمال داري وأعتزّ بجمال داري وبجمال سيارتي ثم لا يهمّني جمال ذاتي! غريبٌ هذا الإنسان، غريبٌ أن يطلب الجمال لثوبه ولا يطلب الجمال لقلبه!
(وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ…) يريد موقعاً قريباً من موقع الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم”، (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).

(أللَّهُمَّ لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا، وَلاعَآئِبَةً أُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْرُومَـةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا.)، ليس تخليصاَ من العيوب فقط، أنا عندي شيئاً من العلم، زدني علماً، وقل ربي زدني علماً، عندي رحمة بالعباد، زدني رحمةً بالعباد، عندي درجة من الأخلاق، زدني أخلاقاً وحُسناً في أخلاقي، دائماً سعي إلى الكمال، وكلّ يومٍ -ما مضمونه في كلمات زين العابدين “عليه السلام”- تساوى مع أمسه كان ظالماً لنفسه، لابد عليه أن يرقى، لابد عليه أن يزداد، لابد عليه أن يرتفع، وارتفاع الذات قبل ارتفاع ما في اليد، وزيادتك في ذاتك خيرٌ من زيادة حجرة أو حجرتين أو ثلاث حجر في دارك أو قصرك، فعلينا أن نهتمّ بذواتنا قبل اهتمامنا بأشيائنا.

غفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: قناة اللؤلؤة

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.