أصدر مکتب سماحة آیة الله السید السیستانی، نصائح للمقاتلین فی ساحات الجهاد، واصفا إیاهم بـ"الأعزّة"، داعیا إیاهم الى الاقتداء بنهج الامام علی بن ابی طالب (ع) فی الحیاة والمعارک التی خاضها ضد الکفار والمرتدین والخوارج.
البیان فیما یلی:
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام على خیر خلقه محمد وآله الطیبین الطاهرین .
أمّا بعد : فلیعلم المقاتلون الأعزّة الذین وفّقهم الله عزّ وجلّ للحضور فی ساحات الجهاد وجبهات القتال مع المعتدین:
1 ـ أنّ الله سبحانه وتعالى ـ کما ندب الى الجهاد ودعا إلیه وجعله دعامةً من دعائم الدین وفضّل المجاهدین على القاعدین ــ فإنّه عزّ اسمه جعل له حدوداً وآداباً أوجبتها الحکمة واقتضتها الفطرة، یلزم تفقهها ومراعاتها، فمن رعاها حق رعایتها أوجب له ما قدّره من فضله وسنّه من برکاته، ومن أخلّ بها أحبط من أجره ولم یبلغ به أمله .
2 ـ فللجهاد آدابٌ عامّة لابدّ من مراعاتها حتى مع غیر المسلمین، وقد کان النبیّ (صلّى الله علیه وآله ) یوصی بها أصحابه قبل أن یبعثهم إلى القتال ، فقد صـحّ عن الإمام الصادق ( علیه السلام ) أنّه قال : ( کان رسول الله – صلّى الله علیه وآله ــ إذا أراد أن یبعث بسریّة دعاهم فأجلسهم بین یدیه ثم یقول سیروا باسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلى ملّة رسول الله (ص) : لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شیخاً فانیاً ولا صبیّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إلیها).
3 ـ کما أنّ للقتال مع البغاة والمحاربین من المسلمین واضرابهم أخلاقاً وآداباً أُثرت عن الإمام علی ( علیه السلام ) فی مثل هذه المواقف ، مما جرت علیه سـیرته وأوصى به أصحابه فی خطـبه وأقواله، وقد أجمعت الأمّة على الأخذ بها وجعلتها حجّة فیما بینها وبین ربّها ، فعلیکم بالتأسی به والأخذ بمنهجه، وقد قال(علیه السلام) فی بعض کلامه مؤکّداً لما ورد عن النبی ( صلّى الله علیه وآله ) ـ فی حدیث الثقـلین والغدیر وغیرهما ــ : (انظروا إلى أهل بیت نبیّکم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم ، فلن یخرجوکم من هدى ولن یعیدوکم فی ردى ، فإن لَبدُوا فالبدُوا، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلکوا ).
4 ـ فالله الله فی النفوس، فلا یُستحلّن التعرّض لها بغیر ما أحلّه الله تعالى فی حال من الاحوال، فما أعظم الخطیئة فی قتل النفوس البریئة وما أعظم الحسنة بوقایتها وإحیائها، کما ذکر الله سبحانه وتعالى فی کتابه، وإنّ لقتل النفس البریئة آثاراً خطیرة فی هذه الحیاة وما بعدها ، وقد جاء فی سیرة أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) شدّة احتیاطه فی حروبه فی هــذا الأمر ، وقد قـال فی عهـده لمالک الأشـتر ــ وقد عُلِمت مکانتـُه عنده ومنزلـتُه لدیه ــ ( إیّاک والدماء وسفکها بغیر حلّها فإنّه لیس شیء ادعى لنقمة واعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفک الدماء بغیر حقّها والله سبحانه مبتدأ بالحکم بین العباد فیما تسافکوا من الدماء یوم القیامة ، فلا تقویّن سلطانک بسفک دم حرام ، فإنّ ذلک مما یضعفه ویوهنه ، بل یزیله وینقله ولا عذر لک عند الله ولا عندی فی قتل العمد لانّ فیه قود البدن ).
فإن وجدتم حالة مشتبهة تخشون فیها المکیدة بکم ، فقدّموا التحذیر بالقول أو بالرمی الذی لا یصیب الهدف أو لا یؤدّی إلى الهلاک، معذرةً إلى ربّکم واحتیاطاً على النفوس البریئة.
