08 August 2009 - 17:01
رمز الخبر: 188
پ
بقلم : عبدالرحیم التهامی
ثمة ظاهرة محیرة تتمثل فی إصرار بعض المثقفین العرب فی أن یعیشوا تحت وطأة الإحساس المفرط بالهزیمة، ولا یکادوا یبدعون إلاّ وفق مناخاتها، بل إنّ بعضهم لا یکتفی بإحباطه الخاص، بل یجتهد فی أن یمد ظلال خیمته السوداء على کل ساحة الوطن العربی والإسلامی غیر معتدّ بأی نقطة ضوء فی الأنفس أو فی الآفاق.
الهزیمة تنسخها الانتصارات



تمر علینا هذه الأیام من تموز، الذکرى الثالثة للملاحم البطولیة التی وُوجه بها العدوان الصهیونی على لبنان وعلى مقاومته، والذی انتهى إلى هزیمة مدویة اقرّ بها العدو، وبدت للجمیع تداعیاتها الخطیرة على کیانه، لکن للأسف وُجد بیننا من یجادل فی النصر ویدلس علیه وفق فلسفة مبتکرة، تربط النصر والهزیمة بالکلفة لا بالأهداف، فکیفی أن یدمر العدو بعض البنیة التحتیة ویقترف المجازر بحق المدنیین حتى یصبح انتصارنا؛ وضدا على المعاییر العسکریة والإستراتیجیة الصرفة، لاغیا بل وموضع تهکم واستهزاء.

قد یکون موقف بعض الأطراف اللبنانیة والعربیة الرافضة لحقیقة أن المقاومة انتصرت، مفهوما لاعتبارات سیاسیة وحتى طائفیة، وهی بالمناسبة لم تکتف بالمجادلة فی الانتصار بل سخرّت آلتها الإعلامیة وجوقة مثقفیها للتشکیک فی انتصار المقاومة، بل وللطعن فی المقاومة ومصداقیتها وذلک بتحمیلها مسؤولیة الدمار الذی طال البنیان، واتهامها بالمبادرة إلى الحرب خدمة لأجندة إیرانیة. لکن الذی یصعب فهمه هو هذا التجاهل للحدث فی أوساط المثقفین، والفتور فی التعاطی مع الانتصار الکبیر خاصة کلما هلّت ذکراه المجیدة، لدرجة أن الذکرى الأولى للانتصار التاریخی والتی کانت متقاربة زمنیا مع الذکرى الأربعین لهزیمة حزیران 67 جعلتنا فی قلب جو صاخب من النقاشات والمقالات فی الصحف والحوارات المتلفزة على الفضائیات، وأحسسنا فی حینه وکأن أرکسترا المثقفین المهزومین تهیئ الشرط النفسی لعموم الجماهیر؛ التی استعادت إحساسها بالکرامة والکبریاء مع ملاحم حرب تموز، کی تنخرط مجددا فی طقس استرجاعی تفجعی تُجلد فیه الذات ویُفتح فیه جرح الذاکرة على نزیف سرمدی.

وإذا کان لابد من استحضار ذکرى النکسة؛ وهذا لا إشکال علیه، فبمنهج تاریخی وتحلیلی، وفی ضوء الانتصارات التی راکمتها الأمة وقواها المقاومة، بدءأً من معرکة الکرامة الشهیرة عام 68؛ التی خاضها فدائیون من "فتح" ومن "قوات التحریر الشعبیة" إلى جانب الجیش الأردنی، حیث وللمرة الأولى فی تاریخ الصراع مع (إسرائیل)، رُفض الطلب الإسرائیلی بوقف إطلاق النار قبل انسحاب القوات الإسرائیلیة تماماً من الأراضی الأردنیة إلى غرب نهر الأردن، مندحرة بعدما فشلت فی تحقیق أهدافها؛ وبعدها حرب الاستنزاف بسیناء والتی انخرط فیها المواطن المصری، ثم ما کان من صمود وبطولة فی حصار بیروت عام 82، ومرورا بهزیمة العدو فی جنوب لبنان واندحاره فی 25آیار2000 وانتهاءً بالنصر التاریخی والاستراتیجی الذی حققته المقاومة الإسلامیة على الکیان الصهیونی فی حرب تموز، ودون أن ننسى نصف انتصار حرب 1973 والتی تخلّف فیها القرار السیاسی الرسمی عن قدرات واستعدادات الجیش المصری والجیوش العربیة الأخرى المشارکة على جبهتی سیناء والجولان.

