18 October 2009 - 15:23
رمز الخبر: 905
پ
رسا / مقالات - لعل نجاح مسلسل«یوسف الصدیق» قد لا یکون وبالمعاییر الفنیة فاجأ فریق العمل المقتدر، لکن المفاجأة کانت فی حجم الإقبال على مشاهدة المسلسل، وعلى هذا الأساس حاولنا جزئیا أن نضیء على بعض دوافع هذا الإقبال الجماهیری، کمدخل لمزید من البحث حول اتجاهات الدینامیة الدینیة فی المجتمع العربی. بقلم عبدالرحیـــم التهــامی
مسلسل «یوسف الصدیق» یصنع الحدث الفنی ویکشف عن إمکانات الإبداع الرسالیة

إن النجاح الذی حققه المسلسل «یوسف الصدیق» للمخرج الإیرانی الکبیر فرج الله سلحشور؛ خاصة فی بثه الرمضانی على قناة "المنار"؛ یدفع بأسئلة الإبداع إلى الواجهة، ویکشف من جهة أخرى على أن الذائقة الفنیة للمتلقی العربی عنیدة وآبیة على المسخ، وأنها لم تفقد الإحساس بکل ما هو أصیل وجمیل ومبدع..نقول هذا الکلام ونحن نستحضر حجم الضحالة والابتذال والمیوعة والسوقیة؛ التی یروج لها بعض الإعلام العربی الرسمی وغیر الرسمی، فی محاولة لاغتیال الذوق السلیم وتحویل الإنسان العربی إلى کائن مبلّـد، غارق فی الحس ومتحلل من کل التزام قومی أو وطنی، لا نشک فی أن ثمة مؤامرة على الإنسان العربی، لتسطیح وعیه وإفراغه من کل قیمة إیجابیة، وتکفی إطلالة واحدة على ما تبثه الأقمار الصناعیة من قنوات؛ برأسمال خلیجی؛ لیقف المرء على حجم الاستثمار فی مشروع القتل المعنوی والتصفیة الأخلاقیة للإنسان العربی، والذی تقوم به بعض الأطراف بالوکالة لمصلحة العدو الصهیونی ولمصلحة القوى الاستکباریة التی لا ترید لأمتنا أن تنهض، ولا ترید لنا أن نوظف الإعلام والمشروع الإعلامی فی تنمیة مجتمعاتنا، ولتجسیر الهوة بیننا وبین الدول التی تتفوق علینا وبفارق کبیر فی الکثیر من المجالات.
من مظاهر نجاح مسلسل «یوسف الصدیق»؛ والتی سنعود لاستقراء دلالاتها دینیا وسوسیولوجیا ما حصل فی کل الأقطار العربیة من نسب مشاهدة عالیة جدا وغیر مسبوقة، ففی المغرب على سبیل المثال، ساعد توقیت بث "المنار" للمسلسل؛ والذی کان فی المغرب متزامنا مع اجتماع المغاربة على مائدة الإفطار؛ ملایین المغاربة على مشاهدة حلقات المسلسل بحسب تقدیرات بعض الصحف المحلیة، لدرجة - وبحسب نفس المصادر دائما- فإن کثیرین ومن فرط التفاعل والانشداد إلى وقائع المسلسل؛ لم یطیقوا صبرا، وحملهم الانبهار على تخطی التسلسل الیومی لقصة یوسف علیه السلام فبادروا إلى تنزیل المسلسل من بعض مواقع الانترنت، أو لشراء أقراص مضغوطة لمشاهدته وفق إیقاع أسرع.
