ولفت العلامة الغريفي في حديث الجمعة من جامع الإمام الصادق (ع) في منطقة القفول إلى أن هناك مَن يريد أن تتحرك هذه الحوارات العقيمة على حساب الحوارات الجادة لإجهاض كل القضايا العادلة ومن أجل إنتاج الأزمات.
وأكد العلامة السيد الغريفي أن المرحلة الحاضرة تحمل الكثير من التعقيدات، والإحباطات، وتحتاج لما اسماه الثنائية الفاعلة “الكلمة الواعية، والأفعال القادرة”.
وفيما يلي نص الحديث:
“بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمينَ، وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله الهداة الميامين.
وبعد، فمع أكثر من عنوان:
موسم الصديقة الزهراء (عليها السلام) وقضايا المرأة
الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعظم امرأة في تاريخ الدنيا وفق ما صدر عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين قال: “…، فاطمة سيدة نساء العالمين، …” (الأمالي، الصفحة78، الشيخ الصدوق).
لهذا يصح جدا أن نعتبر مناسبة الصديقة الزهراء (عليها السلام) فيما هي (الولادة)، وفيما هي (الشهادة) موسما؛ لمعالجة قضايا المرأة استهداء بسيرة الزهراء (عليها السلام)، وحياتها، وجهادها، وتضحياتها.
فهذا المقطع من الزمن – والذي يمتد شهرا، وبضعة أيام (بين الشهادة، والولادة) – مؤهل جدا لأن يكون (موسمَا) يتكرس فيه الحديث عن (شؤون المرأة).
نداء لكل المعنيين بشأن المرأة!
وهنا أوجه نداء إلى العلماء، والخطباء، وكل المعنيين بشأن المرأة في اعتماد (مناسبة الزهراء) موسما؛ لمعالجة قضايا المرأة بكل امتداداتها الثقافية، والروحية، والأخلاقية، والأسرية، والحقوقية، والاجتماعية، والسياسية.
إن موسم الزهراء (عليها السلام) هو أخصب مناسبة؛ لمقاربة (قضايا المرأة)، وهي قضايا في غاية الأهمية والخطورة، خاصة في عصرنا الحاضر، والذي أصبح شعاره الأبرز (الدفاع عن حقوق المرأة) على كل المستويات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وقد تشكلت منظمات، وهيئات، وجمعيات متفرغه؛ للدفاع عن قضايا المرأة، رغم تباين الرؤى، والقناعات في التعاطي مع هذه القضايا.
الخطاب الديني وقضايا المرأة
فهل يمتلك (خطابنا الديني) أن يقتحم هذه المساحة الصعبة، والمعقدة بكل تحدياتها، وإشكالاتها؟
والحديث ليس عن (الدين)، فهو قادر بكل تأكيد أن يكون الحاضرَ في كل عصر، وهو قادر في أن يقتحم كل الساحات.
ولكن الحديث عن قدرتنا نحن في أن نصوغ (خطاب الدين) بكل قدراته على (الاقتحام) في كل الساحات، وعلى الحضور في كل العصور.
وكذلك نتساءل:
هل يمتلك خطابنا الديني القدرةَ في أن يعطي لمناسبة الصديقة الزهراء (عليها السلام) حضورا في هذا العصر الذي تغيرت كل مكوناته، وحاجاته، وضروراته، وتعقدت إشكالاته، وصعوباته، وتحدياته.
مطلوب من الخطاب الديني في هذه المناسبة أن يجيب عن مجموعة تساؤلات مطروحة في الساحة المعاصرة.
نماذج من التساؤلات!
