بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)}
صدق الله العلي العظيم
القصص القرآنية
بأروع الأساليب البلاغية يجمل القرآن الكريم قصة أصحاب الكهف في بضع آيات ثم يشرع ببيان تفاصيل القصة، وطبيعة البشر التلهف لسماع تفاصيل ما علم به مجملاً كما أن هذا الأسلوب يزيد تأثير القصة في متلقيها، كما لا يسرد القرآن الكريم مفصلاً من مفاصل الوقائع التاريخية إلا ومعها حكماً وعبراً، وبتعبير آخر إلا وهي تنطوي على سنن إلهية هامة.
ومن خواص الأسلوب القرآني في ذكر القصص هي عدم ذكر التفاصيل غير الهامة وغير المفيدة عبرةً للمتلقي ، فلا يذكر مثلاً أسماء أصحاب الكهف أو ألوان ثيابهم أو أعمار كل واحدٍ منهم أو ما أشبه من التفاصيل التي تعرّض لها بعض المفسرين، والتي وبالرغم من إعتماد بعضها على أدلةٍ وحجج إلا أن أغلبها تبقى بلا مستند معتمد، بل لا ينبغي أن يتعرض قارئ القرآن لتلكم التفاصيل غير الهامة، إذ يؤدي ذلك – أحياناً- إلى الإبتعاد عن الغاية من إيراد القصة ، بل عليه أن يوجه نظره تجاه ما ذكره القرآن الكريم.
القرآن الكريم بين التفسير والتدبر
للآيات القرآنية بعدان لابد أن يلتفت إليها من أراد المزيد من الإنتفاع من الآيات القرآينة، الأول هو البعد التفسيري، والثاني هو البعد التدبري، ويعني البعد التفسير إماطة اللثام عن ظاهر اللفظ وتبيين مراده، بينما التدبر يهتم بالبصائر والرسائل التي تحويها الآية الشريفة.
وفيما يرتبط بالبعد الثاني نذكر بعض البصائر قبل أن نبين البعد الأول لهذه الآيات الشريفة:
من سن الله في قصة أصحاب الكهف
حين قدّر الله سبحانه خلقة الكون قدّر له نظاماً أيضاً ، فلا شيء في هذا الكون الرحيب يسري بلا نظام ، وللنظم حكمتها أيضاً ، ويعبّر القرآن الكريم عن الأنظمة الحاكمة بالسنن ( سنة الله) وقد يعبّر عنها اليوم بالقوانين الطبيعية ( كقانون الجاذبية وقوانين الكيمياء والفيزياء) ، والسنة في اللغة تعني في أصل الإستعمال الطريق المعبّد الموصل إلى الماء ، وبمرور الزمن صار تعبيراً عن كل طريقٍ يوصل سالكه إلى الهدف المطلوب .
والتعبير بالسنة أدق من التعبير بالقانون ، لجهاتٍ عدة ، منها أن الله سبحانه هو الخالق لهذا الكون وللأنظمة فيه ، ولما كان هو الخالق لها فلا تكون حاكمةً عليه ، إذ لا حتم على الله سبحانه – كما توحي لفظة القانون- فالله سبحانه جعل سنة التزاوج سبباً للخلقة ، ولكنه خلق بشراً من غير أبٍ أو أم كآدم وحواء ، أو من غير أب كالنبي عيسى عليه السلام ، وكذا تحوّل الخشبة إلى ثعبانٍ عظيم أمرٌ يتعارض مع الأنظمة السائدة في الخليقة ، لكنه لما كان بإرادة الله سبحانه كان كما أراد.
فالسنن تحكمنا نحن ، ولا تحكم الله سبحانه وتعالى ، فإستجابة الدعاء والمعاجز و غيرها هي كسرٌ للسنن بإرادة إلهية.