مسلسل «یوسف الصدیق» جعل المشاهد العربی بشکل عام یشیح بوجهه عن المسلسلات الأخرى المعروضة والتی لا تخدم إلا الفرجة والتسلیة، هذا إن أحسنا الظن ببعضها على الأقل، ولعل ارتکاز البناء الدرامی للمسلسل على واحدة من أشهر القصص القرآنی، فی أبعادها الإنسانیة والإیمانیة والتاریخیة، ولتجلّی عناصر الابتلاء فیها من خلال الحسد والإغواء الجنسی والکید النسوی.. ومن تمّ السجن، إضافة إلى تیمة العشق فی تجربة "زلیخا"، والتدبیر الاقتصادی لیوسف(ع).. کل ذلک مجتمعا أعطى مشروع المسلسل فرصة أولیة فی النجاح، وهی الفرصة التی أبدع فریق العمل الإیرانی على استثمارها بمهنیة عالیة شهد له بها کل النقاد، مستفیدا- أی فریق العمل- من الإمکانات السینمائیة التی طورتها التجربة الإیرانیة على طول ثلاثة عقود من انتصار الثورة الإسلامیة، فالسیناریو وحده والذی أعدّه فریق مختص جاء فی 1800 صفحة مستخلصة من حوالی 8000 صفحة أحاطت بقصة نبی الله یوسف (ع) من کل الأبعاد ومن المصادر الإسلامیة فی التاریخ والتفسیر والحدیث، من دون تحیز مذهبی، ولا نرید هنا الحدیث عن الجوانب اللوجستیة کالدیکور والملابس والقریة السینمائیة، فهذه متطلبات أساسیة لنجاح أی عمل سینمائی، لکن الأساسی فی تقدیری، أن جو الحریة والالتزام الذی أشاعته الثورة الإسلامیة، والدینامیة الجدیدة التی فجـّرتها فی کل مفاصل المجتمع الإیرانی؛ هی التی ومن خلال سنـّة التراکم، أرتقت بالسینما الإیرانیة وبکل مجالات الفن والإبداع الأخرى إلى مصاف العالمیة، وجعلت من المجتمع الإیرانی مجتمعا حیّا یصنع مصیره بنفسه، ویضع خرائط مسیرته الحضاریة اعتمادا على قوته الذاتیة، فالإبداع لا ینمو إلا بشرط الحریة، أو بالأحرى التحرّر بما هو إحساس جمعی ما أن یغمر المجتمع حتى یستنفر کل طاقات الإبداع الکامنة فیه.
إذا ووفق المعاییر الفنیة والإبداعیة، فالمسلسل وبفعل دقة الإعداد والمتابعة والخبرة المتراکمة، استطاع أن یتخطى الکثیر من التحدیات، فالسیناریو خال من نزعة الأسطَرة التی تحف -عادة- بکل عمل إبداعی ینطلق من واقعة تاریخیة؛ خصوصا إن کانت دینیة، حتى مع إقرارنا فنیّا بأن مقتضیات العمل الإبداعی تتطلب الإضافة واللجوء إلى المتخیل، لکن الخیال فی هذا المسلسل جاء محسوبا ومنضبطا للخطوط العریضة التی رسمها النص القصصی، وتمت الاستعانة بالمادة التاریخیة والحدیثیّة المعتبرة لملأ التفصیلات التی أحجم عنها القرآن سیرا على أسلوب التکثیف فی عرضه للقصص القرآنی، کما أن السیناریو وُفقّ فی تعاطیه مع عنصر الزمن، لیس على مستوى التحقیب فحسب، بل على مستوى تتالی الحدث، وبناء آلیات انتقال سلسة من دون قطائع فجائیة وصارمة، ودونما الوقوع فی حد الإطالة والتمطیط، أو السقوط فی الحد الآخر أی فی الابتسار والاختزال، وهی بحق معادلة صعبة تمثل عقدة الإخراج الکبرى، ولا ینجح فیه إلا کل عتید من المخرجین.
هذا فی ما یتعلق بالعمل الفنی، وإن کان عمل بهذا الحجم یحتاج إلى مقاربة نقدیة أکثر عمقا وإحاطة، بل ولأکثر من مقاربة للکشف عن قیمته الفنیة وتجلیّة عناصره الجمالیة، لکن الغرض لم یکن سوى الإمساک بلحظة التفاعل بین العمل وعنصر الجمالیة فیه - والجمالیة هنا مستوعبة للقیمة الأخلاقیة فی المسلسل- والإقبال المنقطع النظیر للمشاهد العربی على هذا العمل، والذی أثار حنق الجهات الإعلامیة الرسمیة، واستفز غلاة السلفیة الذین لا یؤمنون بأی قیمة جمالیة ولا یستطیعون إلیها سبیلا، وراعهم أن تتألق إیران سینمائیا وأن تُحدث ما اعتبروه اختراقا شیعیا للواقع السنّی من خلال الکامیرا، فکالوا الاتهامات للمسلسل، ونابذوه بالعداوة فی مواقعهم على الانترنت، وحاولوا ثنی المواطن العربی عن مشاهدته بسلاح الفتوى، ولم یجدوا غضاضة فی الافتراء وذلک بتلبیس المسلسل الذی یحکی سیرة قرآنیة لواحد من أنبیاء الله؛ بعضا من اللبوس المذهبی افتئاتا منهم على الحقیقة والإبداع.
