ألقى السيد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"في الأسبوع الماضي دخلت سوريا في اختبار نجاح أول بنود التفاهم الدولي، وذلك عبر الهدنة التي تم إعلان الالتزام بها من قبل عموم الأطراف. ومع أننا كنا نتمنى أن تكون الهدنة ثمرة جهود إسلامية وعربية من دون حاجة إلى قرارات خارجية، فإن ما نتمناه أن تتوج بحل سياسي يعمل على تغليب إرادة التسوية، لا في سوريا فحسب، وإنما في البحرين الذي نعتقد أن تاريخه يشهد بقابليته لأن يشكل نموذجا مميزا في العيش الواحد، وكذلك في اليمن الذي يمثل بعراقة تجربته في الوحدة الداخلية جسر العبور لأي تقارب بين المسلمين. ومع الأسف نالت الفتنة من هذا وذاك".
أضاف: "إننا ندعو الله تعالى أن تكلل الجهود بما يطوي نهائيا صفحة الحرب التي أرهقت الجميع، وأفرزت الكثير من التداعيات التي ينبغي أن تكون محط اهتمام جاد وبالغ في المستقبل، لا على صعيد إعادة إعمار ما تهدم من منازل ومصانع ومرافق فحسب، وإنما على صعد مختلفة تفوق ذلك أهمية وخطورة، نشير إلى بعضها:
- إعادة ترميم النفوس المدمرة تحت تأثير الشحنات المذهبية ذات التوترات العالية، والتي أسست لمناهج في إنتاج العداوة والبغضاء، والتي تحولت إلى بنى مؤسسية في الخطاب الديني والثقافي والإعلامي.
- إعادة إنتاج صورة الحركات الإسلامية التي أصابتها تشوهات كبيرة. وبغض النظر عن الحق والباطل في ذلك، إلا أن هذا الأمر بات يؤثر سلبا على صورة الإسلام في ذهنية الجماهير، وعلى قدرته على قيادة المجتمعات والدول، وعلى الثقة بإمكانية الارتقاء بالتجربة الإسلامية السياسية إلى مواقع الريادة. ولقد عززت الوقائع في السنوات الأخيرة من فكرة أن الحركات الإسلامية هي الأكثر حضورا في وجدان شعوب المنطقة، وأن ترك الأمور على عواهنها في التجارب الماضية يمكن أن يترك فراغا هائلا، يمكن أن ينعكس ضياعا في الخيارات لدى تلك الشعوب.
- إعادة التفكر في البنى المنتجة للخطاب الديني أو مناهج إعداد رجال الدين؛ لأنه قد بات من الواضح أن الجمود على قواعد أنتجها السلف أو المشهور بات لا يرضي المعايير العقلية والعلمية ولا المصالح العليا للأمة أو وحدتها، ولا يجيب على كثير من الإشكاليات المستجدة في ذهن الشباب الذي بات أكثر وعيا وتعليما وأكثر اطلاعا وأكثر انخراطا في مقاربة الأفكار الدينية تحليلا ونقدا.
- ترميم العلاقات بين الدول العربية والإسلامية، لا على المستوى السياسي فحسب، وإنما في إيجاد أرضية وقواعد حقيقية للتعاون المشترك وحل النزاعات في المستقبل. ولعل ما هو المطلوب - في موازاة ذلك - إعادة تصويب ميزان العداوة والصداقة؛ لأن واحدة من الإفرازات الخطيرة للفتنة المذهبية هو قلب الموازين، فأصبحت إيران المسلمة العدو الأكثر خطورة على المنطقة والإسلام والمسلمين، وأضحت "إسرائيل" الغاصبة والمحتلة الدولة الجارة الصديقة والحريصة على قضايا العرب والمسلمين".
ودعا إلى "الحذر من محاولات خبيثة لإفشال التسوية في سوريا، وأبرزها هذا السعي الفاضح للكيان الصهيوني إلى تخريب الهدنة؛ لأنه الأكثر تضررا من أي مسار للسلم الأهلي في هذا البلد، وهو يصعد من تحركاته العدوانية تارة باستهداف مواقع الجيش السوري. وهنا نعلن وقوفنا مع هذا الجيش في تصديه الفاعل للغارات الصهيونية وفي يقظته الدائمة باتجاه هذا العدو الرئيسي للأمة، وطورا بمحاولة إحداث اختراق واسع في بنية هذا البلد يتمثل بسعيه إلى إنشاء حزام أمني شبيه بما عمل عليه في لبنان أثناء الاحتلال، وعبر جماعات تنتسب للإسلام - مع الأسف -، لتكون منصة تهديد تستهدف تطويع الموقع السوري وإسقاط صموده، وذلك في ظل توجه صهيوني ثابت مدعوم من واشنطن لإبقاء هذا الكيان الدولة الأقوى في هذه المنطقة، وهو ما ترجمته الإدارة الأميركية في إقرارها أكبر مساعدة عسكرية في تاريخه؛ بقيمة 38 مليار دولار على عشر سنوات، ما يؤكد على أن الوجوه المتعاقبة على رئاسة البيت الأبيض لا تغير في السياسات الداعمة للكيان الغاصب، وأن الثابت الأكبر في السياسة الخارجية الأمريكية هي قوة كيان العدو وتفوقه، والذي يعني حكما استمرار السياسات العدوانية الأميركية على كل مواقع القوة في بلادنا ومجتمعاتنا".
وتابع: "هنا بالذات ندرك أهمية التأكيد على مشروع المقاومة، وهو مشروع ينبغي على كل شرائح الأمة وقواها أن تعود إليه، بعيدا عن الحسابات المذهبية الضيقة، والمشاعر العصبية المتوترة، وهذا يتطلب تهيئة الأرضية من قبل الجميع لإيقاف الحروب الداخلية في المنطقة؛ لأن هذا الدعم الأميركي غير المسبوق هو تهديد إضافي للمنطقة، وبخاصة بعد تحطيم قدرات الجيوش العربية، التي تمثل الطاقات الكبيرة لإطلاق أي عمل تحريري في المستقبل".
أضاف: "أما لبنان، فمع استمرار أزماته المتنقلة على أكثر من صعيد، والتي تشير بمعظمها إلى عقم نظام المحاصصة، وغياب ذهنية الدولة ومصالح الوطن عن الكثيرين، إلا أننا نشعر أنه مهما زاد منسوب الاحتقان والحساسية بين الأطراف السياسية، فإن أحدا لن يفرط بمصير هذا البلد ووحدته، وخصوصا في هذه الفترة الحساسة، وهنا نطالب جميع الحريصين على هذا الوطن أن يعملوا بكل قوة على تذليل العقبات القائمة وتهيئة الظروف لعودة الجميع تحت لواء الوطن والدولة بالطريقة التي تحفظ الحقوق وتزيل الغبن وتطوي إلى الأبد كل الخطاب السياسي المشحون بمفردات التقسيم والتجزئة والتقوقع والانعزال".
وختم فضل الله : "إننا في هذه المرحلة، لا بد من الإشادة بدور القوى الأمنية التي تتحمل كل المشقات والتضحيات في سبيل حماية لبنان من الإرهاب ومن كل العاملين على العبث بأمنه واستقراره".(۹۸۶۳/ع۹۴۰)