5 ـ الله الله فی حرمات عامّة الناس ممن لم یقاتلوکم، لاسیّما المستضعفین من الشیوخ والولدان والنساء، حتّى إذا کانوا من ذوی المقاتلین لکم ، فإنّه لا تحلّ حرمات من قاتلوا غیر ما کان معهم من أموالهم.
وقد کان من سیرة أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) أنّه کان ینهى عن التعرّض لبیوت أهل حربه ونسائهم وذراریهم رغم إصرار بعض من کان معه ـــ خاصّة من الخوارج ــ على استباحتها وکان یقول : ( حارَبنا الرجال فحاربناهم ، فأمّا النساء والذراری فلا سبیل لنا علیهم لأنهن مسلمات وفی دار هجرة ، فلیس لکم علیهن سبیل، فأمّأ ما أجلبوا علیکم واستعانوا به على حربکم وضمّه عسکرهم وحواه فهو لکم ، وما کان فی دورهم فهو میراث على فرائض الله تعالى لذراریهم ، ولیس لکم علیهنّ ولا على الذراری من سبیل ).
6 ـ الله الله فی اتهام الناس فی دینهم نکایة بهم واستباحة ً لحرماتهم ، کما وقع فیه الخوارج فی العصر الأول وتبعه فی هذا العصر قوم من غیر أهل الفقه فی الدین، تأثراً بمزاجیاتهم وأهوائهم وبرّروه ببعض النصوص التی تشابهت علیهم، فعظم ابتلاء المسلمین بهم.
واعلموا إنّ من شهد الشهادتین کان مسلماً یُعصم دمُه ومالُه وإن وقع فی بعض الضلالة وارتکب بعض البدعة، فما کلّ ضلالة بالتی توجب الکفر، ولا کلّ بدعة تؤدی إلى نفی صفة الاسلام عن صاحبها، وربما استوجب المرء القتل بفساد أو قصاص وکان مسلماً.
وقد قال الله سبحانه مخاطباً المجاهدین : (یا أیّها الذین آمنوا إذا ضربتم فی سبیل الله فتبیّنوا ، ولا تقولوا لمن ألقى إلیکم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحیاة الدنیا). واستفاضت الآثار عن أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) نهیه عن تکفیر عامّة أهل حربه ـ کما کان یمیل إلیه طلائع الخوارج فی معسکره ــ بل کان یقول انهم قوم وقعوا فی الشبهة، وإن لم یبرّر ذلک صنیعهم ولم یصح عُذراً لهم فی قبیح فعالهم ، ففی الأثر المعتبر عن الامام الصادق عن ابیه (علیهما السلام): (أنّ علیاً (ع) لم یکن ینسب أحداً من أهل حربه إلى الشرک ولا إلى النفاق ولکن یقول: هم اخواننا بغوا علینا )، (وکان یقول لأهل حربه: إنا لم نقاتلهم على التکفیر لهم ولم نقاتلهم على التکفیر لنا).
7 ـ وإیاکم والتعرّض لغیر المسلمین أیّاً کان دینه ومذهبه فإنّهم فی کنف المسلمین وأمانهم، فمن تعرّض لحرماتهم کان خائناً غادراً، وإنّ الخیانة والغدر لهی أقبح الأفعال فی قضاء الفطرة ودین الله سبحانه، وقد قال عزّ وجلّ فی کتابه عن غیر المسلمین ( لا ینهاکم الله عن الذین لم یقاتلوکم ولم یخرجوکم من دیارکم أن تبرّوهم وتقسطوا الیهم إنّ الله یحب المقسطین ). بل لا ینبغی ان یسمح المسلمُ بانتهاک حرُمات غیر المسلمین ممّن هم فی رعایة المسلمین، بل علیه أن تکون له من الغیرة علیهم مثل ما یکون له على أهله، وقد جاء فی سیرة أمیر المؤمنین (علیه السلام ) أنه لما بعث معاویة (سفیان بن عوف من بنی غامد) لشن الغارات على أطراف العراق ـ تهویلاً على أهله ـ فأصاب أهل الأنبار من المسلمین وغیرهم، اغتمّ أمیر المؤمنین (ع) من ذلک غمّاً شدیداً ، وقال فی خطبةٍ له: ( وهذا أخو غامد قد وردت خیله الانبار وقد قتل حسان بن حسان البکری وأزال خیلکم عن مسالحها ، ولقد بلغنی أنّ الرجل منهم کان یدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فینتزع حجلها وقـُلَبها وقلائدها ورعاثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرین، ما نال رجلاً منهم کلم ، ولا أریق لهم دم، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان به عندی جدیراً ).