ولكي يسير المرء وفق تلكم السنن ، زخرت الآية القرآنية ببيانها بصيغ وأساليب شتى ، ومنها الأسلوب القصصي ، حيث حوت القصص على السنن ، ومنها قصة أصحاب الكهف ، ومن الغريب أن الله سبحانه قبل بيان تلك القصة ينوه على عدم كون قصتهم عجيبة و نادرة ، بل هي تتحقق وتتكرر بتكرر مقوماتها الموضوعية ، كما تكررت في حادثة الإمام الحسين عليه السلام حيث كان يتلو الرأس الشريف هذه الآية من على الرمح ، وتتكرر أيضاً على مر التاريخ ، فماذا كانت السنة الإلهية التي تجلّت في قصة أصحاب الكهف؟
فتيةٌ ( لا بالعمر ) في مناصب حكومية عالية ، آمنوا بالنبي عيسى عليه السلام ، فقاموا لله سبحانه وقاوموا بطش دقيانوس ( أو دقليانوس) الذي كان أكبر إمبراطور للروم والذي قد إمتدت إمبراطوريته حتى الأردن ، وكان قد بدأ بقتل كل من آمن بالله والنبي عيسى عليه السلام.
سعت السلطات خلفهم فلم يكن لهم – بعد القيام – مهربٌ فلجأوا إلى الكهف ، الذي لم يكن بعيداً – كما يبدو – عن موطنهم، فأنامهم الله سبحانه لفترة زمنية.
في كل حركة تحررية هناك طليعة رائدة وهناك من يتبعهم من المتأثرين ، فكان أصحاب الكهف الطليعة ، وبخروجهم وإختفاءهم ، تحرّك أتباعهم وجاءوا على أثارهم ، فلما لم يعثروا عليهم أرّخوا يوم إختفاءهم وعدم العثور عليهم ، ومن حينذاك أعتمد ذلك اليوم كتاريخ للناس ، فصارت قصتهم مبدأ تاريخي ، ومن هنا كان لهم إسم آخر سوى أصحاب الكهف ، وهو أصحاب الرقيم ، في إشارة إلى الرقم التاريخي.
وبهذا التأريخ والترقيم خلد ذكرهم رغم مرور الآيات وتعاقب السنين ، حتى بعثهم الله سبحانه بعد قرونٍ ثلاثة منتصرين على الطاغية.
فإذا رأت مجموعة من المؤمنين أنفسهم في حرجٍ وضيق لما يلاقونه من السلطات الظالمة ، فليتأملوا في قصة أصحاب الكهف ، وأن سنن الله في نصرة المؤمنين التي جرت على أصحاب الكهف تتحقق معهم أيضاً، قصتهم لم تكن بدعاً من سنن الله ، ومن هنا قال الله سبحانه :
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) }
أي هل ظننت أن قصة الذين لجأوا إلى الكهف ( أصحاب الرقيم) من آياتنا العجيبة ؟ كلا ؛ إذ هكذا كانت قصص الأنبياء من قبلهم أيضاً ، كما هكذا هي سيرة الرسل والمؤمنين من بعدهم ، ولعل هذه الجهة كانت وراء تلاوة الرأس لهذه الآية.
{إذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}
الفتوة هنا تعني فتوة الإيمان لا العمر ، ويقال للشاب فتى لقوته وغالباً الشاب يكون قوياً ، وهنا عبّر القرآن عنهم بالفتوى من جهة قوة إيمانهم ، عن سليمان بن جعفر النهدي قال قال لي جعفر بن محمد: “يا سليمان من الفتى؟”
قال: قلت له جعلت فداك الفتى عندنا الشاب.
قال لي: “أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا، فسماهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله و اتقى فهو الفتى.[1]
{ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) }
الفاء للتفريع ، أي بعد أن آوو إلى الكهف دعوا الله سبحانه ، وفي ذلك بصيرة هامة ، هي أن طريق الدعاء يكون عبر تهيئة المرء كل الإمكانات المادية والسعي الدؤوب نحو تحقيق الهدف ومن ثم يدعوا الله سبحانه ، كما فعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، حيث حفر الخندق مع نفرٍ من المسلمين في شهر رمضانٍ صائف ، وهيأ عسكر المسلمين ، وحين جاء عمرو بن ود العامري مبارزاً أرسل إليه إبن عمه أمير المؤمنين عليه السلام ، حينذاك قال صلى الله عليه وآله : ” برز الايمان كله إلى الشرك كله إلهي إن شئت أن لا تعبد فلا تعبد”[2].
وهذا ما فعله أصحاب الكهف أيضاً ، خططوا للمواجهة ، ثم خرجوا إلى الكهف ، وألتجائهم إلى الكهف لجأٌ إلى الله سبحانه لأنه خلقه ، وحينئذ دعوا الله سبحانه.
