وأكد سماحته على الباحثين و المفكرين من أصحاب الضمائر الحرة والأقلام النيرة السعي إلى إعادة كتابة التاريخ لما فيه من تزوير و تحريف لتاريخ النبي والعترة الطاهرة مما برر للغربيين و غيرهم الإساءة لنبي الإسلام(ص) وعترته (ع) و إن من ينبش دفائن التاريخ التي لا ترتبط بالحقيقة والواقع هم أولئك الذين يسممون أفكار الشباب بروح الطائفية المقيتة مما يدعوهم إلى إزهاق أرواحهم اليوم و على الشباب و غيرهم أن يكونوا على وعي و بصيرة بما يستمعون إليه لأنه ((من استمع إلى ناطق فقد عبده)) وعليهم الالتزام بالكتاب وسيرة النبي والعترة الطاهرة لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
تطل علينا في هذه الأيام ذكرى ولادة الإمام أبي محمد الحسن الزكي (ع) أول الأسباط من نسل محمد (ص) سيد الأنبياء و نسل علي (ع) سيد الاوصياء، وأول من اجتمع فيه نور النبوة و الإمامة فكان مجمع النورين وأحد النيرين و ملتقى البحرين ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ)) علي بحر نور الإمامة و فاطمة بحر نور النبوة و الكرامة.
هذا الإمام العظيم ذو الشأن الكبير سيد شباب أهل الجنة الذي كان له من العلم والفضل والكمال ما تعجز عن تسطيره الأقلام حتى كتب عنه أرباب التاريخ و السير ما يضيق المقام بذكره غير أنه من المؤسف أن افترى عليه الأعداء افتراءات كبيرة و خطيرة لغرض تضعيف شخصيته (ع) أمام خصومه و مناوئيه. وقد نقلها بعض كتاب العصر الحديث في كتبهم وأرسلوها إرسال المسلمات دون التثبت من مصادرها وحقيقتها ودوافعها والغاية التي وضعت من أجلها.
و لهذا فنحن مع أولئك الذين يدعون إلى إعادة كتابة التاريخ الاسلامي بموضوعية وبأيادٍ أمينة بعيدة عن التعصب و النصب؛ لأن تاريخ المسلمين ومن المؤسف قد كتب وفق أمزجة حكام العصر و أهوائهم من أمويين و عباسيين وغيرهم، وجاء المتأخر من المؤرخين ينقل عن المتقدمين دون أن يبحث عن دوافع من كتب وما كتب خصوصا في ما يرتبط بتاريخ النبي (ص) و العترة الطاهرة من أهل بيته وأتباعهم.
و لهذا السبب نجد بعض الغربيين استندوا في إساءتهم إلى النبي (ص) إلى هذه الخزعبلات الموضوعة من أن النبي (ص) كان يستمع إلى الغناء و كان يرقص مع بعض أزواجه و أنه كسائر البشر له حالة الرضا والغضب وأنه يسهو و يخطأ وغيرها مما جرأ هؤلاء على رسم ما يريدون. في حين إن سفارة الأنبياء ومقامهم أجل وأسمى من أن تتسرب إليه مثل هذه الشكوك والأوهام وإلا فلن يكون النبي موضعاً لأخذ الأحكام الإلهية عنه؛ ولهذا كان معصوماً عن الخطأ والزلل بنص آية التطهير وغيرها من الآيات المباركة.
ونحن لا ننسى دور كعب الأحبار و وهب بن منبه و المنافقين في نشر الأكاذيب في تاريخ المسلمين وتفاسيرهم ودس السموم فيها ووضعها كقنابل موقوتة تنفجر في حينها.
حتى جاء المتأخرون من أنصاف رجال الدين يبحثون عن ضالتهم في هذه الملفات المزورة ليتخذوا منها زاداً يغذون به شباب العصر و ناشئته و يصورون لهم بأن من يقتل و يحرق و يغرق ويفجر و يفتك بالمسلمين و أتباع أهل البيت (ع) هو من المقربين إلى الله و إلى رسوله وهو معه في الجنة.
فوظيفتنا في هذه الأيام أن نكون على وعي تام لما نستمع إليه؛ لأنه من استمع إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله و إن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان.
فعلى الشباب الواعي أن يتمسك بالعروتين الوثيقتين الهاديتين إلى الصراط المستقيم كتاب الله والعترة الطاهرة فإن المتمسك بهما لن يضل عن الطريق؛ لأنهما حبل الله المتين والعروة الوثقى التي أمرنا باتباعها وإليهما الإشارة بقوله (ص): (إني خلفت فيكم الثقلين إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي اهل بيتي)، وقوله (ص) لعمار في ما يرويه الفخر الرازي (ومَن اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى)، و قوله ايضا (يا عمار إذا رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ودع الناس ، فإنه لن يدلك على ردى ، ولن يخرجك من هدى).
فعلى الخطباء و المبلغين و المتحدثين في هذا الشهر الفضيل وغيره أن يكونوا دعاة للوحدة و نبذ الفرقة والتعامل مع الآخرين باللطف والتسامح واللين؛ فإن في سيرة النبي (ص) و العترة الطاهرة (ع) وأصحابه المتقين من الأحاديث و المواقف والقصص ما يوحد كلمة المسلمين ويؤلف ما بين قلوبهم. وعلينا أن ننقل إليهم محاسن كلامهم و حسن أخلاقهم وكيفية تعاملهم مع أعدائهم فإنهم إن استمعوا إليها أحبوا الإسلام و تمسكوا به. و لنا في سيرة الامام المجتبى الحسن بن علي (ع) و كرم أخلاقه ما يكون لنا قدوة وعظة وعبرة لنا و لأبنائنا.
