وقال العلامة الغريفي خلال حديث الجمعة في جامع الإمام الصادق (ع) في منطقة القفول في العاصمة المنامة أن الفتن وإن اشتعلت دمرت أوطانا، وزعزعت أمنا وسلاما، وأزهقت أرواحا، وهتكت أعراضا، وأضاعت حقوقا، وعبثت، وأفسدت، وأرعبت، وخربت.
وجاء في نص الحديث:
“بسم الله الرحمـن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله الهداة الميامين.
كونوا دعاة محبة وتسامح
كثيرون يؤمنون بالمحبة والتسامح، إلا أنهم لا يتحولون دعاة محبة وتسامح!
وكثيرون لا يؤمنون بالكراهية والتعصب، إلا أنهم لا يتحولون دعاة رفض للكراهية والتعصب.
لا قيمة لإيمان لا يتحول ممارسة.
ولا قيمة لمفاهيم لا تتحول سلوكا.
ولا قيمة لمشاعر لا تتحول أفعالا.
إذا كان مطلوبا أن نؤمن بالمحبة والتسامح، فمطلوب بدرجة أكبر أن نمارس المحبة والتسامح، وأن نكون دعاة محبة وتسامح.
وإذا كان مطلوبا أن لا نؤمن بالكراهية والتعصب، فمطلوب بدرجة أكبر أن لا نمارس الكراهية والتعصب، وأن نكون دعاة رفض للكراهية والتعصب.
الدعوة إلى المحبة والتسامح، والنشاط في مواجهة الكراهية والتعصب ممارستان في غاية الأهمية والخطورة، ومن المؤسف جدا أنهما معطلتان عند أكثر الناس.
ما السبب في هذا التعطيل؟
لأن هاتين الممارستين تكلفان عناء، وجهدا، وتعبا، وصبرا، وثباتا، وتحملا، وبذلا، وعطاء، وتضحية، وأكثر الناس لا يريدون أن يقدموا ذلك، لأنهم استمرأوا الراحة، والدعة، والخمول، والكسل، والاسترخاء، والتخاذل، والانهزام.
وهنا أضع بعض كلمات:
الكلمة الأولى
إذا كان أعداء ديننا، وأعداء أمتنا، وأعداء أوطاننا، وأعداء شعوبنا، وأعداء وحدتنا قد استنفروا كل إمكاناتهم وقدراتهم، وكل مخططاتهم ومؤامراتهم؛ من أجل تمزيقنا، وتشتيتنا، وإضعافنا، فهل نملك مبررا شرعيا، وعقليا يسوغ لنا الكسل، والدعة، والراحة، والصمت، والتخاذل، والاسترخاء؟
إن الأوفياء لأوطانهم مطلوب منهم شرعا وعقلا أن يكونوا دعاة محبة وتسامح، ومطلوب منهم أن يحاربوا كل أشكال الكراهية والتعصب.
وأن يوظفوا ما لديهم من قدرت وطاقات في تحصين أوطانهم أمام موجات الفتن الطائفية، والمذهبية، وخطابات الكراهية والتعصب.
فما ظنكم بأوطان تغيب فيها دعوات المحبة والتسامح، وتعبث بها منتجات الكراهية والتعصب؟!
إنها أوطان مآلها إلى الدمار، والتمزق والانهيار، وتموت فيها كل المحصنات.
هنا تكون الضرورة لوجود دعاة إصلاح وبناء، وحملة محبة وتسامح في كل الأوطان، وهذا ما يحصن الأوطان، ويحميها من كل المآزق، والانهيارات، وكل الاختراقات.
جاء في القرآن الحكيم قول الله تعالى في (سورة هود: الآية 117): ﴿فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾.
هذا النص يتحدث موبخا القرون السالفة، حيث لم يوجد بينهم من تصدى لمحاربة الفساد سوى عدد قليل وهم الأنبياء والصالحون الذين آمنوا بالأنبياء، هؤلاء القلة أنجاهم الله سبحانه، وأما الآخرون فقد استمروا في غيهم، وفسادهم، وجرائمهم.
وكان مصيرهم الهلاك بسبب ظلمهم لأنفسهم.
وأكد النص القرآني على أن خلاص المجتمعات من الفساد والتمزق والضياع والهلاك لا يكون إلا إذا وجد في تلك المجتمعات من يتصدى لمحاربة الفساد، والانحراف، والفتن، والصراعات، والأهواء الزائفة.
فإذا فقد هؤلاء المصلحون، وسكت الجميع كانت مآلات المجتمعات والأوطان إلى الدمار، والفساد، والتمزق، والضياع، والفتن، والعداوات، ومات فيها الأمن والأمان، والمحبة والسلام.
في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: “لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإن لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض، ولا في السماء” (مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الصفحة105، الشيخ الطبرسي).
يحمل الحديث دلالات خطيرة جدا:
الدلالة الأولى: “لا يزال الناس بخير”
الخير عنوان يتسع لكل المساحات العقيدية، والثقافية، والروحية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والأمنية.