اذكر – هنا – نماذج من هذه التساؤلات:
التساؤل الأول: كيف يمكن أن نستدعي (نماذج من التاريخ)؛ لتكون (قدوَات) للمرأة في عصر مختلف كل الاختلاف عن تلك العصور الماضية؟
التساؤل الثاني: حينما يصر الدين على أن يصوغ المرأة وفق (منظومته الفقهية، والثقافية، والروحية، والاجتماعية)، فهل سوف يمكنها هذا من مواجهة تحديات هذا العصر، وإشكالاته؟
التساؤل الثالث: هل يسمح الدين للمرأة المسلمة في العصر الحاضر أن تمارس دورا ثقافيا، واجتماعيا، وتربويا، وسياسيا؟
وهل يفرض عليها هذا الدور أن تتنازل عن بعض التزاماتها الدينية؟
التساؤل الرابع: هل يملك الخطاب الديني (مشروعا للنهوض بالمرأة) في هذا العصر الذي تطورت كل أساليبه، وضروراته، وحاجاته، وثقافاته، وتعقدت إشكالاته، وتحدياته، ومعوقاته؟
التساؤل الخامس: هل يشكل (الستر، والعفاف) في حياة المرأة المسلمة أحد معوقات الحركة والنهوض في هذا العصر الذي فرض على المرأة أن تكون (الحاضرة) في كل المواقع، وأن تكون (المشاركة) في كل الأعمال، والمجالات، والاختصاصات؟
التساؤل السادس: هل لمتغيرات الزمان والمكان أثر في تغير (أحكام المرأة) في منظور الدين، أم أن هناك (ثوابت)، وهناك (متغيرات)؟
الثابت، والمتغير في فقه المرأة من أهم القضايا التي عالجها (فقهاء الدين) في أبحاثهم الفقهية.
هذه مجرد (نماذج) من تساؤلات مطلوب من (الخطاب الديني) في موسم الزهراء (عليها السلام) أن يجيب عنها بكل شفافية، ووضوح؛ لكي يعطي لهذا الموسم حضورا فاعلا، وأن يمَوضع (شخصية الصديقة الزهراء عليها السلام) في كل الواقع النسائي.
فهل استطاع (خطابنا) في المناسبة المتكررة في كل عام أن يصوغ (أجيالنا النسائية) في خطى الزهراء (عليها السلام)؟
وهل استطاع (خطابنا) في هذه المناسبة أن يجيب عن كل (التساؤلات)، و(الإشكالات) التي باتت تحاصر (الأجيال الجديدة) من بناتنا، وشاباتنا؟
ربما تتمركز المسؤولية على (العلماء، والخطباء) في توظيف هذه المناسبة.
إن هذا التوظيف في حاجة:
أولا: إلى درجة عالية من الوعي بقيمة هذا الموسم، وبقدرته على (صوغ أجيال المرأة) وفق المكونات المستلهَمَة من (شخصية الصديقة الزهراء عليها السلام) فيما تمثله هذه المكونات من أبعاد إيمانية، وفكرية، وروحية، وأخلاقية، وعبادية، وسلوكية، وجهادية.
ثانيا: إلى درجة عالية من الوعي بضرورات الواقع المعاصر، وحاجاته، وتحدياته، وإشكالاته، وأن غياب هذا الوعي يضع (الخطاب الديني) أمام (متاهات صعبه)، وأمام (منزلَقَات خطيره)، وأمام (اتهامات كبيرة).
ثالثا: إلى درجة عالية من (الكفاءات الخطابية) فيما تعنيه من (مهارات في الأسلوب)، و(قدرات في اللغة)، مما يعطي للخطاب (إنتاجية فاعلة)، خاصة وأن هذا الخطاب يتعامل مع (أجيال جديدة).
فإذا كان الخطاب الديني عاجزا عن الوصول إلى (ذهنية هذه الأجيال الجديدة)، فسوف يكون فاشلا في أداء مسؤولياته، وسوف تبقى هذه الأجيال مفصولة عن هذا الخطاب.
وحسبما يؤكد الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) على ضرورة تطوير الأساليب، والأدوات، ولغة الخطاب، لأن أجيال هذا العصر غير الأجيال الماضية، فـ:
1- الهموم تغيرت!
2- الذهنية تغيرت!
3- الثقافات تغيرت!
4- التحديات تغيرت!
5- الإشكالات تغيرت!
فالأجيال اليوم غير الأجيال بالأمس في مستواها الفكري، وفي مستواها الأخلاقي، وفي علاقاتها الاجتماعية، وفي أوضاعها الاقتصادية، وفي كل ظروفها، وحيث إننا نريد أن نزرع بذور التقوى، والورع، والإيمان في هذه الأجيال، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار الظروفَ، والتغيرات، والتصورات التي توجد في هذه الأجيال، وهذا ما يحدد لغة الخطاب، وأساليب العمل.
