ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الحسن أخاه الإمام الحسين عندما قال له: "فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفا ووالدا، وأن تدفنني مع جدي رسول الله، فإني أحق به وببيته.. فأنشدك بالله، وبالقرابة التي قرب الله عز وجل منك، والرحم الماسة من رسول الله، أن لا تهرق في محجمة من دم، حتى نلقى رسول الله، فنختصم اليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا من بعده". بعد وفاة الحسن، منع بنو أمية جثمانه من أن يدفن قرب جده رسول الله، وهددوا بالقتال للحؤول دون دفنه بجواره، فلم يصر الإمام الحسين على ذلك، لا عن ضعف، بل التزاما بوصية أخيه الحسن، وقال يومها: "والله لولا عهد الحسن إلي بحقن الدماء، وأن لا أهرق في أمره محجمة دم، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها"، ودفن حيث هو الآن في البقيع، إلى جانب جدته فاطمة بنت أسد. لقد عبر الإمام في هذه الوصية عن مدى حرصه على عدم إراقة الدم وإحداث فتنة، حتى لو كان الأمر يتعلق بشيء كان يتمناه ويرغب فيه، وهو أن يدفن إلى جانب ضريح جده رسول الله.
واكد فض الله "اننا أحوج ما نكون إلى تعزيز هذه القيمة في واقعنا، لنخرج من واقع نعيشه، وهو استسهال الدم، فبذل الدم عنده لا ينبغي أن يكون إلا لتثبيت حق أو دفع ظلم أو إزالة احتلال أو سعي لإقامة عدل، عندما يكون بذل الدم هو السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك. وبهذا الالتزام، نصبح أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحديات".
وقال: "البداية من لبنان، الذي شهد الأسبوع الماضي احتجاجات شعبية تمثلت بتظاهرات وقطع طرقات وحرق إطارات، والتي جاءت تعبيرا عن مدى المعاناة التي وصل إليها إنسان هذا البلد في أبسط حقوقه ومتطلبات عيشه الكريم في الماء والكهرباء والغذاء والصحة والتعليم والعمل. ونحن أمام ما جرى، ندعو المسؤولين في الدولة إلى الإصغاء إلى وجع هؤلاء الناس وإلى معاناتهم، وعدم الاكتفاء بالحديث عن الخلفيات التي قد تقف وراء ما جرى، أو بعض ما أطلق في التحركات من شعارات، أو بعض ما حصل فيها".
اضاف: "إننا لا نشكك في إمكانية وجود خلفيات لما جرى، أو أهداف تريد إرباك وضع البلد، أو تسجيل نقاط على هذا الفريق أو ذاك، ولكن من يستغلون ذلك هم الذين استفادوا من مناخ موجود ومن ثغر حقيقية، وهي إن لم تعالج، فستهيئ مجالا أوسع لهؤلاء ليحققوا ما يريدون.
ومن هنا، فإننا نرى أن على الدولة ألا تتعاطى مع ما جرى باللامبالاة أو بالتهديد أو العنف أو بالتطمينات التي لا تستند إلى واقع، بقدر ما ندعوها إلى استنفار جهودها لإعادة الثقة بها، والإقدام على خطوات جدية في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، فلا تدفع المواطنين بعدها إلى النزول إلى الشارع مع كل السلبيات التي قد تحدث من وراء هذا النزول".
ورأى "ان الناس لا يزالون يرون أن الدولة لم تقدم على ما من شأنه أن يعيد الاعتبار إليها، ولا يرون جدية في التعامل مع الأزمات. ويكفي ان لديهم دليلا على ذلك، الخلافات التي تعصف بين أهل الحكم، وتقاذف المسؤوليات في ما بينهم، عوضا عن العمل المتواصل في مجلس الوزراء ومجلس النواب لترجمة الأفكار التي تم الإعلان عنها في بعبدا إلى قرارات وخطوات طال انتظارها".
