وأكد سماحته على العمل بالقرآن المجيد والسير على نهج أهل البيت (ع) لكونهما صمام الأمان لهم من الضلالة والانحراف.
جاءت دعوته هذه بمناسبة حلول ليلة القدر المباركة تلك الليلة التي يفتح الله فيها أبواب السماء لعباده ليستمطروا شآبيب رحمته ويغرفوا من بحر جوده وكرمه ويغتسلون من أدناس ذنوبهم وأدران خطاياهم في تلك الليلة التي لا تطاولها ليلة شرفا ومنزلة وعلوا لأنها الليلة التي أنزل الله فيها كتابه الكريم وفرقانه العظيم وهي التي تتنزل فيها الملائكة فتضيق بهم الأرض كما جاء في بعض الروايات المعتبرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقيها تقدر مقدرات الخلق في مختلف شؤون السنة ولذلك جاءت التّعاليم النبويّة المستمدّة من الوحي الإلهيّ الّذي أوحى به إلى نبيّه (ص)، أو ألهمه إيَّاه، بضرورة استعداده فيها للصَّلاة والابتهال والدّعاء والانقطاع إلى الله، والتقرّب إليه بالكلمة الخاشعة، والدَّمعة الخائفة، والخفقة الحائرة، والشَّهقة المبتهلة، ليحصل على رضاه، فيكون ذلك أساساً للتَّقدير الإلهيّ الّذي يمثِّل عناية الله به ورعايته له، وانفتاحه عليه بربوبيّته الحانية الرّحيمة. وذلك هو السرّ الّذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر، في مواقع إنسانيّته، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهيّ في رحاب ربوبيّته، لينطلق الإنسان إلى ربّه قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، في إخلاصه، وفي ابتهاله وفي خشوعه، لتكون هذه اللّيلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر، فهي ((خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ))، فالرّحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السّلام الّتي يعيش فيها الإنسان روحيّة السّلام مع نفسه ومع النّاس، لأنها تحوّلت إلى معنى السّلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.
ولذا يمكننا أن نقول أن ليلة القدر هي سلام للروح ((سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ))، فليس فيها أيّ معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السَّلام للإنسان؛ إنَّه سلام الرّوح الّذي يمتدّ في روحانيَّة هذه اللّيلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. ((حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ))، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحوّل فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبّة والسّلام، في آفاق الله الرّحمن الرّحيم الّذي هو السّلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبّر.
وتلك هي ليلة القدر الّتي قد يكون لها موعدٌ معيّنٌ معلومٌ، لأنّ الله ربما أخفاها في اللّيالي، لينطلق العباد في أيّامه، ليصلوا إليها، ليتعبّدوا لله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده، أن يتقرّبوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنّهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.
فما أعظمها من ليلة وما أشرفها! وما أشد خسارة من يكون فيها لاهياً عن الله، منصرفاً إلى دنياه. لذا يجب أن يتضرع الخلق فيها جميعا إلى باريهم، راجين منه أن يفرج عنهم وعن جميع المؤمنين ما أحدق بهم من كروب، وما نزل عليهم من خطوب، أحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم، فأفكار الأرهاب تغزوهم، وسهام الفرقة تمزقهم، والأعداء يتربصون بهم، ووسائل الأعلام تلوّث العقول والقلوب بما تنطوي عليه من سموم تسعى لإذابة العقائد ومحو الأخلاق .
وليس من سبيل إلى النجاة من هذه الأهوال، إلا التضرع إلى الله والالتجاء إليه في هذه الليلة، والاعتصام بالقرآن المجيد وسنة أهل البيت (ع) -فهي مشتملة على كل ما يحصّن دينهم، ويقيهم من شرور دنياهم-، والتزامهم بخط القيادة النائبة الحقة في زمن الغيبة التي لا تزال و ما برحت تزودهم بالآراء السديدة و ترعاهم رعاية الأب الحنون لأبنائه و لا سيما في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها العالم الإسلامي.
فنسأل من المولى جلت عظمته أن يوفقنا لإحيائها والاستفادة من أجوائها، إنه ولي التوفيق.(۹۸۶۳/ع۹۴۰)