23 October 2012 - 13:53
رمز الخبر: 5363
پ
رسا/آفاق- لقد جسّد الإمام(ع) الذی نعیش الیوم ذکرى شهادته المدرسة الحقیقیّة الرّائدة لأهل البیت(ع)، وهی مدرسة الإسلام، مدرسة العلم والقرآن، ووفد إلیه نتیجة ذلک طلاب العلم من شتّى أصقاع البقاع الإسلامیّة، وأخذ عنه العلم عدد کبیر من المسلمین بشتّى اتجاهاتهم ومیولهم.
الإمام الباقر(ع) ثروة علمیة وفیض روحی

هو الإمام محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب(علیهم السلام)، کنیته أبو جعفر الأوّل، تمییزاً له عن الإمام الجواد(ع) الّذی یُکنّى بأبی جعفر الثّانی، ومن أشهر ألقابه "الباقر"، لتبقّره بالعلم، أی للتوسّع فیه والتبحّر، کدلالةٍ على عمق علومه وغزارتها، وله ألقاب أخرى، ومنها: الشّاکر لله، الهادی، الأمین، وهو الإمام الخامس من أئمّة أهل البیت(علیهم صلوات الله جمیعاً).

وُلِد سنة 57 هجریّة، وقیل سنة 56 أو 58 للهجرة فی المدینة المنوّرة عاصر ستّةً من خلفاء بنی أمیّة، وکان حاضراً(ع) یوم واقعة الطّفّ، وهو فی الرابعة من عمره الشّریف.

توفّی الإمام(ع) على إثر دسّ السمّ له من قبل إبراهیم بن عبد الملک أیّام خلافة هشام بن عبد الملک الأمویّ الّذی أمره بذلک، وکان هذا فی السّابع من شهر ذی الحجّة سنة 114 هجریّة، ودفن فی البقیع فی المدینة المنوّرة.

وبالرّغم من الظّروف السیاسیّة والاجتماعیّة والعقائدیّة الصّعبة والمعقّدة فی عصره، فقد عمل بکلّ تفانٍ على نشر رسالة الإسلام، وصوغ الشخصیّة الإسلامیّة الأصیلة، عبر ربطها بهویّتها، وبناء عقیدتها بناءً إسلامیّاً صحیحاً، واعیاً لدورها ومسؤولیّاتها. وتشهد سیرته المبارکة بما قدّم وضحّى فی سبیل ذلک، من إجاباته عن آلاف الأسئلة، ومناقشاته ومناظراته مع کلّ أتباع المذاهب والتیّارات الفکریّة والعقائدیّة، وروایاته الکثیرة عن الرّسول الأکرم(ص)، بغیة إصلاح الواقع الإسلامیّ ککلّ، فلم یکن همّه الانتصار لمذهب دون آخر، ولم یکن دیدنه ذلک، بل عاش للإسلام، وانطلق عاملاً للإسلام ککلّ، ببصیرة نافذة عالمة بأنّ المجتمع الإسلامیّ هو جسدٌ واحد، وأمانة یجب الحفاظ علیها، وإن توزّعت المذاهب وتفرّقت.

لذا، عمل بکلّ جهده على ردّ کلّ الشّبهات فی أمور الدّین والعقیدة، مبیّناً الوجهة الحقیقیّة لهذه المسائل، ومشیراً إلى عاقبة المنحرفین فکریّاً وعقائدیّاً. ولقد استعمل الإمام الباقر(ع) مع زعماء هذه الفرق والمذاهب أسلوب القرآن، أی الحوار الهادف والبنّاء، ونرى ذلک فی مناظراته مع "النّصارى"، ومع الخلیفة هشام بن عبد الملک الأمویّ، ومع الحسن البصریّ، ومع نافع بن الأزرق؛ أحد رؤساء الخوارج، ومع قتادة البصری، فقیه أهل البصرة.

وکان(ع) یدعو النّاس إلى الأخذ بتعالیم أهل البیت(ع)، وهم المصادر النقیّة للعلم والفکر الأصیل.

لقد جسّد الإمام(ع) المدرسة الحقیقیّة الرّائدة لأهل البیت(ع)، وهی مدرسة الإسلام، مدرسة العلم والقرآن، ووفد إلیه نتیجة ذلک طلاب العلم من شتّى أصقاع البقاع الإسلامیّة، وأخذ عنه العلم عدد کبیر من المسلمین بشتّى اتجاهاتهم ومیولهم، منهم: عطاء بن أبی رباح، وعمرو بن دینار، والأوزاعی، وأبو حنیفة، وابن جریج، وغیرهم کُثُر...

لقد مثّل الإمام الباقر(ع) بسیرته الخالدة، أهمیّة العلم وقداسته فی بناء الشخصیّة وتفاعلها مع هویّتها ودورها، وبالتّالی، تغییر وإصلاح واقعها بالشّکل الإیجابیّ المطلوب عبر مسیرة الزّمن والحیاة، ولطالما رکّز کغیره من آبائه وأولاده من الأئمّة المیامین الکرام، على الأخذ بأسباب العلم ومنابع الفکر الأصیل، فی مواجهة کلّ التحدّیات مهما کان نوعها، وأنّ الإنسان المسلم هو المؤمن الصّابر والواعی الّذی یبحث على الدّوام عن الحقّ والحقیقة، ویعمل بهما.

