15 October 2012 - 23:53
رمز الخبر: 5308
پ
رسا/آفاق- فی ذکرى شهادة الامام الجواد علیه السلام نفتح نافذة على سیرة هذا الامام الذی طبع زمانه بحضوره العلمی وکان آیة من آیات الولایة، ومع العلامة السید حسین فضل الله أعلى الله مقامه، نعرج الى بعض بؤر النور فی شخصیة إمامنا الشهید(ع)، نقتبس من المسیرة ونتعرّف على النهج فی أفق إتباع واقتداء یقربنا من معانی التولی.
فی ذکر شهادة الامام الجواد(ع)

 

 

القمة فی الحكمة والعلم والأدب

 

یقول الله سبحانه وتعالى فی كتابه المجید: {إنّما یرید الله لیذهب عنكم الرجس أهل البیت ویطهّركم تطهیراً}، من أهل هذا البیت، الإمام محمد بن علی الجواد الذی تصادف ذكرى شهادته فی هذه الأیام من ذی القعدة، وهو من أصغر الأئمة(ع) فی العمر الزمنی، إلا أنه مع صغر سنه الذی یلتقی مع صغر سنّ یحیى(ع)، كان یمثل ما یشبه المعجزة البشریة، {وآتیناه الحكم صبیاً}، فقد كان ذلك فی المجتمع الذی یحكمه بنو العباس الذین اضطهدوا الأئمة(ع) بمختلف أنواع الاضطهاد، حیث كانوا یخافون على ملكهم منهم، لأن الأئمة(ع) كانوا یملكون الثقة الكبرى لدى المسلمین من مختلف المذاهب والاتجاهات، سواء كانوا ممن یقولون بإمامتهم، أو ممن لا یقولون بها.

 

لكن هذا الإمام تمیّز بالعلم الواسع الغزیر الذی تفوّق به على كثیر من علماء عصره، حتى إنّ الخلیفة العباسی آنذاك، المأمون، الذی كان من الخلفاء المثقفین؛ كان یقدّره ویعظّمه تعظیماً كبیراً، كما ینقل الشیخ المفید رحمه الله فی كتاب الإرشاد، قال: كان المأمون قد شغف بأبی جعفر ـ وهذه كنیة الإمام الجواد ـ لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه فی العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم یساوه فیه أحد من مشایخ أهل الزمان، من علمائه، وزوّجه ابنته أمّ الفضل متوفراً على إكرامه وتعظیمه وإجلال قدره.

 

وبلغ من تعظیم هذا الخلیفة للإمام الجواد بعد أن زوجه ابنته، أن اجتمع كل أفراد عائلته من العباسیین، وخافوا أن یجدد المأمون ما بدأه من تولیة العهد لأبیه الإمام الرضا(ع)، ما یجعل الخلافة تنتقل من بنی العباس إلى بنی علی(ع)، وعاتبوه على ذلك، ولكن المأمون قال لهم، لقد عرفت من فضل هذا الشاب ومن علمه ما جعلنی أعظّمه، فقالوا له: فهلا تركته وهو صغیر السن یتعلم ویتثقف ویتأدب لیبلغ ما بلغ قبل أن تعطیه هذه الكرامة وهذا الشأن الكبیر، ولكنه قال لهم: إن هذا من أهل بیتٍ علّمهم الله سبحانه وتعالى وألهمهم.

 

واتّفق القوم بعد ذلك على أن ینصب له المأمون مجلساً ویدعو فیه كبیر القضاة، یحیى بن أكثم، لیسأل الإمام الجواد(ع)، الأسئلة التی ربما یریدون من خلالها أن یظهر عجزه... وهكذا كان، وجیء بالإمام الجواد(ع) وبدأ كبیر القضاة یسأله، ولكنّ الإمام الرضا(ع) فرّع مسألته إلى عدة مسائل، حتى أعجز هذا القاضی الكبیر عن الجواب وتحیّر، ثم طلب منه المأمون أن یفصّل ما سأله إیّاه قاضی القضاة، ففصّله الإمام(ع)، وسلّم الجمیع بعلمه وفضله وتفوقه على علماء زمانه، بالرغم من صغر سنه.

 

وهكذا رأینا أن المجتمع من حوله كان یقبل علیه ویسأله عن كلِّ ما أهمّه، وكان الإمام(ع) یبیّن لهم ذلك، حتى سلّم الجمیع بفضله فی هذا المجال.