أما عن المقاربة السوسیو/دینیة لظاهرة الإقبال على المسلسل، فلا یمکن أن نغفل أن ذروة هذا الإقبال حصل فی شهر رمضان الأخیر، ولیس فی هذا إشارة لظرفیة الإقبال، بل مجرد استحضار للجو الروحی السائد فی شهر رمضان ولهیمنة المناخ القرآنی فیه، وهذا عامل لا یمکن تخطیه، ولعل السیاق الثقافی العام الذی یمر منه العالم العربی والذی یمکن وسمه بزمن استعادة الهویة الدینیة والمصالحة مع الذات، وهی عودة واعیة، یساعد فی التحلیل، فقد سمحت العولمة بالاستکشاف الإعلامی للغرب والوقوف على صورته وحقیقته وممکناته الأخلاقیة والقیمیّة، وکان من نتائج هذا الاستکشاف - فی زوایا القریة الکونیة الصغیرة- أن صُعق المواطن العربی من حقیقة أن هذا الغرب وعلى الصعید الأخلاقی والقیمی فی حالة تصحّر متقدمة، وبالنتیجة تهاوت صورة الغرب أمامه إلا ما صلح من أمره فی بعض مجالات التدبیر السیاسی والحقوقی..فکان أن ارتسمت أمام قطاع عریض من الشباب ومن المثقفین مسالک العودة إلى الذات.
نحن إذا أمام حالة عود إلى الدین وإلى منظومة القیم، وهذا ما یفسر هذه الانتعاشة فی التعبیرات الدینیة والتی تتمظهر فی انتشار التصّوف، واتساع دائرة التشیع، وطبیعی أن لا تشذ الظاهرة السلفیة عن هذا السیاق وهی التی تستثمر إمکانات مالیة هائلة لتقدم نفسها کحاضن دینی وکممثل شرعی ووحید عن السلف، ومن هنا أی من طبیعة سیاق الهویة وأسئلتها؛ یفهم هذا الإقبال على الفضائیات الدینیة، وعلى الکتاب الإسلامی، والمواقع الدینیة على شبکة الانترنت، وهو إقبال یظل نسبیا بلحاظ نسبة الأمیة فی العالم العربی، من هنا یبقى الامتیاز للفیلم السینمائی والمسلسل التلفزیونی، والذی یتوجه لأوسع الشرائح والفئات، وفی هذا السیاق بالذات یمکن فهم نجاح المسلسل الإیرانی، بوصفه منتجا دینیا وعلى مستوى راق من الجودة.
لا یمکن أن نغفل هنا عنصر الذاکرة، فالانطباع الجید الذی خلفته مسلسلات إیرانیة سابقة کمسلسل "أصحاب الکهف" ومسلسل "مریم العذراء"، هیأ لهذا الإقبال، وحیثیة الانفتاح على المنتَج الإیرانی الحامل لبصمة الثوریة والإسلامیة لا یمکن استبعادها فی محاولة التفسیر هذه.
وبکلمة فإن نجاح المسلسل بالمعاییر الفنیة قد لا یکون فاجأ فریق العمل المقتدر، لکن المفاجأة کانت فی حجم الإقبال على مشاهدة المسلسل، وعلى هذا الأساس حاولنا جزئیا أن نضیء على بعض دوافع هذا الإقبال الجماهیری، کمدخل لمزید من البحث حول اتجاهات الدینامیة الدینیة فی المجتمع العربی.
لقد کشف مسلسل «یوسف الصدیق» عن الأدوار المتقدمة التی یمکن أن یقوم بها الفن السینمائی، سواء لجهة الارتقاء بالحس الجمالی فی الأمة، أو لمقدرته السلسة على الضخ القیمی والأخلاقی بما یسهم فی ترمیم الشروخ والثقوب التی طالت صورتنا الحضاریة، أو على صعید التعبئة فی سیاق المعرکة المفتوحة مع العدو الصهیونی، فالکامیرا الملتزمة - وقد نجحت فی المحک- هی الآن فی قلب أکبر الرهانات معاصرة، رهان الهویة والتحریر.
وللذین شنعّــوا على هذا العمل الکبیر نقول: هاتوا بضاعتکم إن کنتم مبدعین.

ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.