8 ـ الله الله فی أموال الناس، فإنه لا یحل مال امرئ مسلم لغیره إلاّ بطیب نفسه ، فمن استولى على مال غیـره غصـباً فإنّما حاز قطـعة من قطـع النیران، وقد قال الله سبحانه : ( إن الذین یأکلون أموال الیتامى ظلماً إنّما یأکلون فی بطونهم ناراً وسیصلون سعیراً ). وفی الحدیث عن النبی (صلى الله علیه وآله) إنه قال: (من اقتطع مال مؤمن غصباً بغیر حقه لم یزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التی یعملها من البرّ والخیر لا یثبتها فی حسناته حتى یتوب ویردّ المال الذی أخذه إلى صاحبه).
وجاء فی سیرة أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) أنه نهی أن یُستحّل من أموال من حاربه إلاّ ما وجد معهم وفی عسکرهم ، ومن أقام الحجّة على أن ما وجد معهم فهو من ماله أعطى المال إیّاه، ففی الحدیث عن مروان بن الحکم قال : (لمّا هَزَمنا علیٌ بالبصرة ردّ على الناس أموالهم من أقام بیّنة أعطاه ومن لم یقم بنیّة أحلفه ).
9 ـ الله الله فی الحرمات کلّها، فإیّاکم والتعرّض لها أو انتهاک شیء منها بلسان أو ید ، واحذروا أخذ امرئ بذنب غیره، فإنّ الله سبحانه وتعالى یقول: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، ولا تأخذوا بالظنّة وتشبهوه على أنفسکم بالحزم ، فإنّ الحزم احتیاط المرء فی أمره، والظنة اعتداء على الغیر بغیر حجّة، ولا یحملّنکم بغض من تکرهونه على تجاوز حرماته کما قال الله سبحانه: ( ولا یجرمنّکم شنآن قوم ٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ).
وقد جاء عـن أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) أنّه قال فی خطبة له فی وقعة صفّین فی جملة وصایاه : ( ولا تمثّلوا بقتیل، وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتکوا ستراً ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا شیئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم فی عسکرهم ، ولا تهیجوا امرأة بأذىً وان شتمن أعراضکم وسببن أمراءکم وصلحاءکم )، وقد ورد أنه ( علیه السلام ) فی حرب الجمل ـــ وقد انتهت ــ وصل إلى دار عظیمة فاستفتح ففُتحت له، فإذا هو بنساءٍ یبکین بفناء الدار، فلمّا نظرن إلیه صحن صیحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبّة، فلم یقل شیئاً، وقال بعد ذلک لبعض من کان معه مشیراً إلى حجرات کان فیها بعض رؤوس من حاربه وحرّض علیه کمروان بن الحکم وعبد الله بن الزبیر: ( لو قتلت الأحبة لقتلت من فی هذه الحجرة ).
کما ورد أنه ( علیه السلام ) قال فی کلام له وقد سمع قوماً من أصحابه کحجر بن عدی وعمرو بن الحمق یسبّون أهل الشام أیّام حربهم بصفین: ( انی أکره لکم ان تکونوا سبّابین ، ولکنّکم لو وصفتم أعمالهم وذکرتم حالهم، کان أصوب فی القول وأبلغ فی العذر، وقلتم مکان سبّکم إیّاهم ( اللهم احقن دماءنا ودمائهم ، وأصلح ذات بیننا وبینهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى یعرف الحقّ من جهله ویرعوی عن الغی والعدوان من لهج به ) فقالوا له یا أمیر المؤمنین: نقبل عِظتک ونتأدّب بأدبک.
10 ـ ولا تمنعوا قوماً من حقوقهم وإن أبغضوکم ما لم یقاتلوکم، وقد جاء فی سیرة أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه جعل لأهل الخلاف علیه ما لسـائر المسـلمین ما لم یحـاربوه، ولم یبدأهم بالحرب حتّى یکونوا هم المبتدئین بالاعتداء ، فمن ذلک أنّه کان یخطب ذات مرّة بالکوفة فقام بعض الخوارج وأکثروا علیه بقولهم ( لا حکم إلاّ لله ) فقال : (کلمة حقّ یراد بها باطل ، لکم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعکم مساجد الله ان تصلّوا فیها ، ولا نمنعکم الفیء ما کانت ایدیکم مع أیدینا ، ولا نبدأکم بحربٍ حتى تبدؤونا به ).