 

الولایة لله فی السرّ والعلانیة

 

ونحن فی هذا الموقف، نحاول أن نختار بعض كلمات الإمام(ع)، سواء فی الموعظة أو فی الجانب الاجتماعی السلوكی، من خلال بعض كلماته التی قالها وهو ینصح بعض أصحابه: "لا تكن ولیاً لله فی العلانیة وعدوّاً له فی السرّ". فالإمام(ع) أراد من خلال هذه الكلمات، أن یعالج حالة أولئك الذین یظهرون أمام الناس بمظهر الأتقیاء المؤمنین، سواء فی عباداتهم أو فی كلماتهم أو فی علاقاتهم، لكنهم فی الوقت نفسه عندما یعیشون السریة فی حیاتهم، فقد تجدهم أعداء لله، كأولئك الذین یظلمون أسرهم، ویظلمون الناس الذین هم تحت سلطتهم، أو كأولئك الذین یفتنون ویكذبون فی السر، بحیث یظهرون للناس بمظهر الأتقیاء، ولكنهم فی السرّ یعیشون عیشة الأشقیاء، الذین لا یتركون ذنباً إلا أذنبوه، ولا یتركون أحداً إلا ظلموه.

 

وفی كلام آخر یتحدث فیه الإمام(ع) عن الناس الذین یستمعون إلى بعض الخطباء أو بعض الوعّاظ وینجذبون إلیهم ویأخذون ما یتحدثون به من دون تفكیر، بحیث إنهم یسلّمونهم عقولهم من دون أن یفكروا فی طبیعة هذا الخطیب أو ذاك، فی علمه، فی ثقافته، فی استقامته، یقول(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده"، فهو یعنی أن الإصغاء والتسلیم لمن یتكلم هو نوع من أنواع العبادة، لأن العبادة تمثل غایة الخضوع ـ فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله ـ فإذا كان كلامه هو كلام الله فإنه قد عبد الله فی إصغائه إلیه ـ وإن كان ینطق عن إبلیس فقد عبد إبلیس"، لأنه خضع له بكلیّته وانجذب لكلماته.

 

خصـال المؤمن

 

وهكذا یتحدث الإمام عن الصفات الأساسیة للمؤمن، بقوله: "المؤمن یحتاج إلى توفیق من الله ـ أن یوفقه الله للحق وللخیر وللالتزام الدینی، وأن یفتح قلبه على ذلك كله ـ وواعظ من نفسه ـ بمعنى أنه لا یحتاج إلى واعظ من الخارج، بل یحاسب نفسه ویعظها بالتأمل والتدبر والتفكیر، حتى تعرف نفسه من خلال تأملاته ومجاهداته، ما ینبغی لها أن تفعله، وما ینبغی لها أن تتركه ـ وقبول ممن ینصحه"، أن یستمع النصیحة من الناصحین الذین یملكون الخبرة والمعرفة والإخلاص، فیفتح عقله لهم، لیفكر فی ما ینصحونه به، ویتقبّل ذلك عندما یرى الخیر فی هذه النصیحة، لأن الإنسان المؤمن لا بد له من تجدید نفسه بما یصلحها، وأن یغیرها فیما إذا كانت تسیر فی اتجاه لیس من مصلحتها، ولهذا یقول تعالى: {إن الله لا یغیّر ما بقوم حتى یغیّروا ما بأنفسهم}.

 

وأیضاً، مما قاله لرجل استوصاه، قال له: "أوَتقبل؟ قال: نعم، قال: "توسّد الصبر ـ كن الإنسان الصابر على ما یواجهك من النوائب والمصائب والتحدیات، ونحن نعرف أن الصبر لا یعنی الاستسلام من دون تفكیر، ولكن الصبر هو أن لا یسقط الإنسان أمام المشكلة، بل أن یتحمل كل مفاعیلها المؤلمة، لأن هناك من الناس من یجزعون عند المصائب ویسقطون أمام المشاكل، لأنهم لا یتحملون آلام المصیبة، ولا یتحملون النتائج السلبیة للمشكلة، لذلك فهم لا یتماسكون، بل یسقطون أمامها.

 

أما الإنسان الصابر، فهو الإنسان الذی یحكّم عقله، لیدرس المشكلة ولیدرس المصیبة، ولیخطّط كیف یواجهها، وكیف یحتویها، وكیف یتجاوزها بالإرادة الصلبة، فهذا ما یمكن أن یحقق له النجاح فی الدنیا والآخرة.

 

ـ واعتنق الفقر ـ إذا جاءك الفقر فلا تسقط نفسك أمامه، بأن تبذل نفسك لمن یذلّك، ولا تتنازل عن مبادئك وعزتك وكرامتك وحریتك نتیجة المغریات التی یقدمها الآخرون فی حالة فقرك، بل حاول أن تعتنق الفقر، وتعمل حتى تتجاوزه ـ وارفض الشهوات ـ لأن الشهوات تنطلق من عمق الغرائز، وعلى الإنسان أن یجعل عقله أقوى من غریزته وأقوى من شهوته، لأن الله لم یمنع الإنسان من شهوة، ولكنه أراد له أن لا تطغى شهوته على عقله، وأن لا یسقط مصیره أمام أهوائه. {أرأیت من اتّخذ إلهه هواه} ـ واعلم أنك لا تخلو من عین الله ـ فالله یراقبك فی كل كلماتك، وفی كل أعمالك، فی خلوتك، فی حیاتك مع الناس، فی بیتك، كیف تتعامل معهم، وكیف تقوم بمسؤولیاتك تجاههم، ویراقبك فی عملك كیف تتقنه، وكیف تخلص له، ویراقبك فی مواقفك، كیف تتخذها؛ هل تتخذها من خلال اقتناعك وإیمانك، أم تتخذها من خلال شهواتك ومطامعك؟ والله یراقبك حتى فی حركة فكرك وفی ما تنطلق به نوایاك ویراقبك فی عواطفك؛ هل تتحرك مع الحق أم مع الباطل. وهكذا یراقبك الله فی كلماتك، فقد قال تعالى: {ما یكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم}، فهو یعلم خائنة الأعین وما تخفی الصدور، واعلم أنك لن تخلو من عین الله، فانظر كیف تكون.

 

وهكذا ینطلق الإمام(ع) لیتحدث عن الإنسان فی الحیاة، كیف یتحرك بالمعروف؛ المعروف فی الكلام والعمل، وفی الموقف. یقال "إن للجنة باباً یقال له باب المعروف، لا یدخله إلا أهل المعروف".

 

وقد قال لأِحد أصحابه عندما سأله عن مسألة القسم، بأنّ الله یقسم فی القرآن باللیل {واللیل إذا یغشى} ویقسم بالنهار {والنهار إذا تجلّى}، وهكذا یقسم بالنجم {والنجم إذا هوى}، فقال(ع): "إن لله أن یقسم من خلقه بما یشاء، ولیس لخلقه أن یقسموا إلا به"، فالإمام یوجه الناس إلى أن القسم یمثل الإحساس بالعظمة لمن تقسم به، وعلى الإنسان أن لا یقسم إلا بالله، لیشعر بمعنى التوحید لله، لأنه إذا أراد أن یؤكد شیئاً فعلیه أن لا ینظر إلاّ إلى الله، لأن الأمور هی بید الله سبحانه وتعالى لا بید غیره، ولأن الرقابة العلیا هی رقابة الله على الإنسان، لا رقابة غیره.

 

المؤمن لا یخون

 

وورد فی الحدیث عنه(ع) فی الجانب الاجتماعی والسیاسی: "إن المؤمن لا یخون"، وقد وردت هذه الكلمة جواباً عن سؤال شخص، قال له إنی رجل أرید أن ألازم مكة والمدینة وعلیّ دین، قال له(ع): "ارجع إلى مؤدّی دینك وانظر أن تلقى الله ولیس علیك دین فإن المؤمن لا یخون". فالمؤمن علیه أن یفی بكل التزاماته، والدین هو عهد التزام، فإذا كنت تهمل دینك وتنكره تحت أی تأثیر من التأثیرات، فإنك بذلك تكون خائناً للأمانة، لأن الدین أمانة، حیث لا فرق بین أن تستدین المال من شخص وتتصرف به، وبین أن تضعه فی الخزانة وتحفظه له من ناحیة الأمانة، حیث أعطاك هذا الإنسان ثقته، وهو یرید أن یساعدك، فاعتبرك أمیناً على ماله لترجع إلیه هذا المال فی الوقت المناسب.