 ثمة ظاهرة محیرة تتمثل فی إصرار بعض المثقفین العرب؛ ممّن لا یُطعن فی ذمتهم السیاسیة على الأقل؛ فی أن یعیشوا تحت وطأة الإحساس المفرط بالهزیمة بل ویتفننون فی لغتها، ولا یکادوا یبدعون إلاّ وفق مناخاتها، بل أنّ بعضهم لا یکتفی بإحباطه الخاص، بل یجتهد فی أن یمد ظلال خیمته السوداء على کل ساحة الوطن العربی والإسلامی غیر معتد بأی نقطة ضوء فی الأنفس أو فی الآفاق، بل إن الأمر لا یخلو من مفارقة تتمثل فی هذا التمایز بین روحیة المواطن العادی وروحیة المثقف "الطلیعی"، ففی حین کنا نجد أن المواطن العادی تجاوز الهزیمة/النکسة ونزل إلى شوارع القاهرة رافعا شعار "سنقاتل" وشارک بفعالیة فی حرب الاستنزاف، وبقی قابضا على الأمل، یترقب بصیص نصر ولو کان محدودا، والمشهد نفسه تکرر مع حرب تموز، حین کان المواطن یقف على أطلال بیته لیقول "کلنا فدا المقاومة"؛ کان المثقف المهزوم فی وضع کمن استغشى ثیاب الهزیمة فحجب نفسه عن رؤیة کل ما أنجزته المقاومة، بل وأشاح بناظره عن قدرات الأمة و طاقاتها الهائلة.

فـی 25 أیار2000 تاریخ أول انتصار نوعی على الجیش الصهیونی، لم نجد کبیر اهتمام بالحدث فی أوساط النخبة المثقفة؛ برغم أهمیته فی تاریخ الصراع العربی الإسرائیلی، ولم ینعکس فی الإبداع العربی؛ خارج أطر المقاومة؛ إلا بشکل محدود، وذلک خلافا للإبداع الذی تدفق مع نکسة67 حیث وصل إلى کل بیت وشارع، وتأبطناه شعرا وروایة صاغرا عن کابر. لکن إذا جاز لنا أن نتسامح مع هذا الإهمال وهذا التبخیس للانجاز المقاوم من منطلق غلبة التطبّع على الهزیمة، فإنه لا یمکن أن ننظر إلى محاولة بعض المثقفین من کتیبة "ثقافة الحیاة" فی المصادرة على حقائق النصر الکبیر والبیّن لحرب تموز، ومعاکسة المحاولات الرائدة - وإن کانت محدودة- لتحویله إلى رافعة فی واقع الأمة، وإلى محطة استنهاض لوعیها الذی تعرض للکی، ولتعزیز ثقتها فی نفسها وإیمانها بقدرتها على هزیمة العدو و استرداد کامل حقوقها؛ إلا باعتباره عملا مشبوها فی دوافعه ومنطلقاته.

لقد أضحى النصر- بفضل المقاومة- عنوان لحظتنا التاریخیة، والهزائم فی معارکنا مع العدو نسختها الانتصارات، ولن یفلح مثقفو الهزیمة وصانعو الإحباط أن یقفزوا على ملاحم مارون الراس وبنت جبیل وعیناتا وعیتا الشعب.


 

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.