11 ـ واعلموا أنّ أکثر من یقاتلکم إنّما وقع فی الشبهة بتضلیل آخرین ، فلا تعینوا هؤلاء المضلّین بما یوجب قوّة الشبهة فی أذهان الناس حتّى ینقلبوا أنصاراً لهم، بل ادرؤوها بحسن تصرّفکم ونصحکم واخذکم بالعدل والصفح فی موضعه، وتجنب الظلم والإساءة والعدوان، فإنّ من درأ شبهة عن ذهن امرئ فکأنّه أحیاه ، ومن أوقع امرئ فی شبهة من غیر عذر فکأنه قتله.
ولقد کان من سیرة أئمة أهل البیت ( علیهم السلام ) عنایتهم برفع الشبهة عمّن یقاتلهم، حتّى إذا لم تُرج الاستجابة منهم، معذرة منهم إلى الله، وتربیةً للأمة ورعایةً لعواقب الأمور، ودفعاً للضغائن لاسیّما من الأجیال اللاحقة، وقد جاء فی بعض الحدیث عن الصادق ( علیه السلام ) أنّ الامام علیّاً ( علیه السلام ) فی یوم البصرة لما صلا الخیول قال لأصحابه : ( لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فیما بینی وبین الله وبینهم ، فقام الیهم، فقال : یا أهل البصرة هل تجدون علیّ جورة فی الحکم؟ قالوا : لا ، قال : فحیفاً فی قسم ؟ قالوا : لا . قال : فرغبة فی دنیا أصبتها لی ولأهل بیتی دونکم فنقمتم علیّ فنکثتم بیعتی ؟ قالوا : لا ، قال فاقمت فیکم الحدود وعطّلتها عن غیرکم؟ قالوا : لا ). وعلى مثل ذلک جرى الإمام الحسین ( علیه السلام ) فی وقعة کربلاء، فکان معنیّاً بتوضیح الأمور ورفع الشبهات حتّى یحیا من حیّ عن بینّة ویهلک من هلک عن بیّنة، بل لا تجوز محاربة قوم فی الإسلام أیّاً کانوا من دون إتمام الحجّة علیهم ورفع شبهة التعسّف والحیف بما أمکن من أذهانهم کما أکّدت على ذلک نصوص الکتاب والسنة.
12 ـ ولا یظنّن أحدٌ أن فی الجور علاجاً لما لا یتعالج بالعدل، فإنّ ذلک ینشأُ عن ملاحظة بعض الوقائع بنظرة عاجلة إلیها من غیر انتباه إلى عواقب الأمور ونتائجها فی المدى المتوسط والبعید، ولا إطّلاع على سنن الحیاة وتاریخ الأمم ، حیث ینبّه ذلک على عظیم ما یخلفه الظلم من شحنٍ للنفوس ومشاعر العداء مما یهدّ المجتمع هدّاً، وقد ورد فی الأثر: (أنّ من ضاق به العدل فإنّ الظلم به أضیق)، وفی أحداث التاریخ المعاصر عبرةٌ للمتأمل فیها ، حیث نهج بعض الحکّام ظلم الناس تثبیتاً لدعائم ملکهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس ، فأتاهم الله سبحانه من حیث لم یحتسبوا حتّى کأنّهم أزالوا ملکهم بأیدیهم.
13 ـ ولئن کان فی بعض التثبّت وضبط النفس وإتمام الحجّة ــ رعایة للموازین والقیم النبیلة ــ بعض الخسارة العاجلة أحیاناً فإنّه أکثر برکة وأحمد عاقبة وأرجى نتاجاً، وفی سیرة الأئمة من آل البیت ( علیهم السلام ) أمثلة کثیرة من هذا المعنى، حتّى أنهم کانوا لا یبدؤون أهل حربهم بالقتال حتى یبدؤوا هم بالقتال وإن أصابوا بعض أصحابهم ، ففی الحدیث أنه لما کان یوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادى أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) : (لا یبدأ أحدٌ منکم بقتالٍ حتّى آمرکم) ، قال بعض أصحابه: فرموا فینا، فقلنا یا أمیر المؤمنین: قد رُمینا ، فقال: (کفّوا) ، ثم رمونا فقتلوا منّا ، قلنا یا أمیر المؤمنین : قد قتلونا، فقال : (احملوا على برکة الله)، وکذلک فعل الإمام الحسین (علیه السلام) فی یوم عاشوراء.