 

والله تعالى یقول: {یا أیها الذین آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وقد ورد أنه "لا دین لمن لا أمانة له". لذلك یحاول الإمام(ع) فی هذه الكلمة أن یوضح فكرة، وهی أن المؤمن لا یخون. وعلیه، أحب أن أنبه إلى مسألة موجودة فی بلاد الاغتراب وغیرها، وهی أن یستقرض شخص مالاً، حیث تسمح له القوانین بالاستقراض، وهذا حال الكثیرین، فبعد أن یستقرض المال یأتی إلى بلاده وهو یتصور أنه لا یتوجب علیه أن یعید هذه الأموال، وخاصّة أن البعض یحصِّن موقفه ببعض الفتاوى، بحجة أن هؤلاء لیسوا مسلمین، وبالتالی فإن الاستیلاء على أموالهم مباح، ولذلك نقول إن هذا مخالف للشرع ولتعالیم الإسلام، والله تعالى یقول: {لا ینهاكم الله عن الذین لم یقاتلوكم فی الدین ولم یخرجوكم من دیاركم أن تبروهم وتقسطوا إلیهم إن الله یحب المقسطین}. وهذا ما ینطبق على الذین یعلنون إفلاسهم وهم فی الحقیقة عكس ذلك، {لیأكلون أموال الناس بالباطل}.

 

وهناك أنواع أخرى من الخیانة، وهی خیانة الوظیفة، حیث یؤتمن الموظف من قبل صاحب العمل، ثم یستغلّ هذا الموظف موقعه لیحابی فلاناً أو فلاناً، ویرتب الأمور على خلاف الوظیفة، فهذا خائن لوظیفته، لا سیما إذا كانت وظیفة عامة تتعلق بقضایا الناس وأحوالهم وما إلى ذلك.

 

وفی كلمة للإمام الجواد(ع) یقول فیها: "كفى بالمرء خیانة أن یكون أمیناً للخونة"، بمعنى أن یساعد الخونة ویدعمهم، ویغطی خیانتهم، وینفذ مخططاتهم، لأن الله لا یرید للإنسان أن یكون خائناً بشكل مباشر أو غیر مباشر، لأن الذی یساعد الخونة ویدعمهم ویؤیدهم، یتحمّل الجزء الكبیر من خیانتهم، سواء كانوا خونة فی الدین أو فی السیاسة أو فی الاجتماع أو ما إلى ذلك، لأنه لو لم نساعدهم نحن لما وصلوا إلى هذه المراحل من القوة.

 

وهذا ما ینطبق أیضاً على الطغاة والخونة، ممن تعطی لهم الثقة، فیتم انتخابهم فی مختلف المواقع، فأنت عندما تعطیهم صوتك، فإنك تصبح شریكاً لهم فی الجریمة.

 

وعلى هذا الأساس، یجب أن نجری حساباً فی كل صوت نعطیه أو فی كل كلمة نقولها، لأنّ هذا الصوت لیس مجرد صوت نضعه فی صندوق اللعبة السیاسیة أو الاجتماعیة، بل هو صوت نضعه فی جوهر المسؤولیة، والله سوف یسألنا عنه بحسب النتائج السلبیة أو الإیجابیة {یوم تأتی كل نفس تجادل عن نفسها} {وقفوهم إنهم مسؤولون}.

 

ولذلك، یجب أن یكون تأییدنا أو رفضنا له مبنیاً على أساس رضا الله، {وكلهم آتیه یوم القیامة فرداً}، فإذا كان هذا التأیید مرتكزاً على الأمانة أمام الله وأمام الناس، فسنحاسب حساباً یسیراً، وإذا كان تأییدنا مخالفاً لما یریده الله ورسوله وما یتفق مع مصلحة الناس، فسوف نحاسب حساباً عسیراً. لذلك فانظر كیف تطلق كلمتك، وأین تضع صوتك، وكیف تعطی قوتك لأی شخص، لأن القضیة هی أنك سوف تقف {یوم لا تملك نفس لنفس شیئا والأمر یومئذ لله} {یوم لا ینفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سلیم}.

 

هذه تعالیم أئمة أهل البیت(ع)، وهی تعالیم الإسلام الأصیل، تعالیم رسول الله(ص)، {وقل اعملوا فسیرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.