ماذا سألوا الله سبحانه ؟
سألوه أن ينشر عليهم رحمةً من عنده ، أي رحمة مباشرة بلا توسط الوسائل المادية الأخرى ، لأنهم يأسوا منها جميعاً قبلئذ، والرحمة التي أرادوها أن يخلصهم الله سبحانه من جور الطغاة وأن لا يعثروا عليهم.
كما طلبوا منه سبحانه أيضاً أن يدلهم على طريق تحركهم ، بأن يكون أرشد الطرق للوصول إلى الهدف المنشود ، إذ هناك طرق عدة للوصول إلى الهدف – كما ذكرنا – ولكن بعضها أفضل من بعض ، وهكذا أكّدت آية أخرى في سورة الكهف على هذه البصيرة حيث قال الله سبحانه : { إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدا}[3]
{فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً }
إستجاب لهم الله سبحانه ، ولكن ليس بالنحو الذي توقعوا .. أوليسوا أرادوا رحمته ورشد أمرهم ؟ إستجابة الله سبحانه لهم كانت عبر الضرب على آذانهم وإنامتهم.
وهكذا ينبغي أن يعي المؤمن حكمة الرب سبحانه ، فليس ما يريده دوماً في مصلحته ، بل مصلحته فيما إختاره الله له ، وكما في الدعاء : ” فَإِنْ أَبْطَأَ عَنِّي عَتَبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ وَ لَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ”[4].
وكان في إنامتهم خيرهم وراحتهم وفوزهم ، فبعد أن أيقضهم الله سبحانه فرحوا بهلاك الطاغية وإنتشار دين الله ، وبعد أن أنامهم ثانيةً سيوقضهم مع ظهور صاحب العصر عجل الله فرجه ، ليفرحوا مرتين ، نسأل الله سبحانه أن يعجل في فرج إمامنا عليه السلام.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كتاب التفسير ( للعياشي) : ج2 ،ص 323
[2] مواقف الشيعة : ج3 ،ص 123
[3] سورة الكهف :الآية 24
[4] تهذيب الأحكام : ج3 ، ص 89
تدبرات السید المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)}
صدق الله العلي العظيم
ظاهرة النوم في الرؤية القرآنية
يتعرض القرآن الكريم للظواهر التي ترتبط بالإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولكن بيان الكثير منها يتم في سياق القصص ، ومن تلك الظواهر ظاهرة النوم ، فكيف ينام الإنسان؟
هناك نظريات عدة عن النوم وكيفية حدوثه عند البشر ، ولكن لم أجد – حسب تتبعي – من ربط النوم بالأذن ، بالرغم من صحة النظريات التي تذهب إلى وجود خلايا في الدماغ هي المسؤولة عن النوم ، ولكن تلك الخلايا هي الأخرى مرتبطة بعمل الأذن.
والأذن وما تحويه من أعضاء ، تشكل عالماً معقداً من الأجهزة والوظائف الحياتية للإنسان – مضافاً إلى وظيفة إلتقاط الأمواج الصوتية – فهي مسؤولة عن توازن الجسم ، وهي مسؤولة عن حرارته أيضاً ، كما أنها ترتبط بالدماغ من جهة وبالمعدة من جهة ثانية ، وبمجمل الجهاز العصبي من جهة ثالثة ، كما أن مبدأ النوم يكون بها ، ومن هذه الجهة جعلت الروايات نوم الأذن – دون العين- معياراً لتحقق النوم ، إذ قد تثقل العين وتخفق ولكن تسمع الأذن فلا يحكم على الإنسان بالنوم ، بل ينام حين تنام عينه.
وفي هذه الآية من سورة الكهف ، يربط الله سبحانه نومهم بآذانهم حيث يقول: { فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} لا بوجود أدوية منوّمة أو غازات بعثتهم على النوم – كما قد يتصوّر- ، وذلك لأن النوم تم فجأةً لا تدريجياً وللجميع.
والضرب هي الحركة الشديدة والصعبة ، فالضرب على آذانهم قد يكون بضرب ستارٍ على آذانهم أو موجةٍ عبر آذانهم سرت إلى كل بدنهم.