14 ـ وکونوا لمن قِبَلکم من الناس حماة ناصحین حتى یأمنوا جانبکم ویعینوکم على عدوّکم ، بل أعینوا ضعفاءهم ما استطعتم، فإنّهم إخوانکم وأهالیکم، واشفقوا علیهم فیما تشفقون فی مثله على ذویکم، واعلموا أنّکم بعین الله سبحانه، یحصی أفعالکم ویعلم نیاتکم ویختبر احوالکم.
15 ـ ولا یفوتنکم الاهتمام بصلواتکم المفروضة، فما وفد امرئٌ على الله سبحانه بعمل یکون خیراً من الصلاة، وإنّ الصلاة لهی الأدب الذی یتأدّب الانسان مع خالقه والتحیة التی یؤدیها تجاهه، وهی دعامة الدین ومناط قبول الأعمال، وقد خففها الله سبحانه بحسب مقتضیات الخوف والقتال، حتى قد یکتفى فی حال الانشغال فی طول الوقت بالقتال بالتکـبیرة عن کل رکـعة ولو لم یکن المرء مسـتقبلاً للقبلة کما قال عزّ من قائل : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتین ، فإن خفتم فرجالاً أو رکباناً ، فإذا أمنتم فاذکروا الله کما علّمکم ما لم تکونوا تعلمون ).
على أنه سبحانه وتعالى أمر المؤمنین بأن یأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولا یجتمعوا للصلاة جمیعاً بل یتناوبوا فیها حیطةً لهم. وقد ورد فی سیرة أمیر المؤمنین وصیته بالصلاة لأصحابه، وفی الخبر المعتبر عن أبی جعفر الباقر ( علیه السلام ) قال فی صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة: (یصلّی کل إنسان منهم بالإیماء حیث کان وجهه وإن کانت المسایفة والمعانقة وتلاحم القتال ، فإنّ أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) صلى لیلة صفّین ـ وهی لیلة الهریر ـ لم تکن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ عند وقت کل صلاة ـ إلاّ التکبیر والتهلیل والتسبیح والتحمید والدعاء، فکانت تلک صلاتهم، لم یأمرهم بإعادة الصلاة).
16 ـ واستعینوا على أنفسکم بکثرة ذکر الله سبحانه وتلاوة کتابه واذکروا لقاءکم به ومنقلبکم الیه، کما کان علیه أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، وقد ورد انه بلغ من محافظته على وِرده أنه یُبسط له نطعٌ بین الصفین لیلة الهریر فیصلّی علیه وِرده، والسهام تقع بین یدیه وتمر على صماخیه یمیناً وشمالاً فلا یرتاع لذلک، ولا یقوم حتى یفرغ من وظیفته.
17 ـ واحرصوا أعانکم الله على أن تعملوا بخُلُق النبی وأهل بیته (صلوات الله علیهم) مع الآخرین فی الحرب والسلم جمیعاً، حتّى تکونوا للإسلام زیناً ولقیمه مَثَلاً ،فإنّ هذا الدین بُنِیَ على ضیاء الفطرة وشهادة العقل ورجاحة الأخلاق ، ویکفی منبّهاً على ذلک أنه رفع رایة التعقل والأخلاق الفاضلة، فهو یرتکز فی أصوله على الدعوة إلى التأمل والتفکیر فی أبعاد هذه الحیاة وآفاقها ثم الاعتبار بها والعمل بموجبها کما یرتکز فی نظامه التشریعی على إثارة دفائن العقول وقواعد الفطرة ، قال الله تعالى: ( ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زکّاها وقد خاب من دسّاها) وقال أمیر المؤمنین (ع): ( فبعث ـ الله ـ فیهم رسله وواتر انبیاءه لیستأدوهم میثاق فطرته ویذکّرهم منسیّ نعمته ویحتجوا علیهم بالتبلیغ ویثیروا لهم دفائن العقول)، ولو تفقّه أهل الإسلام وعملوا بتعالیمه لظهرت لهم البرکات وعمّ ضیاؤها فی الآفاق، وإیاکم والتشبّث ببعض ما تشابه من الاحداث والنصوص فإنّها لو ردّت إلى الذین یستنبطونه من أهل العلم ــ کما أمر الله سبحانه ــ لعلموا سبیلها ومغزاها.
