30 December 2009 - 15:19
رمز الخبر: 1420
پ
رسا/آفاق- تواجه عاشوراء ومع کل محرّم حملة ممنهجة من التشویش والتشویه، وکأن الاستحضار الحسینی فی امتداده النبوی، یستجلب حتما نقیضه الأمویّ، لیس فی حدود السرد التاریخی للواقعة فحسب، بل وعلى مستوى التعیّن الواقعی فی الخارج.- بقلم عبدالرحیم التهامی.
عاشوراء والسلوک الإنسانی المطلوب.
لم تعدِم واقعة عاشوراء أناسا ینتسبون إلى ثقافات وأدیان متعددة ومتنوعة، ومن اتجاهات فکریة مختلفة؛ ممن تفاعل مع أحداثها وشعاراتها ورسالتها وشخصیتها المحوریة المتمثلة فی الإمام الحسین بن علی(ع)، فکان منهم المسیحی والهندوسی .. وکان فیهم السیاسی والفیلسوف والمناضل والأدیب.. وکان الشعر بخاصة؛ ولأنه الأنسب فی المجال العاطفی والإنسانی؛ مجالا عکس لنا صوّرا من العشق الحسینی ارتقت فی رهافة حسّها الإنسانی إلى أفق الحدث العاشورائی أو کادت؛ وهنا یحضرنی الشاعر المسیحی الراحل بولس سلامة ورائعته «مناجاة الحسین (ع)»، ولن أتکلّف هنا لأقول أن مسیحیّته لم تمنعه من أن یعیش المشهد الکربلائی بشفافیة روحه بما مکنّه من الإمساک بأطیاف من بهاء اللحظة العاشورائیة کما تبدّى ذلک فی عدد من قصائده ، لأنّ کربلاء فی جوهرها ومعانیها وقیّمها الکاملة وجدت طریقها إلى کل القلوب الحیّة، وألهمت وستلهم بعظمة الفداء والجمال فیها، کل ضمیر إنسانی تحرر من حجبه وانعتق من قیوده، وانحاز إلى القیّم الإنسانیة الجامعة.
ولازالت أفئدة من الناس؛ وفی کل حین؛ تهفو إلى النهضة الحسینیّة من کل الآفاق، ولعلّ توهّج عاشوراء فی طورها المعاصر؛ وهی دائمة التوهّج؛ عائد إلى عاملین اثنین، العامل الأول یتمثل فی طروّ التجدّد على وظیفتها التاریخیة، فقد کان قدر عاشوراء بعد الذی کان لها من مفاعیل ثوریة ملموسة فی الواقع الإسلامی أن تحوّلت فی ظل أزمنة القمع إلى ذاکرة وهویة، اختزِلت وظیفتها فی تأمین شرط الصمود والتماسک للجماعة الشیعیّة المضطهدة. وبقی الأمر على هذا الحال إلى أن جاء الإمام الخمینی(ره) الذی أحدث تحویرا جذریا فی فلسفة الانتظار حین قال بولایة الفقیه، ومن ثم أخذت عاشوراء فی حرکة هذا الإمام الثائر وظیفة متجددة تخطت بموجبها وظیفتها الرمزیة - تلک- وشهدت نقلتها إلى مسرح الصراع فی سیاق تثویری معاصر فغدا«کل یوم عاشوراء وکل ساحة کربلاء»، وبهذا أصبح الحسین الشهید حاضرا فی أساس وقلب المشروع الثوری للإمام، وهذا ما عنته قولته الشهیرة« کل ما لدینا من عاشوراء»، فالإمام الخمینی(ره) جعل الإمکان الاستنسابی لعاشوراء مشرَعًا؛ فکل استشهاد من أجل إحقاق حق وإبطال باطل وإحیاء قیّم الإسلام المحمدی الأصیل؛ هو استشهاد حسینی وهو التحاق بالرکب الکربلائی.
العامل الثانی لهذا التوهّج أن عاشوراء الحسین(ع) أدرکت لحظتها المُعَوْلَمَة وانسلکت فیها؛ ما یعنی أن عاشوراء التی هی فی الاختزال البسیط انتصارٌ لقیّم الحق والعدل، وانتصار المظلوم على القوة الغاشمة وعلى رداءة الزمان، تقف الآن أمام فرصة تاریخیة تتجاوز معها کل الحدود؛ لتطال آفاقا إنسانیة واسعة، ولتتألق فی وعی الشعوب کملحمة إنسانیة وکمدرسة فی التضحیة والفداء.
عاشوراء هذه التی لم یستطع الطغاة محو ذکرها، لأنّها استمدت خلدوها من خلود وأبدیة القیّم التی انتصرت لها، تواجه ومع کل محرّم حملة ممنهجة من التشویش والتشویه، وکأن الاستحضار الحسینی فی امتداده النبوی، یستجلب حتما نقیضه الأمویّ، لیس فی حدود السرد التاریخی للواقعة فحسب، بل وعلى مستوى التعیّن الواقعی فی الخارج، وهکذا تنبری الیزیدیّة –نسبة إلى یزید بن معاویة- فی کل عصر للنیل من الحسین علیه السلام ومن شرعیة حرکته المحمدیّة ومشروعه الاستنهاضی فی الأمة على زمن التحریف الأعظم، ولتقویض - ومن موقع تعالمٍ زائفٍ فی الدین- الإحیاء العاشورائی وطقسه التفجّعی الذی یجری على مقتضى الحبّ والبراءة من قتلة أبناء الأنبیاء، واضعة الحدث تحت مقصلة البدعة فی الدین، متجاهلة أن عاشوراء فی أحد وجوهها هی انتفاضة الدم الزکی على البدعة التی عمّت فقد کتب الحسین(ع) إلى وجوه أهل البصرة: «أنا أدعوکم إلى کتاب الله وسنّة نبیّه، فإنّ السنّة قد أمیتت والبدعة قد أحییت..».
فی تعریفه للعولمة یقدم الفیلسوف الفرنسی رجیس دوبریه تعریفا جیّدا حیث یرى أن العولمة هی عیشُ الزمکان بطریقة مختلفة؛ ویمکن أن نلحق بهذا التعریف قیدا ونقول:وعلى شرط التهذیب؛ تهذیب النزعات الاستعلائیة والغرائز المذهبیّة کمدخل للتعایش والتعارف فی هذه القریة الکونیّة، وهذا الشرط هو ما یسمح فی الواقع بانبثاق الرؤیة المنصفة للآخر، کلّما وُجد من یُبطل العُصاب المذهبی أو العناد الدینی کما فی واقعة المباهلة؛ حیث استدرک أسقف نجران على اندفاعة النصارى قائلا: «ویلکم لا تباهلوا فتهلکوا فإنّی أرى وجوها لو شاء الله أن یزیل جبلا من مکانه لأزاله بها».
وکان من تلک الوجوه؛ وجه الحسین علیه السلام.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.