حينما تتعطل لغة التفاهم تتحرك لغة التخاصم!
أمر طبيعي جدا أن تختلف الرؤى، والقَناعات في قضايا الدين، والثقافة، والسياسة!
لا مشكلةَ في ذلك إطلاقا، فمن حق أي إنسان أن يحددَ خيارَه الديني، والثقافي، والسياسي بشرط أن ينطلق هذا التحديد من تفكير جاد، وموضوعي، ومنصف، وإلا عبر عن هوى وتيه، وتعصب.
فإذا كان هذا الاختلاف أمرا طبيعيا، فلا يعني أن يتحول إلى خلافات، وخصومات، وصراعات تؤزم أوضاع الأوطان.
هناك عوامل كثيرة تؤزم أوضاعَ الأوطان، ومن أخطر هذه العوامل (توتر العلاقات) بسبب (الجهل)، و(التعصب)، وبسبب (السياسيات الخطأ).
فالجهل يعمي البصائر، ويقود إلى المنزلَقَات، والمتاهات!
فالكثير من المعتركات الدينية، والثقافية، والسياسية هي من إنتاجات (الجهل)، أما الذين يمتلكون (الوعي، والبصيرة)، فنادرا ما ينزلقون في هذه المعتركات.
والتعصب كذلك يشكل أحد العوامل في إنتاج (الخلافات، والصراعات).
فالمتعصبون دينيا، ومذهبيا هم صناع الفتن العمياء، والتي مزقت الأوطانَ، وأرهقت الشعوب.
أما السياسات الخطأ، فدورها هو الأكبر والأخطر في تأزيم العلاقات بين (المكونات)، فكلما كانت السياسات صوابا، وصالحة استطاعت أن تصنع أوطانا مملوءة بالمحبة، والتسامح، والتآلف، وإذا كان العكس أصبحت الأوطان مأزومة مملوءة بالكراهية، والتعصب، والتشتت.
ومن أجل مواجهة كل أشكال الخلاف الديني، والثقافي، والسياسي لا بد من تحريك لغة التفاهم، وإذا غابت لغة التفاهم تحركت لغة التخاصم، اللغة التي تعقد العلاقات، وتؤزم الخيارات، وتباعد بين الرؤى والقناعات.
المحور هو الكَفَاءَة!
إن أبوابَ الحوار والتفاهم يجب أن تكون مفتوحة على كل المستويات الدينية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، بشرط أن تتوفر الجدية، والهادفية، والمصداقية.
ويجب الحذر كل الحذر من (الحوارات العقيمة)، و(السجالات الاستهلاكية) و(الجدالات المفلسة)، والتي تعمق (الخلافات)، و(الصراعات)، و(العَدَاوات)، وتؤزم (العلاقات).
هناك مَن يريد أن تتحرك هذه (الحوارات العقيمة)، و(السجالات الاستهلاكية) على حساب (الحوارات الجادة)؛ ومن أجل:
1- إجهاض كل (الاهتمامات الحقيقية)!
2- وكل (القضايا العادلة)!
3- ومن أجل إنتاج (الأزمات)!
المهم ألا يتصدى لأي حوار إلا مَن يملك (كفاءات الحوار).
فلا يصح أن يتصدى لحوارات الدين مَن لا يملك (كفاءات الدين).
ولا يصح أن يتصدى لحوارات الثقافة مَن لا يملك (كفاءات الثقافة).
ولا يصح أن يتصدى لحوارات الاقتصاد مَن لا يملك (كفاءات الاقتصاد).
ولا يصح أن يتصدى لحوارات السياسة مَن لا يملك (كفاءات السياسة).
تصوروا أنه اقتحم حوارات الدين (أدعياء دين)!
وتصورا أنه اقتحم حوارات الثقافة (أدعياء ثقافة)!
واقتحم حوارات الاقتصاد (أدعياء اقتصاد)!
واقتحم حوارات السياسة (أدعياء سياسة)!
واقتحم حوارات الحقوق (أدعياء حقوق)!
واقتحم حوارات الإعلام (أدعياء إعلام)!
فماذا ستكون النتائج؟!