لقد کانت مدرسة الإمام الباقر(ع)، ولا تزال، شعلةً ومنارةً مضیئةً فی دنیا الرّسالة والإنسانیّة والمعرفة، لأنّها انفتحت على کلّ هموم ومشاکل الواقع والحیاة والإنسان، بالعقل والقلب والسّلوک، بحیث ترکت فی الواقع الإسلامیّ والإنسانیّ ککلّ أثراً إیجابیّاً منتجاً، متّصلاً بمشاغل النّاس وآمالهم فی الحیاة ، فکانت مدرسة العقل والانفتاح.

یقول السید محمد حسین فضل الله(رض) : إنَّ التشیّع فی الإسلام لیس حالةً منفصلةً عن الإسلام، بل هو الإسلام فی کلِّ أخلاقیته، وفی کلِّ إحساس الإنسان بالمسؤولیة عن الإنسان الآخر. عن أبی إسماعیل قال: (قلتُ لأبی جعفر محمد الباقر علیه السلام: جُعلت فداک، إنَّ الشیعة عندنا کثیر، فقال: فهل یعطف الغنیُّ على الفقیر، وهل یتجاوز المحسن على المسئ، ویتواسون؟ فقلت: لا. فقال: لیس هؤلاء شیعة)، لأنَّ الشیعی هو الذی یتحرّک فی خطِّ أخلاقیة الإسلام فی المسألة الاجتماعیة، وهو أن یعطف على الفقیر، ویحسن إلى المسئ، وأن یواسی أخاه بنفسه وماله، فمن لا یفعل ذلک فإنَّه ینحرف عن خطِّ الإسلام، وبذلک ینحرف عن خطِّ التشیّع.

ویحمّل الإمام الباقر علیه السلام لأحد أصحابه، وهو خیثمة بن عبد الرحمن الجعفی، رسالةً یقول فیها: (خیثمة، أبلغ من ترى من موالینا السلام، وأوصهم ـ وهی وصیّةٌ لنا أیضاً، لأننا من موالیه ونلتزم ولایتهم وإمامتهم ـ بتقوى الله العظیم، وأن یعود غنیّهم على فقیرهم، وقویّهم على ضعیفهم، وأن یشهد حیُّهم جنازة میّتهم، وأن یتلاقوا فی بیوتهم ـ أن یتزاوروا ـ فإنَّ لُقیا بعضهم بعضاً حیاةٌ لأمرنا، رحم الله عبداً أحیا أمرنا) بالمزید من التواصل والوحدة والمحبة، والمزید من التذکّر لکلِّ القضایا الحیویّة التی تجمع الجمیع. وأمرُهم علیهم السلام هو الإسلام کلُّه بکلِّ عقائده وشرائعه وقِیَمه وأخلاقه. ویکمل الإمام الباقر علیه السلام: (خیثمة، أبلغ موالینا أنَّا لا نغنی عنهم من الله شیئاً إلاَّ بالعمل، وأنَّهم لن ینالوا ولایتنا إلا بالورع، وإنّ أشدَّ الناس حسرةً یوم القیامة مَنْ وصف عدلاً ثم خالفه إلى غیره).

إن قضیة الولایة لیست نبضة قلب وخفقة إحساس، ولکنّ الولایة تعنی أن توالی الله فتطیعه، وتوالی رسولَ الله صلى الله علیه وآله وسلم فتتبعه، وتوالی أهل البیت علیهم السلام فتتحرّک مع منهجهم فی طاعة الله سبحانه ومع محبته فی ذلک کلِّه.

إنَّ التشیّع لا یمثّل انتماءً شخصیاً لعلیّ وأهل بیته علیهم السلام، وإنَّما یمثِّل انتماءً للخطّ الذی ساروا علیه وعملوا من أجله وجاهدوا فی سبیله، وهو خطُّ الإسلام فی خطِّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم. ویُوضح الإمام الباقر علیه السلام هذا المعنى بقوله لجابر، وهو أحد أصحابه: (یا جابر، أیکفی مَن ینتحل التشیّع أن یقول بحبّنا أهل البیت؟ والله ما شیعتنا إلاَّ مَنْ اتقى الله وأطاعه، وما کانوا یُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وکثرة ذکر الله، والصوم والصلاة وبرّ الوالدین، والتعاهد للجیران من الفقراء وأهل المسکنة والغارمین ـ المدیونین ـ والأیتام وصدق الحدیث وتلاوة القرآن وکفِّ الألسن عن الناس إلا من خیر، وکانوا أمناءَ عشائرهم ـ وهذه القضایا هی أسس التشیّع، لأنَّ التشیّع هو الإسلام کلّه فی خطّه الأصیل ـ حَسْبُ الرجل أن یقول أحبّ علیاً وأتولاّه ثمّ لا یکون مع ذلک فعّالاً، فلو قال إنّی أحبُّ رسول الله، فرسول الله خیرٌ من علیّ، ثم لا یتّبع سیرته ولا یعمل بسنّته ما نفعه حبُّه شیئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، لیس بین الله وبین أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى الله عزَّ وجلّ وأکرمهم علیه أتقاهم وأعملهم بطاعته. یا جابر: والله ما یُتقرَّب إلى الله تبارک وتعالى إلاَّ بالطاعة.. مَنْ کان لله مطیعاً فهو لنا ولیّ، ومَنْ کان لله عاصیاً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولایتنا إلا بالعمل والورع عن محارم الله).
 
فسلامٌ علیه یوم وُلِدَ، ویوم ارتقى إلى الملكوت الأعلى، ویوم یُبعث شاهداً شهیداً.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.