15 March 2010 - 22:48
رمز الخبر: 1974
پ
تقریر الخارجیة الأمریکیة حول حقوق الإنسان..
رسا/ تحلیل سیاسی- دأبت الخارجیة الأمریکیة على إصدار تقریرها السنوی حول وضعیة حقوق الإنسان فی العالم، هذه قراءة فی الحدث ومحاولة لفضح منطلقات هذه الوظیفة الرسولیّة المزعومة، والکشف عن بعض خلفیاتها./ بقلم عبدالرحیم التهامی.
أو حینما تستمرأ أمریکا لعبة تنقیط الآخرین.

 

فی 11مارس/آدار2010 صدر التقریر السنوی لوزارة الخارجیة عن أوضاع حقوق الإنسان فی العالم، والذی اعتادت تقدیمه أولا إلى الكونغرس ومن ثم نشره فی الموقع الرسمی على شبكة الانترنت، ولتنطلق بعد ذلك سلسلة من ردود الفعل خاصة فیما یتصل بالإدانة التی یتضمنها التقریر وتصنیفاته لدول بعینها باعتبارها ضالعة فی خروقات حقوق الإنسان.

وحول إیران، جاء فی تقریر الخارجیة الأمیركیة «إن أداء الحكومة السیئ فی حقوق الإنسان ازداد سوءًا خلال العام وخصوصا بعد الانتخابات الرئاسیة». وأشار التقریر إلى ما یزعم أنه «نقص فی حق التعبیر وحق التجمع، وإلى غیاب إجراءات قضائیة موثوق بها»، وما عبّر عنه بـ«تقیید شدید من قبل حكومة أحمدی نجاد لحقّ الأفراد فی تغییر الحكومة سلمیا من خلال انتخابات حرة ونزیهة».

 

وقبل أن نناقش فی بعض معطیات هذا التقریر خاصة تلك الفقرة المتعلقة بإیران، نود الإشارة أولا إلى أن تقلید إصدار تقاریر سنویة عن وضعیة حقوق الإنسان فی العالم صارت أمرا مستهجنا، لیس فقط لأن بعض الدول المصدّرة لهذه التقاریر تمارس نوعا من الوصایة على باقی دول وحكومات العالم، ولیس بسبب العین الواحدة التی تتعاطى بها هذه التقاریر، بل للتوظیف السیاسی لشعار حقوق الإنسان، فهذا الغرب صاحب الماضی الاستعماری والذی یرفع شعارات حقوق الإنسان، یفعل ذلك وهو یدعم ویساند أبشع الأنظمة الإستبدادیة فی العالم، خاصة تلك التی تقع على منابع الثروات النفطیة، لأن الأمر هنا یتعلق بالحسابات الجیو ـ سیاسیة والاقتصادیة، وبمنطق المصالح الحیویة والإستراتجیة، وهذا لیس جدیدا فذاكرة الشعوب لازالت تحتفظ بصور من الأدوار التخریبیة للبعثات الأمریكیة، خاصة فی دول ما كان یعرف بالعالم الثالث، حیث الوظیفة التآمریة لهذه البعثات كانت تتلخص بمعاكسة وإجهاض کل محاولة فی التحرر من الأنظمة الدیكتاتوریة العمیلة، والتخطیط للانقلاب على إرادة الشعوب کما حصل فی إیران نفسها من خلال الإطاحة بحكومة مصدّق المنتخبة، وقد كان نصیب أمریكا من إزاحة هذا الأخیر الحصول على 40 فی المائة من أسهم شرکة النفط الإیرانیة القومیة، أو ما حصل فی التشیلی من خلال تدبیر انقلاب عسكری دموی على حكومة منتخبة دیمقراطیاً برئاسة سلفادور اللندی فی العام 1973م تمخضت عنه حكومة دیكتاتوریة بزعامة بینوشی مدعومة أمریكیا، وأدى ذلك إلى اختفاء 130 ألف مواطن، وتعلیق المسار الدیمقراطی حتى عام 1990، إلى غیر ذلك من نماذج التآمر على الشعوب وإجهاض حركتها التحرریة.