18 ـ وإیّاکم والتسرّع فی مواقع الحذر فتلقوا بأنفسکم إلى التهلکة، فإنّ أکثر ما یراهن علیه عدوّکم هو استرسالکم فی مواقع الحذر بغیر تروٍّ واندفاعکم من غیر تحوّط ومهنیّة، واهتموا بتنظیم صفوفکم والتنسیق بین خطواتکم ، ولا تتعجّلوا فی خطوة ٍ قبل إنضاجها وإحکامها وتوفیر ادواتها و مقتضیاتها وضمان الثبات علیها والتمسک بنتائجها، قال سبحانه : (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَکُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِیعًا) ، وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَیُحِبُّ الَّذِینَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُم بُنْیَانٌ مَّرْصُوصٌ) ، وکونوا أشدّاء فوق ما تجدونه من أعدائکم فإنکم أولى بالحق منهم ، وإن تکونوا تألمون فإنهم یألمون کما تألمون وترجون من الله ما لا یرجون، اللهم إلا رجاءً مدخولاً وأمانی کاذبة واوهاماً زائفة کسرابٍ بقیعةٍ یحسبه الظمآن ماءً ،حجبتهم الشبهات بظلمـائها وعمیت بصائرهم بأوهامها.
19 ـ هذا وینبغی لمن قِبَلکم من الناس ممّن یتترس بهم عدوّکم أن یکونوا ناصحین لحماتهم یقدّرون تضحیاتهم ویبعدون الأذى عنهم ولا یثیرون الظنة بأنفسهم ، فإنّ الله سبحانه لم یجعل لأحد ٍ على آخر حقّاً إلاّ وجعل لذاک علیه حقّاً مثله ، فلکلّ ٍ مثل ما علیه بالمعروف.
واعلموا أنکم لا تجدون أنصح من بعضکم لبعض إذا تصافیتم واجتمعتم فیما بینکم بالمعروف حتى وان اقتضى الصفح والتجاوز عن بعض الأخطاء بل الخطایا وإن کانت جلیلة ، فمن ظّن غریباً أنصح له من أهله وعشیرته وأهل بلده ووالاه من دونهم فقد توهّم ، ومن جرّب من الأمور ما جُرّبت من قبل أوجبت له الندامة. ولیعلم أن البادئ بالصفح له من الاجر مع أجر صفحه أجر کل ما یتبعه من صفح وخیر وسداد، ولن یضیع ذلک عند الله سبحانه، بل یوفیه إیّاه عند الحاجة إلیه فی ظلمات البرزخ وعرصات القیامة. ومن أعان حامیاً من حماة المسلمین أو خلفه فی أهله وأعانه على أمر عائلته کان له من الأجر مثل أجر من جاهد.
20 ـ وعلى الجمیع أن یدعوا العصبیات الذمیمة ویتمسّکوا بمکارم الأخلاق، فإنّ الله جعل الناس أقواماً وشعوباً لیتعارفوا ویتبادلوا المنافع ویکون بعضهم عوناً للبعض الآخر , فلا تغلبنّکم الأفکار الضیقة والانانیات الشخصیّة، وقد علمتم ما حلّ بکم وبعامّة المسلمین فی سائر بلادهم حتّى أصبحت طاقاتهم وقواهم وأموالهم وثرواتهم تُهدر فی ضرب بعضهم لبعض، بدلاً من استثمارها فی مجال تطویر العلوم واستنماء النعم وصلاح أحوال الناس. فاتقوا فتنة لا تصیبن الذین ظلموا منکم خاصّة، أمّا وقد وقعت الفتنة فحاولوا إطفاءها وتجنّبوا إذکاءها واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرّقوا، واعلموا أنّ الله إن یعلم فی قلوبکم خیراً یؤتکم خیراً مما أخذ منکم، إنّ الله على کلّ شیء ٍ قدیر .