ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله معاذ بن جبل، حين قال له: "يا معاذ، أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورحم اليتيم، وحفظ الجوار، وكظم الغيظ، ولين الكلام، وبذل السلام. وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وقصر الأمل، وحسن العمل.. وأنهاك أن تشتم مسلما، أو تصدق كاذبا، أو تكذب صادقا. وأن تفسد في الأرض. يا معاذ، اذكر الله عند كل شجر وحجر، وأحدث لكل ذنب توبة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية. ولا تخف في الله لومة لائم". بهذه الوصية، أراد رسول الله أن يبين الحقيقة الَّتي يغفل عنها الكثيرون، وهي أنه لا يكفي حتى تعرف إيمان إنسان أن تنظر إلى طول ركوعه وسجوده، وطنطنته في الليل، وصيامه في النهار، وكثرة تردده إلى الحج، بل لا بد من أن ترى ذلك في حسن منطقه وسلوكه وأخلاقه، واهتمامه بالفقراء والمساكين والأيتام، وحسن تعامله مع الجيران، واستعداده لأن يجيب الله عندما يسأل عن عمره في ما أفناه، وماله من أين اكتسبه، وفي ما صرفه، ومدى خدمته للناس. ومتى وعينا ذلك، يصبح الدين قيمة في الحياة، ويساهم في استقرارها ونموها وتطورها، ويصبح المجتمع أقدر على مواجهات التحديات".
وقال :"البداية من لبنان، الذي لم يخرج بعد من وطأة الصدمة التي أحدثتها استقالة الرئيس الحريري المفاجئة، والتي تمت، كما بات من الواضح، في ظروف غير عادية، وأحاط بها الكثير من الغموض.. وما يزيد من هذا الغموض هو عدم تحقق الوعود التي وعد بها اللبنانيين بقرب عودته. ولذلك من الطبيعي، ومن الحكمة أيضا، الإصرار من كل اللبنانيين، ومن أعلى المواقع السياسية والروحية، على الانتظار وعدم ترتيب أية آثار على الاستقالة أو البت فيها قبل عودته إلى لبنان. ونحن في هذا المجال، نأمل أن تكون الحركة الدبلوماسية الغربية التي شعرت بثقل تداعيات هذه القضية عليها، والإصرار من الدولة اللبنانية، قد ساهمت في تحقيق هذه العودة".
أضاف: "لكن هذا لو حصل سيساهم في كشف الغموض أو بعض الغموض في هذه القضية، ويهدئ بال اللبنانيين عن مصير رئيس وزرائهم.. ولكن هذا لا يعني الحل، لكون الاستقالة قد تحصل، وكل الدلائل تؤكد ذلك، والأزمة سوف تستمر، وهي تعبر عن نفسها بمواصلة الضغوط على لبنان، ووضعه بين خيارين، إما اتخاذ موقف معاد من فريق لبناني وازن ومكون أساسي من مكونات الحكومة اللبنانية، وإما أن يكون البلد عرضة للعزل السياسي والاقتصادي، وقد يمتد الوضع إلى أبعد من ذلك، مع ما يعنيه ذلك من استدعاء فتنة داخلية تطيح بكل أجواء الاستقرار التي نعم به اللبنانيون طوال الفترة السابقة".
ورأى أن "هذا الواقع بات يستدعي حوارا بين اللبنانيين على كيفية التعامل مع كل المخاطر التي قد تحملها إليهم المرحلة القادمة وبكل أبعادها.. ونريده أن يكون حوارا موضوعيا تراعى فيه كل الهواجس والمخاوف الداخلية والخارجية، من دون الخضوع لضغوط الآخرين وإملاءاتهم التي قد تؤدي بالبلد إلى الفوضى وتهديد استقراره ووحدته ومصيره. وبالطبع، هذا الحوار لن يتوافر إلا باكتمال عقد القوى السياسية وعودة الرئيس الحريري".
وتابع: "انطلاقا من كل ما يجري، سنبقى نؤكد حرصنا في الانفتاح على المحيط العربي، ونريد أفضل العلاقات معه، ولكننا نريد للعرب أن يراعوا مصلحة لبنان واللبنانيين، وأن لا يحملوا لبنان أكثر من طاقته، أو يحملوه مسؤوليات ينوء بها، والجميع يعلم أن الحلول هي ليست بيد اللبنانيين".
وقال: "إننا نريد من الدول العربية أن تراعي خصوصية لبنان في أية خطوة تخطوها معه، وأن تأخذ في الاعتبار توازناته على المستوى الطائفي والمذهبي، حتى لا تكون سببا في فتنة لن تقف تداعياتها على الداخل اللبناني، بل ستمتد إلى المنطقة، فلا ينبغي لمن كانوا عونا له في وأد الفتنة فيه وفي الملمات، أن يدخلوه في فتنة تفتح لبنان مجددا على أفق مجهول، وقد تعيد تصعيد الصراع في المنطقة، وتعطل مشاريع التسويات التي قلصت من مساحة النيران المشتعلة إلى حد بعيد. ويبقى تأكيدنا للبنانيين الحرص على إبقاء التماسك الداخلي، وقطع الطريق على أية فتنة، وحسن الخطاب، وعدم استخدام أسلوب الإثارة، وأن يقولوا، كما أمرهم ربهم، التي هي أحسن، حتى لا ينزغ شيطان الفتنة بينهم.. فلا يكفي أن تقتنع بالكلمة حتى ترددها، بل لا بد من أن تدرس تأثيراتها في كل الساحات".
وشدد على أن "الوحدة بين اللبنانيين كانت الضمانة لإزالة احتلال العدو الصهيوني واقتلاع الإرهاب من أرض الوطن، وهي ستكون السبب في تجاوز أية سلبيات تحدث، فالآخرون لن يستطيعوا أن يعبثوا بأمننا وسياستنا إن لم يجدوا أرضا خصبة لهم، وسنعمل مع كل المخلصين على أن لا تكون هذه الأرض خصبة لأية مشاريع فتنة".
وختم: "ينتظر العالم العربي اجتماع المجلس الوزاري للوزاء العرب نهار الأحد القادم، والذي يحمل عنوانا واحدا هو مواجهة إيران.. في الوقت الَّذي تتصاعد الممارسات الاستيطانية والعدوانية بحق الشعب الفلسطيني والأزمات التي تعصف بالواقع العربي. إننا كنا، ولا نزال، نريد للجامعة العربية أن تقوم بدور الإطفائي، ومحاصرة المشكلات مع إيران، وأن تكون منبرا للحوار بين العرب وإيران، بدلا من إبقاء الاستنزاف الذي يصيب الجميع.. ونحن نتطلع إلى أن تعمل الجامعة بروحية المصلحة العليا العربية، على وأد الفتن التي تضج في العالم العربي، والتي لا تخدم إلا العدو الصهيوني الذي صار يتحدث بالفم الملآن عن أن قبته الحديدية ليست الصواريخ، بل هي الخلافات التي تعصف بالعالم العربي والعالم الإسلامي. لقد آن الأوان لإيقاف هذا الاستنزاف الجاري، ولا سبيل إلى ذلك إلا باللقاء والحوار". (۹۸۶۳/ع۹۴۰)