 

ولعله من المناسب هنا أن نشیر إلى ما یسمى بالإعلان العالمی لحقوق الإنسان 10/12/1948 الذی تم تسییسه، وتحوّل إلى أداة بتصرّف جهات ودول تمارس الابتزاز، وتسعى لتحقیق مآرب سیاسیة واقتصادیة وثقافیة، ولا یتم تضمین الحیثیة الحقوقیة واستحضارها فی هذه التقاریر الحكومیة الصادرة عن الغرب والمستندة إلى هذا الإعلان؛ إلا من أجل التعمیة عن المقاصد الحقیقیّة، وهو ما أفرز لنا بالنتیجة ثنائیة فی المشهد العالمی؛ ثنائیة یراد لها أن تستمر وتدوم، لأنها مدرة للنفع، ثنائیة متقوّمة بالجهة الراصدة لانتهاكات حقوق الإنسان من دون تخویل، وهی-هنا- الغرب السیاسی والثقافی، وفی المقلب الآخر؛ الجهة المرصودة والمتّهَمة أبدا بانتهاك تلك الحقوق؛ مع الإیحاء طبعا إلى الدوافع الثقافیة وحتى الدینیة لبعض تلك الانتهاكات؛ وهی كل العالم ناقص الغرب. هذا فضلا عن التحفظ الفلسفی، فنظریة حقوق الإنسان صیغت وانطلقت بل وتمحورت حول الإنسان الغربی حصرا؛ وامتحت من قیّمه وثقافته وتراثه وتجربته، وانبثقت فلسفتها من سیاقه التاریخی الخاص، فجاءت مدموغة بسمات حضارته المتغلبّة على باقی الأنماط الحضاریة المنحسرة فی جغرافیا العالم بفعل سنن التاریخ، دون أن تكون نهایتها حتمیات مقدّرة بالضرورة.

 

فالإعلان العالمی لحقوق الإنسان نفسه، والذی لم تهتم له مجموعة عدم الانحیاز حین تشكلّت؛ مما یخدش فی عالمیته؛ كان ولید انتصار أوربا على تناقضاتها وصراعاتها الداخلیة بدعم أمریكی واضح، ویمكن النظر إلیه كنتیجة لتقاطع المصالح الأوربیة الأمریكیة، لذلك فهو حیث انتصر لحقوق الإنسان من منظور نزعته العنصریة، فإنه فی الواقع كان ینتصر لصورة الغرب ومشروعه ویستنقذه، ویعید تأهیله لأدوار استعماریة ما بعد الكولونیالیة.. هو الغرب نفسه وفی تاریخ الإعلان إیاه، كان یُخضع جزءًا من العالم وشعوبه فی آسیا وإفریقیا لأبشع استعمار عرفته البشریة، استعمار ساحق لقیمة الإنسان، ومستنزف وفق أقصى صور الاستنزاف لثروات ومقدرات الشعوب.

 

تقریر وزارة الخارجیة الأمریكیة الذی دان إیران، كان منزعجا لما یسمى بمعاداة السامیة، حیث سجل ما وصفه بتزاید هذه المعاداة إلى ذروتها خلال النزاع فی غزة شتاء 2008 /2009، مصنفا«انتقاد الصهیونیة والسیاسة الإسرائیلیة فی فئة الأشكال الجدیدة لمعاداة السامیة، والتی اجتاز الخط الأصفر لیصل إلى تشویه صورة كل الیهود».

 

نعم لم یستطع التقریر أن یقفز عمّا وصفه بأعمال العنف التی لحقت بالمدنیین فی غزة مشیرا إلى 1400 قتیل من الفلسطینیین سقطوا؛ بینهم أكثر من ألف مدنی، لكن التقریر تجاهل حقیقة أن كل الإجرام الصهیونی ومنذ نشأة الكیان كان بدعم أمریكی، وأن الفیتو الأمریكی كان دوما بالمرصاد لأی قرار أممی یرید إدانة (إسرائیل)، إحقاقا لشیء من موازین القسط فی العلاقات الدولیة.