وقال: "إن الإجراءات التي تتخذها الدولة ما تزال دون حجم الأزمة واتساعها، وهو ما برز أخيرا في تعميم مصرف لبنان الذي جاء ليعالج أزمة الدولار، فهو على أهميته، ورغم ما أحدثه من تبريد للسوق، فإنه لا يزال في إطار الإجراءات المؤقتة، ومن قبيل المسكنات في حركة السوق، ولكنه ليس حلا جذريا، بل قد لا يكون حلا".
اضاف: "إن المعالجة الحقيقية لم تبرز حتى الآن، وهنا نتساءل عن حالة الطوارئ الاقتصادية التي لم نر أي تعبير عملي عنها، إلا إذا كانت المسألة تتصل بقرطاسية الوزارات والتنظيفات والسندويشات، فيما المكان الذي ينبغي أن يصل إليه سيف الإصلاح لا يزال في مأمن، حيث لا يزال الحديث عن استمرار مزاريب الهدر والفساد والصفقات والتوظيفات والتلزيمات غير المشروعة، وعن محظورات هنا وهناك ممنوع الاقتراب منها، وعدم معالجة كل ما يتصل بالأملاك البحرية والكهرباء والنفايات والاتصالات وغير ذلك".
وتابع: "إننا نأمل أن تبذل اللجنة الاقتصادية الاجتماعية التي تم تأليفها جهودها، لتقديم تشخيص سليم للأزمة، وخطة حقيقية قابلة للتنفيذ ضمن وقت زمني محدد، بعيدا من كل الحسابات الطائفية والسياسية التي غالبا ما أوقفت كل سعي للإصلاح، أو فرض ضرائب جديدة تثقل كاهل المواطنين وتزيد من تفاقم الوضع الاقتصادي".
وقال: "بالانتقال إلى سوريا، فإننا نرى في تشكيل اللجنة الدستورية خطوة إيجابية، نتمنى أن تكون البداية في عملية الانفتاح على معالجة علمية وموضوعية لكل المشكلات والأزمات التي تعصف بهذا البلد، لتعود لسوريا وحدتها، ولترجع إلى موقعها الريادي ودورها في العالم العربي والإسلامي، وفي مواجهة غطرسة الكيان الصهيوني ومخططاته. ونأمل أن يكون التأييد العربي والدولي للجنة الدستورية جادا، وأن يساهم في اجتياز العقبات التي تواجهها، ومنع كل من قد يضع حجر عثرة أمام تأديتها لدورها. وفي الوقت نفسه، نرى في فتح معبر القائم ـ البوكمال إشارة إيجابية لكسر حلقة الحصار الاقتصادي عن سوريا والعراق ولبنان، وهو بالطبع سيساهم في تعزيز الثقة بوضع اقتصادي وتجاري أفضل تعيشه المنطقة وتحمي من خلاله مستقبل أهلها".
واضاف: "إلى اليمن، حيث نأمل أن تساهم التطورات الأخيرة في إقناع من لم يقتنع بعد بضرورة إطفاء نار هذه الحرب غير المشروعة في هذا البلد، والتي لم تنتج إلا المآسي والدمار البشري والعمراني والموت والجوع والفقر، وهو ما نراه ويراه العالم كله كعبء يثقل كاهل اليمنيين وبلاد الجوار".
وتابع: "والى العراق، الذي يشهد حالة اعتراض شعبية واسعة عبرت عن نفسها بتظاهرات شعبية في أكثر من منطقة احتجاجا على الفساد وتردي الأوضاع الخدماتية والبطالة وغيرها. إننا في الوقت الذي نعي معاناة هذا الشعب وعدم تلبية الكثير من حقوقه وحاجاته، رغم وجود الإمكانات الكبيرة في هذا البلد، ندعو الحكومة العراقية إلى الاستجابة السريعة لمطالب هذا الشعب المحقة، وأداء مسؤوليتها تجاهه، وقطع الطريق على كل المندسين الذين يريدون العبث بأمن العراق، ممن يستغلون آلام هذا الشعب لحساب مصالحهم وأهدافهم".
المصدر: الوكالة الوطنية