وقد ذكر المؤرخون بأنه اجتاز عليه شخص شامي ممن تربى على غلظة الأخلاق و خشونتها فجعل يكيل للإمام (ع) السب و الشتم و الإمام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته. وبعد الفراغ التفت إليه الإمام مخاطبا إياه بلطيف القول وببسمة فياضة بالبشر قائلا: (أيها الشيخ أظنك غريبا ، ولعلك شبهت؛ فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك ..) وما زال يلاطف الشامي بهذا و مثله ليقلع روح العداء و الشر من نفسه حتى ذهل و لم يطق رد الكلام و بقي حائرا خجلا كيف يعتذر للإمام و كيف يمحو ذنبه، ثم بكى وقال: ((الله أعلم حيث يجعل رسالته)).
وكان من الطّبيعي أن يفعل الإمام الحسن (ع) ذلك مع هذا الإنسان المغرر حتى يرشده إلى الطريق الصحيح. وعلينا أن نتعلّم من هذه الأخلاق، ونأخذ بالمنهج الذي يجب أن نسير عليه ونفهم عمقه، لنتمكَّن من مواجهة الأجهزة التي ـ منذ بدء التاريخ وحتى الآن ـ تحاول أن تغيّر للناس أفكارهم، سواء كان ذلك بما يتصل بالدِّين أو المذهب أو السياسة أو الشّخص، بحيث تنطلق هذه الأجهزة في كلِّ عناصرها البشرية وآلياتها الإعلامية، في تشويه صورة شخصٍ ما، بأن تنسب إليه الكثير من الباطل أو السوء أو الشر مما ليس فيه وليس من أخلاقه، حتّى يأخذ الناس هذه الصورة المشوّهة عنه، فيعيشوا السلبية تجاهه، ليسبّوه ويلعنوه ويكفّروه ويضلّلوه.
كان معاوية يقول لأهل الشام، إن عليّاً لا يصلّي، وإننا نقاتله لنأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، وعندما استشهد أمير المؤمنين (ع) في محراب الكوفة، علم الناس كذب ذلك. وقد سأله ابن عباس يوما ما: لماذا تصرّ على سبّ عليّ و هو أتقى المتقين و سيد الوصيين؟ فقال معاوية: حتى يشبّ عليه الصغار، ويشيب عليه الكبار. وبقي الناس يسبّون عليّاً سبعين سنة لجهلهم و عدم وعيهم ، حتى جاء عمر بن عبد العزيز ورفع السبّ عن أمير المؤمنين (ع).
كانت الخطة أن يغسل معاوية أدمغة المسلمين بتأكيد بغض علي وأهل بيته(ع)، حتى لا يأتي بعده من يحمل رسالته وينطلق بالقيادة. ولذا أراد الإمام الحسن (ع) أن يغيّر منهجية هذا الشيخ من خلال التفكير بالواقع بعد أن غُسل دماغه بالباطل، واستطاع الإمام (ع) أن يربح صديقاً بعد أن كان عدوّاً تأكيداً للمنهج القرآني: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)). ولكن مشكلة الأسلوب الذي يتّبعه اليوم بعض المؤمنين والمتديّنين، أنهم يحوّلون أصدقاءهم إلى أعداء، لأنهم لا يعرفون كيف يديرون الأمور في المشاكل التي يواجهونها، فيحطمون بذلك رموز الإصلاح، وهذا ما يخالف نهج عليّ والحسن (ع).
و إليك لقطة ثانية من كرم أخلاقه؛ فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال (ع) (من فعل هذا بها؟ قال الغلام: أنا. قال الإمام: لم ذلك؟ قال الغلام: لأجلب لك الهم والغم. فتبسم عليه السلام، وقال له: لأسرّنك)، فأعتقه وأجزل له في العطاء.
وهكذا كان (ع) مثالا للإنسانية الكريمة و رمزا للخلق النبيل لا يثيره الغضب و لا يزعجه المكروه، قد وضع نصب عينيه قوله تعالى: ((خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)).
وقد قابل جميع ما لاقاه من سوء و أذى و مكروه من الحاقدين عليه بالصفح الجميل حتى اعترف ألد أعدائه مروان بن الحكم بسمو حلمه و عظيم خلقه و ذلك حينما انتقل الإمام الحسن (ع) إلى الرفيق الأعلى فبادر مروان إلى حمل جثمانه فقال له سيد الشهداء (ع) (أتحمل جثمانه وكنت تجرّعه الغصص؟!) قال مروان: كنت أفعل ذلك بمن كان يوازي حلمه الجبال.
لقد كان الإمام كجده الرسول (ص) في سعة حلمه و عظيم أخلاقه و صفحه عمن أساء إليه و قد روى التاريخ بوادر كثيرة من أخلاقه دلت على أنه في طليعة المساهمين في بناء الأخلاق و الآداب في دنيا المسلمين.
هذا غيض من فيض و لو تتبعنا سيرة أعلام النبوة و الصحابة الأجلاء لرأينا فيها من العظات و العبر ما يكون زاداً لحاضرنا ومستقبلنا و لأنفسنا وأبنائنا.
نسأل من المولى سبحانه وتعالى بعظمة هذا الشهر وببركة كريم أهل البيت (ع) أن يجعلنا من السائرين على هديه هدي النبوة و المقتفين أثره إنه ولي التوفيق.(۹۸۶۳/ع۹۴۰)