إحاطة الآخرة بالدنيا
ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن الدنيا محاطةٌ بالعالم الآخر، إذ ليست الآخرة بعيدةً عن الدنيا بل مهيمنة عليها ، كما أن حساب الزمان يختلف هناك عن الدنيا ، فكل يوم فيها كألف سنةٍ مما نعد ، وربما يمكن أن يقال أن إنامة الله لأصحاب الكهف كان عبر نقلهم إلى العالم الآخر وإنامتهم سويعات من ساعات الآخرة وإعادتهم إلى الدنيا بعد ثلاثمائة سنة شمسية وبإضافة تسع سنوات تكون قمرية.
ومثال هذا القول ، ما صنعه الله سبحانه مع طعام النبي عزير الذي أماته الله مائة عام ، فبعثه وأمره أن ينظر إلى طعامه لم يتسنه أي لم يفسد ، وكان طعامه شيئاً من اللبن والتين ( وكلاهما مما يسرع إليهما الفساد) ، بينما كان حماره قد تحول إلى عظامٍ نخرة.
فكيف بقي الطعام مائة عام سالماً دون أن يطرو عليه الفساد ؟ إنما كان ذلك بنقله إلى عالم الآخرة ومن ثم إعادته إلى الدنيا.
{ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً}
وكيف كان فقد ضرب الله سبحانه على آذان هؤلاء النفر في كهفهم الذي هربوا إليه ، وكان ذلك لسنين ، ويقال سنة للسنة الشاقة والصعبة ، بينما إذا كانت يسيرة فيقال عام ، فقال تعالى عن سنوات دعوة نوح : { وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُون}[1] ، فكانت تسعمائة وخمسين سنة صعبة ، ولكن حين يحدثنا في سورة يوسف بعد سنواتٍ عجاف عن عامٍ تهطل الأمطار حيث قال الله سبحانه : { ثُمَّ يَأْتي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فيهِ يَعْصِرُون}[2].
وسنين أصحاب الكهف كانت متسمة بالصعوبة ، لتسلط الطغاة والجبابرة على الناس ، ولكن لماذا تمييز السنين أو إبدالها بلفظ ( عددا) ؟
ذلك للدلالة على أن السنين كانت مقدّرة منذ البدء ، فهي معدودة ومحددة ومعينة.
البعث بعد النوم
{ثُمَّ بَعَثْناهُمْ }
بعد إنقضاء تلك الفترة المعدودة ، بعثهم الله سبحانه ، والبعث لا يعني إيقاظهم بل إنبعاثهم من نومتهم وإنطلاقتهم بحركة فجائية ، لا تدريجية ، كما يكون ذلك مع بعث الناس يوم القيامة حيث يكون فجأة لا تدريجاً.
الغاية من والبعث
ما هي الغاية من بعثهم بعد إنامتهم سنينا ًطويلة؟
{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) }
كثرت البحوث التفسيرية حول هذا المقطع من الآية ، وقبل أن نتحدث قليلاً عن الغاية من بعثهم كما بينت الآية نذكّر بما ذكرناه سابقاً من أن إمتحان الإنسان يكمن في إختياره لأحد قطبي الحاضر والمستقبل ، ومن صفات أمير المؤمنين عليه السلام التي بينها أحد أصحابه الأوفياء ( ضرار بن ضمرة الكندي) أمام معاوية بن أبي سفيان حيث قال ضرار: ” كَانَ وَ اللَّهِ بَعِيدَ الْمَدَى شَدِيدَ الْقُوَى”[3] ، في إشارة إلى بعد نظر أمير المؤمنين وتفضيله الآخرة على الدنيا بعكس معاوية.
فالمؤمن ينظر إلى المستقبل البعيد ، بينما ينظر الكافر إلى يومه وساعته ، وبذلك يحدث تنازع حزبي الإيمان والكفر ، ويكون التحدي ، وليس في المقام أكثر من حزبين ، حزبٌ يمثل جبهة الإيمان ، وحزب يمثل الكفر ، فالكفر ملةٌ واحدة والإيمان حزبٌ واحد ، فمهما تغيرت العناوين والمسميات يبقى جوهر الصراع بين الكفر والإيمان.
وفي قصة أصحاب الكهف كان الأمر كذلك ، فمن جهة كان دقليانوس الطاغية الذي قتّل المؤمنين بالنبي عيسى ومنع دين الله من الإنتشار ، ومن جهة فئة من المؤمنين بالله ، وكانت العاقبة أن دقليانوس ولّى بعد أن أنام الله هؤلاء النفر ، ثم بعثهم ليعرفوا المنتصر في نهاية المطاف ، حيث أسلم الناس لله سبحانه وحكم المسلمون وسيطروا على العالم.
