12 August 2009 - 17:37
رمز الخبر: 229
پ
بقلم عبدالرحیم التهامی
المقاومة بین التاریخ والسینما


لعل «المقاومة» الیوم والتی تواجه العدو الصهیونی وتخوض معه صراعا مریرا، وتعمل بكل جهد لتحسین شروط المواجهة على صعید الأمة، بحاجة إلى فرض قراءتها التاریخیة لیس للصراع فحسب، بل قراءتها عن نفسها أیضا؛ لأنّ ثمة قراءة رسمیة ترید ربطها بالإرهاب وبثقافة الموت، وتتهمها بالمجازفة بالأمة فی مغامرات غیر محسوبة، بل علیها أن تكسب معركة الوعی فی الأمة، وهنا تتیح السینما؛ سینما المقاومة؛ حظوظا معتبرة لإحداث الاختراق المطلوب.


عندما تنبعث مقاومة ما وفی أی سیاق تاریخی كان، فإنها تأتی كرد فعل حازم على شرط وجودی لا إنسانی ولا أخلاقی، فتنتفض علیه -أول ما تفعل- بممكنات الوعی والإحساس لما فیه من مخاطر تهدد بسحق الكینونة وبمصادرة مظاهر الكرامة فی كل تعبیراتها، حیث تستظهر الفئة المحتلّة بفائض القوة لدیها لتمارس فعل الاحتلال بما فیه من عنف مادی ورمزی، وبما ینتُج عنه من تقویض وتعطیل لدورة الحیاة الطبیعیة، ومن انتهاك لحق الآخر فی الوجود، ومن تعدّ على سیادته فی أرضه وعلى مقدراته. ولا ثلبت هذه القوة عینها من أن تخضع لإعادة اكتشاف وتمحیص جدلی، فالطرف المستضعَف - وبمنطق الطبیعة- یتأمل  فی قوة عدوّه المحتّل، لاكتشاف عنصر التضخم الزائد فیها ومظاهر الخداع التی أضفیت علیها، ومن خلال مفهومه الخاص والخالص للقوة، ومستكشفا لقوّته الذاتیة فی كل مواطن كمونها فی ثنایا الدین والثقافة والتاریخ، لاستثارتها واختبار فاعلیتها فی إطار الصراع.

 فی لحظة الاكتشاف هذه والاستنفار؛ تنتقل «المقاومة» من دائرة القیّـم المؤسسة والباعثة لها، إلى حیز الفعل فی التاریخ، وبانخراطها فی الصراع عملیا؛ تدخل فی طور الاختبار الصارم لیس فقط لأدائها العسكری والسیاسی، بل وللقیّم والمثل المنتجة لوجودها؛ أو بالأحرى لمبرر وجودها؛ وللمبادئ التی صاغت وتصوغ هویتها.

ولأن التاریخ ملتصق بالحدث لا ینفك عنه، ولنقل بشكل أدق، أن الحدث هو موضوعه لا من حیث أنه حدث متعال ومفارق، بل بما هو معطى ضمن صیرورة من العلل والعوامل والوقائع؛ فكان لا بد من أن یعتنی بالأحداث المفصلیة التی تعدّ بحسب القراءة التاریخیة؛ مفاتیح لفهم التحولات الكبرى فی العالم، خاصة عندما یتعلق الأمر بصراع الإرادات الكبرى وباختبارات القوة على المسرح الإنسانی، ففعالیة التأریخ أنتجت لنا وعیا تاریخیا مشتركا؛ ولا نقول متطابقا؛ لأننا نقف باستمرار على درجة من التغایر فی تفاصیل بعض الوقائع التاریخیة، ونواجه العدید من الإشكالات التی یتصدى لها النقد التاریخی. إلا أن عملیة التأریخ للأزمنة المعاصرة تبدو أبعد من أن تعبث بها الأسالیب غیر النزیهة لمؤرخ السلطان، لتعدد مصادر التأریخ للحدث، وللعدة المنهجیة التی أتاحها تطور العلوم الإنسانیة، ولطروّ التوثیق السینمائی على التأریخ، فمنذ ظهور الكامیرا، صارت الصورة مخزّنة للحدث التاریخی وشاهدة علیه، بل إنّ السینما - كفنّ- استعادت ووفق بناء فنّی وتقنی الكثیر من الأحداث والشخوص الغابرة، وقدمتها للمشاهد ضمن سیناریوهات مذهلة فی تأثیرها، لدرجة أنها تبدو مخلخلة للمواقف والانطباعات المسبقة والمستقاة من النص التاریخی كما هو فی كتب التاریخ.