1- مزيدا من الأزمات.
2- ومزيدا من الاحتقانات.
3- ومزيدا من الخلافات، والصراعات.
4- ومزيدا من العصبيات، والتعقيدات.
5- ومزيدا من الانفلاتات.
6- ومزيدا من المآسي، والوَيلات.
وهكذا تكون (الأوطان، والشعوب) هي الضحية!
نوعا الكلمة!
النوع الأول: الكلمة الراشدة خير
إنها كلمة تطلق من منبر ديني، أو ثقافي، أو سياسي، أو في صحافة، أو إعلام، أو في موقع هنا أو هناك، فإن كانت كلمة راشدة، بصيرة، نظيفة، صادقة، طيبة كانت منتجاتها خيرا، وصلاحا، وحبا، وتسامحا، وتآلفا، ووحدة، ورشدا، وأمنا، وسلاما، ونورا، وهدى.
النوع الثاني: الكلمة التائهة شر
وإن كانت كلمة تائهة، سيئة، فاسدة، كاذبة، خبيثة كانت منتجاتها شرا، وفسادا، وبغضا، وتعصبا، وتطرفا، وتمزقا، وتشتتا، وتشددا، وتطرفا، وجهلا، وغواية، وضلالا، فقد:
1- قال الله تعالى: ﴿أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ الله مَثَلا كَلمَة طَيبَة كَشَجَرة طَيبَة أَصلهَا ثَابت وَفَرعهَا في السمَاء * تؤتي أكلَهَا كل حين بإذن رَبهَا …﴾ (سورة إبراهيم: الآية24-25).
2- وقال الله تعالى: ﴿وَمَثل كَلمَة خَبيثَة كَشَجَرَة خَبيثَة اجتثت من فَوق الأَرض مَا لَهَا من قَرَار﴾ (سورة إبراهيم: الآية26).
فما أخطر الكلمة غير المسؤولة، فعواقبها وخيمة ومدمرة، وخاصة حينما تنطلق من مواقع حكم، أو مواقع دين، أو مواقع سياسة، أو مواقع إعلام، هذا الكلمة حينما تكون سيئة، كم هي محطمة لكل الآمال، والطموحات!
الاحتياج للأمل والتفاؤل
إن المرحلة الحاضرة تحمل الكثير من التعقيدات، والإحباطات، فما أحوج هذه المرحلة إلى كلمة، وإلى فعل يزرعان (الأمل، والتفاؤل).
الكلمة وحدَها – مَهمَا كانت مملوءة بالخير، والعطاء – لا تستطيع أن تزرع في النفوس أمَلا، وتفاؤلا ما لم تتزاوج مع أفعال قادرة على أن تمسح من النفوس كل اليأس، وكل الإحباط.
الثنائية الفاعلة: الكلمة الواعية، والأفعال القادرة!
الوطن في حاجة إلى هذا اللون من التزاوج؛ لكي يتم إنهاء (المؤزمات)، ولكي يتم إنتاج (التفاؤل الحقيقي).
إنها الضرورة؛ من أجل وطن تملؤه الثقة، والمحبة، والتسامح.
ومما يصدم المشاعر، ومما يقتل الثقة، ومما يحبط الآمال هو استمرار (المعَكرات)، الأمر الذي يعقد (الأَزَمات)، ويعطل (الحلول، والعلاجات).
ربما تختلف الرؤى، والقناعات في تحديد وتشخيص (المؤزمات، والمعكرات) إلا أن التفاهمَ الجاد والصادق قادر على أن يقارب بين الرؤى، والقناعات.
وقادر أن يؤسس للثقة – والتي أصابها الاهتزاز كثيرا -!
فالتطلع إلى خطوات تنقذ هذه (الثقة) لا أن تجهزَ عليها!
فالويل كل الويل للأوطان التي تموت فيها (الثقة) بين مكوناتها، بين أنظمتها وشعوبها!
المنطلق لكل مسارات الإصلاح هو (تعزيز الثقة)، ومن خلال (تنقية المناخات)، واعتماد (لغة الحب، والتسامح)، ومتى تم ذلك كانت البداية في مسار البناء، والتغيير، والإصلاح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين”. (۹۸۶/ع۹۴۰)