وكلمة “الناس” تعني: الأفراد، والجماعات، والكيانات، والطوائف، والمذاهب، والبلدان، والأوطان، والشعوب، والأنظمة الحاكمة.
الدلالة الثانية: إن الخير بكل مساحاته وامتداداته لا يستمر في حياة الناس بكل تموقعاتهم، وتشكلاتهم إلا إذا توفرت ثلاث ممارسات:
1- الأمر بالمعروف بكل ما يحمله هذا العنوان من مصاديق وتطبيقات.
ومن أبرز هذه المصاديق والتطبيقات: الدعوة إلى المحبة والتسامح، والوحدة والتآلف، ومن أعظم هذه المصاديق البناء، والإصلاح.
2- النهي عن المنكر بكل ظواهره، وممارساته.
ومن أبرز هذه الظواهر والممارسات: الفتن، والعصبيات، والصراعات، والعداوات، وغياب الإصلاح الاجتماعي والسياسي.
3- التعاون على البر بكل تجسيداته، وتجلياته.
ومن أوضح هذه التجسيدات والتجليات: التآخي، والتصافي، والتناصر، والتآثر، والتناصح، وتوحيد الجهود والقدرات؛ من أجل إصلاح الأوطان.
الدلالة الثالثة: وإذا غابت هذه الممارسات الثلاث في حياة الناس: (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر) حدثت لهم ثلاث نتائج خطيرة:
النتيجة الأولى: “نزعت منهم البركات”
أصيبت أوطانهم، ومجتمعاتهم، وشعورهم بالضمور في أموالهم، وثرواتهم، ومصادر دخلهم، وتعرضوا إلى أزمات، ونكسات اقتصادية، ومعيشية مرعبة ومدمرة، وسلبت منهم الخيرات، وكانت مآلاتهم، وأوضاعهم إلى الانهيار، والدمار، والفساد.
النتيجة الثانية: “وسلط بعضهم على بعض”
وهكذا تنتشر في الأوطان والمجتمعات المظالم، والاعتداءات على الحرمات، ومصادرة الحريات، والعبث بالحقوق، وإثارة الفتن والصراعات، ورواج المفاسد والمنكرات، وعندها لا يبقى أمن ولا أمان، ولا تعرف محبة ولا وئام، ولاعدل ولا إحسان.
النتيجة الثالثة: “ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء”
هؤلاء الذين تخلوا عن مسؤولياتهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر سوف يبقون بلا ناصر ينصرهم، فلن تقوى أن تحميهم، وتدافع عنهم كل قوى الأرض مهما أوتيت من قدرات، وإمكانات، واستعدادات عسكرية، وأمنية، واقتصادية، وسياسية، وحقوقية، وإعلامية، لماذا؟
لأنهم فقدوا الناصر في السماء، حيث تخلى الله تعالى عن مناصرتهم، وأوكلهم إلى أنفسهم كونهم تخلوا عن الله، وتمردوا على أوامره، وتشريعاته.
هذا هو مصير البشر، ومصير مجتمعاتهم حينما يتمردوا على توجيهات السماء، ويركنوا إلى الأرض.
وكل قوى الأرض مهما تعملقت، وسادت، وهيمنت، وحكمت، وبطشت، وأصبحت كبرى وعظمى، فإن مصيرها – مادامت قد انفصلت عن السماء – إلى السقوط، والانهيار، والانتهاء، والموت، والفناء.
هذه سنة الله في الأرض، حيث النصر في النهاية لكلمة الله، وشرع الله ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾ (سورة القصص: الآية 5-6).
ورغم أن هذا المقطع القرآني يتحدث عن نبي الله موسى (عليه السلام) وأصحابه الذين مكنهم الله، وانتصروا على فرعون، وهامان، وجنودهما إلا أن الروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) طبقوها على مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) حينما يقيم دولة الحق والعدل في آخر الزمان.
• سئل الإمام علي (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ (سورة القصص: الآية5).
فقال (عليه السلام): “هم آل محمد، يبعث الله مهديهم بعد جهدهم؛ ليعزهم، ويذل عدوهم” (بحار الأنوار51/54، العلامة المجلسي).
• وفيما روي عن الإمامين الباقر، والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: “إن هذه – يعني آية: ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا …﴾ – مخصوصة بصاحب الأمر – يعني: الإمام المهدي (عليه السلام)– الذي يظهر في آخر الزمان، ويبيد الجبابرة والفراعنة، ويملك الأرض شرقا وغربا، فيملأها عدلا كما ملئت جورا” (معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)5/324، الشيخ علي الكوراني العاملي).
إن الاستشهاد بالآية في مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) هو من باب الاستيحاء والتطبيق – كما يقول بعض المفسرين -، فالآية تؤكد أن سيطرة المستكبرين في الأرض لا بد لها من نهاية، فهذه سنة الله، وإن النهاية في الدنيا سوف تكون للمستضعفين الذين يرثون الأرض.
الكلمة الثانية: الفتن العمياء لا تستثني أحدا
حينما يتطاير شرر الفتن العمياء، فلن يستثني هذا الشرر أحدا، لن يستثني نائما، أو مسترخيا، أو قاعدا، أو كسولا، أو متخاذلا، أو منهزما، أو متفرجا، أو صامتا، أو مسالما.