وإذا كانت السینما مؤثرة فی صیاغة الوعی التاریخی؛ كلما اختارت أن تحكی الحدث التاریخی أو آثرت التركیز على شخصیة من شخوصه الرئیسیة؛ فإنه لا غنى لها - طبعا- عن النص التاریخی، مادة السیناریو الأساس، دون أن یعنی ذلك بالضرورة وفائها لروح النص، لأن للسینما لغتها الخاصة، وأیضا لأن السینما تحوّلت إلى أداة فی الصراع الثقافی والإیدیولوجی، وكمثال على ذلك؛ الأفلام الأمریكیة التی تمحورت حول حرب فیتنام، والتی حاولت أن تبرر الحرب من الناحیة الأخلاقیة، وتشد العصب القومی الأمریكی بنزعة شوفینیة مفرطة من خلال مشاهد الجثث الممزقة للقرویین الفیتنامیین، وإن كان الإنصاف ینحو بنا إلى تسجیل بعض الاستثناءات على هذا الاتجاه، من قبیل بعض الأعمال السینمائیة المتوازنة كما فی فیلم «فیتنام عام الخنزیر» للمخرج الأمریكی إمیل دوی.

ولعلّ «المقاومة» الیوم، والتی تواجه عدوّا صهیونیا شرسا وتخوض معه صراعا مریرا، وتعمل بكل جهد لتحسین شروط المواجهة على صعید الأمة، بحاجة إلى فرض قراءتها التاریخیة لیس للصراع فحسب، بل قراءتها عن نفسها أیضا؛ تشكّلا ومسیرةً وشخوصا وانجازات، لأنّ ثمة قراءة رسمیة ترید ربطها بالإرهاب وبثقافة الموت، وتتهمها بالمجازفة بالأمّة فی مغامرات غیر محسوبة، بل علیها –أی المقاومة- أن تكسب معركة الوعی فی الأمة. وهنا تتیح السینما؛ سینما المقاومة؛ حظوظا معتبرة لإحداث الاختراق المطلوب لسینما الضحالة المخدّرة للوعی الجماهیری، ولتشید بموازاتها؛ ولو مرحلیا؛ ثقافة المقاومة. وإذا كان التاریخ یقدم لنا السرد المتتالی للوقائع والأحداث، أی أنه یقدم المعلومة ویضیء على منابع الانتماء للفرد وللجماعة، فإن «السینما» تسهم بشكل مؤثر-كلما تمكّن المخرج من أدواتها- فی صیاغة الرؤیة الثقافیة وفی التأثیر على المواقف والاختیارات، وتسهم بفعل قدرتها على مخاطبة المخزون العاطفی، على التعبئة الشعبیة الواعیة.

وفی هذا الإطار لا یمكن وضع خطوة مشروع رسالات«الجمعیة اللبنانیة للفنون» بإنتاج فیلم «أهــل الوفا»، من إخراج المبدع الــسـوری نجدت أنزور، إلا فی هذا الإطار؛أی الوعی بالكامیرا كأداة فی الصراع والاستنهاض؛ والفیلم مقتبس عن قصة حقیقیة لإحدى العملیات البطولیة التی نفذتها المقاومة الإسلامیة قــرب جسر الخردلی عام94. الأمر نفسه یصدق على الخطوة المهمة لـ«شبكة الأقصى الإعلامیة» التابعة لحركة «حماس»، والتی أنتجت فیلما روائیا عن الشهید الأسطورة «عماد عقل» الذی اغتالته قوات الاحتلال فی تشرین93 بعد ثلاثة سنوات من المطاردة، وهو الفیلم الذی ساهم فیه عضو المكتب السیاسی لحركة «حماس» الدكتور محمود الزهار بكتابة السیناریو، وأخرجه المخرج الفلسطینی ماجد جندیة، ویعدّ هذا العمل الأول من نوعه فی مجال العمل السینمائی بقطاع غزة.

فهل الصدفة وحدها كافیة لتفسیر هذا التزامن فی إنتاج فیلمین للمقاومتین اللبنانیة والفلسطینیة، أم هی القناعة بمزواجة البندقیة بالسینما، لأن التحدی أكبر من أن یحسم فقط بالسلاح.

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.