ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الباقر، وهو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت، الذي نستعيد اليوم ذكرى ولادته الشريفة، عندما قال: "إنما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرهم (الدنيا بغرورها)، وكم من قوم غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت، فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين (يلومون أنفسهم وتلومهم الملائكة والناس)، لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا مما كرهوا جنة، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم (حتى وصاياهم لا تنفذ)، وصاروا إلى من لا يعذرهم (بعدما أقام عليهم الحجة تلو الحجة، ونبههم إلى أن يتلفتوا إلى مصيرهم)، فنحن والله محقوقون (الحق علينا) أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها فنكف عنه، فاتق الله، واجعل في قلبك اثنتين: تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك (لن يكون معك إلا عملك الصالح)، فقدمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك.. (فارمه وراءك)". لقد أراد الإمام من خلال وصيته أن يبين لنا صورة الحياة الدنيا، وعلى أي حال ينبغي أن نغادرها، لنكون بذلك أكثر وعيا ومسؤولية وأكثر قدرة على مواجهة التحديات".
وقال: "البداية من لبنان، الذي أظهرت فيه المواقف الصادرة عن جهات إعلامية وسياسية ودينية مدى الصعوبات التي تعترض مسيرة الإصلاح ومحاربة الفساد في هذا البلد، فما أن انطلقت هذه الخطوات بإبداء علامات استفهام وتساؤلات حول آليات التصرف بمال عام، حتى خرج هذا الأمر عن غايته، ليأخذ بعدا طائفيا ومذهبيا وسياسيا لم يكن بالحسبان، وليعيد إلى الساحة الداخلية أجواء من التوتر، لا يريد أحد العودة إليها. إننا، وأمام ما جرى، كنا نأمل أن لا يشهر السلاح الطائفي والمذهبي، أو أن يستعاد الانقسام السياسي، بعد أن جرب اللبنانيون خطورة إشهار هذا السلاح وآثاره الكارثية في لبنان والمنطقة، وأن يبقى ما جرى في الإطار القضائي والقانوني".
أضاف: "إننا نريد لما حصل أن لا يؤدي إلى إيقاف العمل بمواجهة الفساد الذي ينبغي أن يستأصل من جذوره. ونحن في ذلك، لن نقول، ولا يجوز أن نقول، عفا الله عما مضى، ولنغلق كل ملفات الماضي لعدم إثارة الحساسيات. إننا مع فتح الملفات لمعاقبة المتورطين بالفساد، لأن فتح ملفات الماضي ومعاقبة من تورط فيه، يمنع حصوله في الحاضر والمستقبل، لأننا إذا استكنا لذرائع الماضي، فسوف نستكين لها في الحاضر والمستقبل. نعم، ما ندعو إليه في هذا البلد الذي لا تزال تعصف به الحساسيات الطائفية والمذهبية والانقسامات السياسية الحادة، هو تجديد ما دعونا إليه في الأسبوع الماضي، من ضرورة الحكمة في طرح الملفات. ولذلك، نعيد التأكيد في قضية مكافحة الفساد أو من يريدون مواجهته، أن يأخذوا بالاعتبار ذلك، بأن لا يظهروا حرصهم على مكافحة الفساد في موقع دون آخر، فلا نكافح فسادا هنا ونغفل فسادا هناك، وإلى الدقة في المستندات والبيانات والبعد عن الإثارة الإعلامية".
وتابع: "ويبقى أن نقول للجميع إن اتهام شخص من الطائفة، أو رمز من رموزها، لا ينبغي أن يصور على أنه إدانة للطائفة أو المذهب، أو حتى لإيجابياته عندما كانت تصدر عنه إيجابيات، بل تبقى الإدانة في حدود ما اقترف. إننا نريد لكل القوى السياسية التي وعدت اللبنانيين بأنها ستكون أمينة على مصالحهم وعلى مقدراتهم وأموالهم، وأنها لن تغطي فاسدا أو ترضى بفساد، أن تفي بما وعدت به، وأن لا تبقيه شعارا وضع للاستهلاك الشعبي".
ورأى انه "في مجال آخر، يحظى لبنان في هذه الأيام بزيارات متتالية لعدد من الموفدين من الخارج، والتي تتنوع في الأهداف والغايات، ونحن في الوقت الذي نرحب بأي اهتمام خارجي بلبنان، لرفد عملية البناء والنهوض على الصعيدين الإنمائي والاقتصادي، وتحفيز الجميع على سلوك طريق الإصلاح الحقيقي، فإننا ندعو اللبنانيين إلى أن يكونوا حذرين من الأصوات التي تحاول الإيقاع في ما بينهم أو تحريض فريق على آخر، فقد أظهرت كل التجارب السابقة كم أنهكت اللعبة السياسية المزدوجة التي تمارسها بعض الإدارات الغربية هذا البلد. إننا نعيد التأكيد على اللبنانيين أن يعوا أن هؤلاء لا يريدون من هذا البلد إلا مصالحهم، ويريدون للبنانيين أن يكونوا أداة لتحقيقها على حساب اللبنانيين. فليتعلم اللبنانيون من تجارب الماضي، وليلتفتوا إلى أن مصلحتهم تكمن في الحفاظ على الوحدة الوطنية، وما ينهض بالبلد هو التفاهمات والتسويات والاتفاقات التي تحفظ حقوق المكونات والطوائف، فلا مستقبل للبلد إلا بدولة الإنسان، دولة المواطنة".
ونوه "بالمواقف الصادرة في المؤتمر البرلماني العربي، الرافضة للتطبيع مع العدو الصهيوني، والمتمسكة بحقوق الشعب الفلسطيني، وخصوصا القدس الشريف، ولا سيما الموقف الذي عبر عنه رئيس المجلس النيابي، والذي نرى فيه تعبيرا فعليا عن إرادة الشعوب العربية في الثبات على دعم الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وإصرارا على وقف كل أشكال التقارب والتطبيع مع العدو، وصد كل الأبواب التي ينفذ منها إلى الداخل العربي والفلسطيني".
وهنا المعلمين في عيدهم، داعيا إلى "تقدير هذه الفئة الأساسية في المجتمع، والتي بها تبنى العقول وتساهم ببناء الأوطان وتقدمها".
وختم: "أخيرا، نلتقي في هذا اليوم بذكرى مجزرة بئر العبد بكل آلامها؛ هذه المجزرة التي كانت تهدف إلى القضاء على رمز عاش الإسلام بكل أصالته وحيويته وانفتاحه، وعاش المقاومة في كل حركته وجهده وجهاده، فكان عينها وعقلها ودليلها، وعاش هموم إنسان هذا الوطن، وعمل لأجله بما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكن شاء الله أن يبقى ليستمر في مسيرته وعمله وجهوده، وأن يتجذر في العقول والقلوب والوجدان، حتى بعد غيابه عن أعيننا. إننا في هذا اليوم، نسأل الله سبحانه أن يتغمد الأرواح التي ارتقت إلى بارئها برحمته الواسعة، ولمن لا يزالون يعانون الجراح بالصبر والأجر الجزيل".
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام