نص خطبة العلامة الغریفی فی مسجد الإمام الصادق(ع) کما یلی:
الخِطابُ الدّینیُّ ومقاربة الشّأن السّیاسیّ:
فی معالجةِ هذا العنوانِ برزتْ ثلاثةُ إتجاهات:
1) إتجاهٌ یخطرُ على الخطاب الدّینیُّ مقاربة الشأنِ السّیاسیّ.
2) إتجاهٌ یُعطی الخطابَ الدّینیُّ مطلق الحقّ فی مقاربة هذا الشأن.
3) إتجاهٌ وسطیّ یوازنُ بین الخطر المطلق والسّماح المطلق.
وبدأنا الحدیثَ عن الإتجاه الأول وفیما هی منطلقاتُه، الإتجاهُ الأولُ ینطلق من منطلقین:
1- المنطلقُ السّیاسی:
والمتمثل فی فرضِ وصایةٍ رسمیة على الخِطابُ الدّینیُّ..
ورُبَّما یبّررّ ذلک بالخشیةِ من إِنفلاتِ الخطاب وجنوحِهِ نحو التطرّفِ وإنتاجِ العُنفِ والإرهابِ، وکذا الخشیة من تکریسِ الکراهیةِ والفتنةِ والطائفیةِ مما یسیءَ إلى أمنِ الأوطانِ وإلى وحدةِ مکونهاتِها، ویدفعُ إلى تأزیمِ أوضاعها..
إنّنا لا ندافعُ عن خطابٍ من هذا الطِراز؛ کونَهُ خطابًا لاینتمی للهویة الدّینیة، ولا یعبّر عن أصالةِ الإنتماء إلى الأوطان، ولا یعتمد الأدواتِ المشروعةِ…
إنّما ندافعُ عن خطابٍ یعبّر عن قیم الدّینِ ونقائِهِ، وأهدافِهِ، وثوابتِهِ، ومُسلمّاتِهِ، وضروراتهِ…
إنّما نُدافعُ عن خطابٍ یحملُ قضایا الشُعوب، وهُمومها، ووحدتَها، ویحتضنُ همومَ الأوطان، ومصالحَها، ویحمی أمنها وإستقرارها..
إنّما ندافعُ عن خطابٍ لا تنفلتُ أدواتُهُ ووسائُلُه ولغتُهُ وکلماتّه..
– فما الخشیةُ من خطابٍ هذه هویتُهُ، وصبغُتُه، وأهدافُهُ، وأدواتُه..؟؟
– ولماذا الإصرارُ على إخضاعِهِ لقرارِ المؤسّساتِ الوضعیة، ورغبةِ الأنظمةِ الرسمیة..؟
2- المنطلق الفکری:
والذی اعتمد ثلاثةَ مبرّرات لاتصمدُ أمام النقدِ والمحاسبة..
فالمبرّرُ الأول:
یعتبرُ الشّأنَ السّیاسیّ خارجًا عن وظیفةِ الخِطابِ الدّینی ّ…
وفی هذا تحجیمٌ خطیرٌ لدورِ الدّین، ولوظیفة الخِطابِ الدّینیّ، فیما تفرضُه هذه الوظیفةُ من الدّفاع عن قضایا الشعوب، والتعبیرِ عن هموِمها والآمِها ومُعاناتِها…
وفیما تفرضُهُ من إعتمادِ “الکلِمة” فقط، وهذه الکلمةُ التی تحملُ ” الحکمةَ، والموعظةَ الحسنة، والمجادلةَ بالتی هی أحسن”
إسترشادًا بقول اللهِ تعالى:
• “ادْعُ إِلَى سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ”
وهذه “محدّدات” الخِطاب الدّینیّ والتی لایجوزُ الإنفلاتُ منها مهما کانت المبرّراتُ.. وسواءً أکانت المعالجاتُ عقیدیةً وفکریةً وفقهیةً، أو کانتْ روحیةً وأخلاقیةً وسلوکیةً أو کانت إجتماعیةً وإقتصادیةً وسیاسیةً..
فمادام الخطابُ مُحصّنًا بهذه المحدّداتِ فلا مُشکلة فی أنْ یقاربَ أیَّ شأنٍ من شؤونِ الحیاةِ..
امّا المبرّرُ الثانی:
والذی یعتبر الخِطابَ الدّینیّ غیر مؤهلٍ لمعالجةِ شؤونِ السّیاسةِ، فهو مبرّرٌ ساقطٌ، لایملک قیمةً علمیةً.
لانُرید أنْ ندّعی أنَّ کلَّ المنابرِ الدّینیةِ تملک رشدًا سیاسیًا .. هذه دعوى باطلةٌ قطعًا ..
ولکن أنْ یُدّعی أنَّ کلَّ هذه المنابَرِ مُفلِسةً سیاسیًا، ولا تملک أیَّ رُشدٍ فی هذه الشأن..
هذه الدعوى مِنها نرقٌ وطِشٌ، وتحمل جهلًا فاضحًا، فهلْ یمکنُ لکفاءاتٍ علمیةٍ تخصّصتْ فی أعقدِ المسائلِ الفقهیةِ والدّینیة أنْ تکونُ عاجزةً فی أنْ تفهمَ شیئًا من شؤونِ السّیاسیة، وأفکارِ السّیاسة، هذه الشؤون التی أصبحت مفتوحةً أمامَ الرأی العام، وأمامَ کلِّ المستویات..