 

 وصف التقریر لوضع حقوق الإنسان فی إیران بأنه "ازداد سوءا خلال العام الماضی، وخصوصا بعد الانتخابات الرئاسیة"، مردود علیه لیس بحكم الموقف العدائی لأمریكا تجاه إیران، بل بحیثیة الانتخابات التی وردت فی الفقرة الخاصة بإیران، فمعلوم أنه شارك فی الانتخابات 40 ملیون ناخب إیرانی ، ووصلت نسبة المشاركة إلى 85 بالمائة، وهی أعلى نسبة مشاركة فی كل انتخابات العالم، ولا تصل النسبة إلى هذا الحد فی ظل نظام قمعی استبدادی، لأن القمع وهو مظهر صارخ عن خروقات حقوق الإنسان، یجعل إرادة كل شعب تضمر وتنكفئ، وعكس هذا أبانت عنه ملحمة الانتخابات الرئاسیة فی إیران، أما بعد الانتخابات، فیكفی القول؛ أن قادة التمرد لا زالوا أحرارا، وهم یمارسون نشاطهم بإصدار البیانات وبانتقاد النظام والتطاول على ثوابته، ولم نشهد فی أعرق الدیمقراطیات شرطة توزع الورود على من یخرب الممتلكات العامة.

 

أمریكا هذه بكل تاریخها الإجرامی؛ والتی شدت من أزر (إسرائیل) وأمدتها بكل وسائل الدمار، وغطت جرائمها.. أمریكا التی احتلت أفغانستان ولازالت تقترف المجازر بحق المدنیین الأبریاء، واحتلت العراق وقدمت للعالم صور الفظاعة من "أبو غریب"، أمریكا صاحبة إنجاز "غوانتنامو" الرهیب.. لا زالت تتطوع سنویا، لتستفز العالم بتقریر عن وضعیة حقوق الإنسان، بل المثیر للدهشة وللاشمئزاز أیضا هو ما صرّح به "مایكل بوسنر" المكلّف بشؤون حقوق الإنسان فی الخارجیة الأمیركیة حین اعتبر أنّ تقریر وزارته یعتبر الأكمل فی العالم حول وضع حقوق الإنسان! غیر مكثرة لحقیقة أن الحقبة البوشیة مثلت لحظة الانهیار الدراماتیكی لصورة أمریكا الأخلاقیة فی العالم، وأن «التقریر الأكمل» على حدّ وصفه جاء فی الزمن الأمریكی المستنفد سیاسیا وأخلاقیا، وان الدور الآن على أمریكا لكی تخضع للرصد وللمساءلة القانونیة والحقوقیة على جرائمها فی العالم، وقد جاءت المبادرة من إیران الإسلام، حیث صادق مجلس الشورى الإسلامی فی شهر نوفمبر/تشرین الثانی من العام الماضی على تخصیص مبلغ 20 ملیون دولار للكشف عن خروقات حقوق الإنسان التی تمارسها كل من الولایات المتحدة الأمریكیة وبریطانیا فی العالم، وللدفاع عن الهیئات والمنظمات التی تقف بوجه تجاوزات هاتین الدولتین؛ على أن تقوم وزارة الخارجیة الإیرانیة بإعداد ونشر هذا التقریر السنوی فی یوم 4 نوفمبر/ تشرین الثانی من كل عام، وهو التاریخ الذی یصادف یوم مقارعة الاستكبار العالمی فی الجمهوریة الإسلامیة (یوم احتلال وكر التجسس الأمریكی فی طهران).

 

التقریر الأمریكی یعبّر بوضوح على أن الصراع الیوم فی بعض أبعاده؛ هو صراع مرجعیات فكریة وثقافیة، صراع إرادات؛ إرادة القوة والغطرسة، فی مقابل إرادة الحق والعدل والشرعیة، صراع تستعمل فیه أمریكا كل أسالیب الدعایة والتضلیل، وهی ومن خلال هذا التقریر الزائف ترید أن تضمن تفوقها الحضاری، وتتبّث مرجعیة قیّمها المعولَمة، وتمنحها معیاریتها المطلقة باعتبار صدورها عن الظاهرة الكونیة الأكثر أخلاقیة وإنسانیة فی العالم.

لكن مشكلة أمریكا ومأزقها یكمن فی الصورة، الصورة التی تفضحها وتوثق جرائمها، فبین ما تقوله الصورة وما ترید أن تقوله تقاریر الخارجیة الأمریكیة تدلیسا..تكون الغلبة دائما للصورة وللذاكرة أیضا.

 

 

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.