فالهدف من البعث هو تحقق علم الله سبحانه وأن يعلم الملائكة والناس أجمعين من هو المنتصر ولمن يكون الزمان ، والزمان تعبيرٌ عن الحوادث الواقعة فيه وليس هو مهماً بقدر ما للحوادث فيه من أهمية ، وقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله : ” لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر”[4]، يشير إلى كون الزمان حقيقة واحدة وثابتة ، وحسنه وسوءه راجع إلى الحوادث فيه.
الإنباء بقصتهم بالحق
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ }
لا حاجة إلى الأخذ من التوارة والإنجيل والأساطير المنتشرة بين الناس عن قصة أصحاب الكهف ، والتي إنشرت كثيراً بسبب قرب زمان قصتهم من العرب في الجزيرة العربية ، بل الله سبحانه هو الذي يقص خبرهم وقصصهم بالحق ، فماذا يعني بالحق؟
معايير لحقانية الفكرة
كل حديثٍ أو كتاب أو منهج ثقافي ينبغي أن يحتوي على معيارين ليكون جيداً ، وبالتالي يكون حقاً:
الأول: لكي يكون حقاً لابد أن يكون واقعياً ، فلا عبرة بالخرافات والكتب الخيالية ، لأنها أمور غير واقعية ، والحق يبقى حقاً الباطل كذلك ، ولا يأخذ أحدهما مكان الآخر.
وبهذه المناسبة نذكّر أن الأفلام والمسلسلات التي تصنع لعرض الحوادث التاريخية تضيف بعض التفاصيل والجوانب بما يخدم الجوانب الفنية المبتغاة ، فهي وبالرغم من أهميتها إلا أنها لا تصلح أن تكون بديلاً عن القرآن الكريم ، لأن القرآن يبين محض الواقع.
الثاني: لابد أن تكون الفكرة أو المنهج مفيداً ، وبتعبير آخر لابد أن يخدم هدفا ًسامياً ، وإذا كان الهدف صحيحاً يتحول إخفاء بعض الأمور مسوّغاً ، كما الكذب في الإصلاح ، فلأن المصلح يهدف هدفاً نبيلاً فإن كذبه في هذا السبيل عند الله صدق ، وكما في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام : ” وَ لَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام- إِنِّي سَقِيمٌ وَ مَا كَانَ سَقِيماً وَ مَا كَذَبَ وَ لَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وَ مَا فَعَلَهُ وَ مَا كَذَبَ وَ لَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عليه السلام- أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وَ اللَّهِ مَا كَانُوا سَارِقِينَ وَ مَا كَذَبَ”[5] ، وذلك لأنهم كانوا مصلحين.
وبالعكس فإن الصدق في الإفساد يعد ذنباً كبيراً كما في إشاعة الفاحشة أو النميمة بين الإخوان او غير ذلك.
فالله سبحانه يقص قصة أصحاب الكهف بالحق ، لأنها واقعية أولاً ، ولأنها تهدف إصلاح مسيرة الإنسان.
مراحل الهداية
{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)}
للهداية مراحلٌ ثلاث:
الأولى: توفير الله سبحانه الفرصة للوصول إلى الهدى للجميع وبالتساوي ، فالقرآن لكل الناس والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله بعث للأبيض والأسود وكذا الأئمة عليهم السلام.
الثانية: هي مرحلة الإستجابة للفرصة المتاحة ، وقليل من الناس يغتنم هذه الفرصة ، وعنهم يقول الله سبحانه: { رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادي لِلْإيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرار}[6].
الثالثة : بعد الإستجابة وتوفر الهداية ، يزيد الله سبحانه مراتب الهداية للمؤمن.
وأصحاب الكهف بدأوا بالخطوة الأولى والأساس وهي خطوة التخلص من أدران الكفر والفسق والعزم على الإيمان بالله سبحانه ، فزادهم الله إيماناً وهدى وأخذ بيدهم في سائر مسيرتهم.
نسأل الله سبحانه أن يزيدنا هدىً في هذا الشهر الكريم. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.(۹۸۶۳/ع۹۴۰)