لا أریدُ أنْ استهینَ بقیمةِ الوعی السّیاسی..
ولا أریدُ أنْ أقول أنّه لا یوجد خبراء فی الشأنِ السّیاسی ..
ولا أریدُ أنْ أقول أنَّ من حقَّ أیّ إنسانٍ أنْ یکون مُنّظرًا سیاسیًا وإن کان لایفهم (ألف باء) السّیاسة..
ما أریدُ أنْ أقولَهُ أنَّ تجریدَ کلَّ أصحابِ الخطابِ الدّینی من کفاءاتِ السّیاسة وقدراتِها أمرٌ لا یستندُ إلى مصداقیةٍ واقعیةٍ، ففی السّاحةِ علماءُ فقهٍ وشریعة، وقُدراتُ دینً یملکونَ من کفاءاتِ السّیاسةِ ما یعترف به منظرٌ السّیاسة فی هذا العصر..
وما لا نشکُ فیه أنَّ التعاطی مع الشأنِ السّیاسی فی مساراتِه النظریةِ والعملیةِ یفترضُ التوافرَ على “القدراتِ والکفاءاتِ”، وإلاّ شکّلَ هذه التعاطی إرباکًا لمساراتَ السّیاسة، ولا فرق فی ذلک أن یکون المتصدّی عالمَ دینٍ أو غیرَه..
وثالث المبرّراتِ التی یطرحُها أصحابُ الإتجاهَ الأول والذی یخطرُ على المنبرِ الدّینی أن یتعاطى مع الشأنِ السّیاسی هو:
الشفقة على حملةِ الدّین من التلوثات السّیاسیة..
وهذه کلمةُ حقٍّ یرادُ بها باطل کما قال أمیر المؤمنین (علیه السَّلام) حینما طرح الخوارجُ شعار”لا حکم إلاّ لله” ..
قد یبدو هذا المبرّرُ وجیهًا لدى البعضِ لسببین:
السَّببُ الأولُ:
کون السّیاسة فی واقِعها المتحرک مشحونةً بالکذبِ والزیفِ والدّجل..
السَّببُ الثانی:
الرغبةُ فی الحفاظِ على المکانةِ الرّوحیةِ النقیّة لعلماءِ الدّین..
إلاّ أنّنا لانُسلّم بصحةِ هذا المبرّر لتعطیل دور المنابرِ الدّینیة فی التصدّی لهموم الناسِ وقضایاهم على کلِّ المستویاتِ الرّوحیة والإجتماعیة والثقافیة والسّیاسیة.
نعم نوکّدُ إعتماد ” القیم والمعاییر النظیفة” فی التعاطی مع الشأنِ السّیاسی، وهل مأساةُ السّیاسةِ فی هذا العصرِ و کلّ عصر إلا غیاب هذه القیم والمعاییر..
إنّ النظافَة السّیاسیة من العناوین الکبیرة التی یجب العمل من أجل تحقیقها، وفی هذا حمایة للأوطانِ وصلاحٌ للشعوب..
ومن أهم الوسائِل لإنتاج النظافةِ السّیاسیة، أنْ یکون القیّمون على شؤون السّیاسة والمتصدّون لها یملکون درجاتٍ عالیة من “النظافة”، وبقدر ما تتوافر هذه النظافةِ تتصحّح مساراتُ السّیاسة، وتنجح مشروعاتُ الإصلاحِ والتغییر والبناءِ، وتتعزّزُ الثقةُ فی النفوسِ..
للحدیث تتمةٌ إنْ شاء الله تعالى..
کلمة أخیرة:
إنّنا مع کلَّ النداءاتِ التی تطالبُ بالإفراج عن أبنائنا المعتقلین، لیعودوا إلى مدارسهم، فموقِعُهم أنْ یکونوا على مقاعدِ الدِراسةِ ولیس خَلف القُضبانِ، موقعهم أن یکونوا فی المدراس ولیس فی السُجون..
أمر مؤلمٌ أنْ تبقى عیونُ هؤلاءِ الأبناءِ مشدودةً إلى الأطفال أفواجًا أفواجًا یزحفون إلى المدراس وهم یقبعونَ فی السّجون..
ما ینتظر هؤلاء من مستقبل؟
إنّه مستقبلٌ بلا دراسة، بلا علم، من حقّهم أنْ یدرسوا، أنْ یتعلموا لا أنْ یکونوا رهن الإعتقال..
قد یُقال:
إنّها مسؤولیة مَنْ زجًّ بهؤلاءِ الأطفال إلى الشوارعِ، وإلى أجواءِ السّیاسة..
لا نُرید أنْ نُحاسب الأسبابَ التی تدفع الناس أنْ یکونوا فی الشارع، وأن یکونوا معارضین..
ولا نرید أنْ نُبرّر لأیّ عملٍ یحدثُ فی الشارع..
إلاّ أنَّ الهُمومَ الثقیلة التی یعیشها الناسُ، تدفع بهم أنْ یقولوا کلمةً، أنْ یعلنوا رفضًا، أنْ یکونوا فی مسیرة، ولا فرق فی ذلک بین کبیر وصغیر، ولا بین رجلٍ وأمرأة، ولکن حینما تتحرک الحِکمةُ تصحح الأوضاع ..
إنَّ زجَّ الأطفال فی المعتقلاتِ أمرٌ فی غایة السّوء.. یجب أنْ تعالج قضایا هؤلاء بأسالیب غیر السّجون والمعتقلات…