ولن يستثني هذا الشرر بريئا، أو طفلا، أو امرأة، أو شيخا، أو ضعيفا، أو نسلا، أو حرثا.
ولن يستثنى مسجدا، أو معبدا، أو مرقصا، أو ملهى، أو مدرسة، أو مشفى، أو أي مرفق، أو منشأة، أو مؤسسة، أو ناد، أو ملعب، أو مسرح، أو شاطئ، أو بر، أو بحر، أو جو.
ثم إن هذا الشرر لن يستثني حاكما، أو وزيرا، أو مسؤولا، أو وجيها، أو تاجرا، أو عالما، أو مثقفا، أو أديبا، أو سياسيا، أو حقوقيا، أو إعلاميا، أو أستاذا، أو مربيا، أو في أي موقع.
الذين يصنعون الفتن، ويوقدون نيرانها، ويحركون شررها ربما يكونون أفرادا، وربما يكونون جماعات صغيرة، وربما يكونون قوى مغمورة، أو مجهولة، إلا أن نيران الفتن التي أوقدوها، وأن شررها المتطاير لن يقتصر على هؤلاء خاصة، بل يتسع ويتسع ويمتد، وينتشر حتى يحرق الأخضر واليابس!
يقول تعالى في (سورة الأنفال: الآية 25): ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة…﴾.
هذا النص القرآني يدعو المؤمنين جميعا أن يواجهوا الفتنة التي تنطلق من خلال الانحرافات، والخلافات، والعصبيات، لأن هذه الفتنة في نتائجها، وفي تأثيراتها لن تقتصر على الناس الذين صنعوها، وأثاروها، وأوقدوا نيرانها، بل تمتد إلى كل أفراد المجتمع، وإلى كل المواقع والمساحات.
فالعلاقات، والمصالح متشابكة، ومتداخلة، ومترابطة.
فإذا لم يمارس الناس مسؤولياتهم في التصدي لكل أشكال الانحرافات، ولكل أشكال الفتن والصراعات انهارت القيم، والمثل، والضوابط، والقوانين، والمحصنات، فينعدم الأمن، وينتشر الفساد، والعبث، وهكذا تحرق نار الفتنة صناعها، ومن هم أبرياء، وتصيب الأشرار، والأبرار!
فلينظر القاعدون المتخاذلون الساكتون عن مواجهة الفتن العمياء كيف أن هذه الفتن حينما اشتعلت كم دمرت أوطانا، وأرعبت شعوبا، وأربكت أوضاعا، وزعزعت أمنا وسلاما، وأزهقت أرواحا، وهتكت أعراضا، وأحرقت أموالا، وصادرت قيما ومثلا، وأضاعت حقوقا، وعبثت، وأفسدت، وأرعبت، وخربت.
ثم يتجه الخطاب القرآني إلى أولئك الذين يثيرون الفتنة، ويؤججون الأحقاد والضغائن، والمشاحنات، ويحركون الخلافات، والصراعات، والعداوات، ويحذرهم من عقاب الله: ﴿… واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ (سورة الأنفال: الآية25).
فكما أن صناع الفتنة مهددون بأشد العقاب من الله تعالى، فكذلك أولئك الصامتون والمداهنون، لأن هؤلاء شركاء في الفتنة، وفي منتجاتها المدمرة، وأثارها المرعبة.
لو لم يصمت الصامتون، ويداهن المداهنون؛ لتم محاصرة الفتنة، ولتم مواجهة كل منتجاتها وآثارها، لكنهم صمتوا، وداهنوا، فنشطت الفتنة ودمرت، وخربت، وأفسدت، وأرعبت، لذلك فمصيرهم مصير صناع الفتن، والجرائم، والمنكرات.
• في الحديث: “إن الله أوحى إلى شعيب النبي (عليه السلام): إني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم.
قال شعيب (عليه السلام): يا رب، هؤلاء الأشرار، فما ذنب الأخيار؟
قال: داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي” (روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه11/43، محمد تقي المجلسي – الأول).
والحديث عن العقوبات الإلهية لا تعني بالضرورة عقوبات الآخرة فقط، بل تعني كذلك عقوبات الدنيا، فيما هي الكوارث الأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحقوقية، والسياسية، والأمنية.
وهل النكبات، والأزمات التي تعاني منها أوطان المسلمين في هذا العصر إلا نتيجة طبيعية لممارسات خاطئة صادرة من أفراد، أو جماعات، أو مؤسسات، أو كيانات، وكلما كانت المواقع أكبر كانت مسؤولياتها أكبر في إنتاج التأزمات، والإرباكات، والأخطار التي تواجه الأوطان، وكانت مسؤولياتها أشد في إصلاح الأوضاع.
وكيف تتحمل المواقع مسؤولياتها في إصلاح الأوطان، هذا حديث ربما يأتي – إن شاء الله تعالى – في بعض لقاءاتنا القادمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(۹۸۶۳/ع۹۴۰)