افاد مراسل وكالة رسا للانباء في النجف الاشرف ان سماحة المرجع اليعقوبي دعا المؤمنين الى التعاطف والتراحم في ظل الأوضاع الإنسانية التي يشهدها العالم بسبب انتشار فيروس كورونا، مبيناً اننا شهدنا في هذه الظروف العصيبة المشاعر التي تفجرت لدى الكثير من أصحاب القلوب الرحيمة عبر العالم.
وأضاف مراسلنا ان حديث سماحة المرجع جاء في نصه الآتي:
"لا شك ان وباء كورونا تسبّب في وفاة الالاف واصابة مئات الالاف في أكثر دول العالم وقطع ارزاق الكثير خصوصاً الذين يعملون بأجور يومية، وتسبّب أيضاً في تعطيل الكثير من مصالح الناس وشؤون حياتهم اليومية بسبب إجراءات الوقاية، وكل هذه المصائب والمعاناة والالام تستحق التعاطف والتراحم والمساعدة وهي المشاعر التي تفجرت لدى الكثير من أصحاب القلوب الرحيمة عبر العالم لم تمنعهم الحدود الجغرافية ولا الفوارق الدينية والعرقية والطائفية والأيدلوجية، ونسأل الله تعالى أن يرفع البلاء عن الجميع ببركة هذه الاعمال الانسانية النبيلة، ففي الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو أجمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة : 251] فوالله ما نزلت إلا فيكم ولا عنى بها غيركم).
وكمساهمة منا في المعالجة النفسية من الوباء نقول : ان كثيراً من الحوادث الواقعة التي تسبب أضراراً ويكون لها آثار سلبية على حياة الفرد والمجتمع يمكن أن تكون حالة إيجابية نافعة لو نُظِر اليها من جهة أخرى، مثلا عندما ينزل المطر فأن أهل المدن ينزعجون لما يسببه من تجمع المياه والأوحال في الشوارع فتعيق حركتهم وتلوث ملابسهم أو تسبب أضرار في أبنيتهم و نحو ذلك، لكن المطر نفسه مصدر خير وعطاء لأهل الأرياف و البساتين حيث تنتعش مزروعاتهم و تأتي لهم بحاصلٍ وفير، ويخلصهم المطر من الأتربة والغبار الذي يسبب ضيقاً في الصدر ويهيج الحساسية ونحو ذلك، وتجد هذا المعنى في قوله تعالى (له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب) (الحديد:13) و روي في كتاب عيون أخبار الرضا أنه (قيل: للإمام الصادق (عليه السلام) أخبرنا عن الطاعون فقال : عذاب لقوم ورحمة لآخرين قالوا: وكيف تكون الرحمة عذاب، قال: أما تعرفون ان نيران جهنم عذاب على الكفار و خزنة جهنم معهم فهي رحمة عليهم).
وسُئل الامام السجاد (عليه السلام) عن الطاعون أنبرأ ممن يلحقه فقال (عليه السلام) في الجواب: (ان كان لله عز وجل مطيعاً فإن الطاعون مما تمحّص به ذنوبه فان الله عز وجل عذّب به قوماً ورحم به اخرين واسعةً قدرته لما يشاء، اما ترون انه جعل الشمس ضياءً لعباده ومنضجاً لثمارهم ومبلغاً لأقواتهم، وقد يعذب بها قوما يبتليهم بحرها يوم القيامة لذنوبهم وفي الدنيا لسوء أعمالهم).
إن النظر الى الأمور بإيجابية يساعد على استقرار النفس واطمئنان القلب والرضا بما يجري والتخلص من القلق والازعاج الذي ينكّد الحياة ويدعو الى اليأس والإحباط ويدفع الى الاعتراض والتمرد وعلى الصعيد الصحي فانه (بحسب المختصين) يؤدي الى ضعف المناعة وزيادة احتمالية الإصابة بالأمراض.
بهذه النظرة الإيجابية يمكن ان يتحول وباء كورونا من مرض الى علاج لكثير من الامراض النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فقد استطاع هذا الفايروس بما أحدث من الخوف والهلع والعجز أن يخرج الناس من حالة الغفلة والتمرد على الله تعالى الى حالة الانقياد والتسليم لقدرته اللامتناهية وجعلهم يتوسلون الى الله تعالى وحده ليرفع عنهم البلاء .
كما كشف الفايروس عن حقيقة الآية الكريمة (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن اوهن البيوت لبيت العنكبوت) (العنكبوت\41) فقد ظهر عجز القوى المادية المتفرعنة التي ظنت انها قادرة على كل شيء وإنها لا يخرج من سيطرتها شيء وإذا بجيوشهم وأساطيلهم وتكنولوجيتهم التي أعدّوها لحرب النجوم فضلاً عن الأرض تقف عاجزة عن فعل شيء للحد من انتشار الفايروس.
وحّول الفايروس أموالاً كثيرة مما كانوا يصرفونها على الترسانة العسكرية والعدوان على الشعوب الى الخدمات الصحية ومساعدة الناس، كما عطّل مؤتمراتهم التي كانت تُعقد لوضع الخطط الخبيثة لظلم الشعوب ونهب خيراتها.
كما استطاع الفايروس تعطيل فعاليات الفسق والفجور والشذوذ الجنسي في الملاهي والحانات وصالات الرقص والمجون والفنادق وسواحل البحار وأمثالها.
وجعلهم يقتنعون بأن المتع واللذات والزخارف الدنيوية التي كانوا يلهثون وراءها وهمٌ صنعوه في مخيلاتهم ومتاع زائل يفقد كل قيمته في لحظة.
وألغى الفايروس مهرجاناتهم العبثية التي كانوا يقيمونها باستمرار لإلهاء الشعوب عن قضاياهم المصيرية وتضييع أوقاتهم بالألعاب الفارغة وتصرف فيها مليارات الدولارات ويحرم الجياع منها.
ودفعهم الى الاعتراف بأن ما يرتكبونه من موبقات كشرب الخمر وتناول المخدرات وأكل الأطعمة المحرمة هو سبب رئيسي لضعف المناعة والعجز عن مواجهة الاصابة بالفايروس.
وأدركوا أيضا الى ان اكتفائهم بممارسة الجنس بطرق غير المشروعة وانحسار ظاهر الزواج وما يتبعه من تباطؤ التكاثر جعل مجتمعهم هرماً ومتوسط أعماره عالية فأضعف قابليته على مواجهة الفايروس.
وعرّفهم هذا الوباء بعظمة الإسلام وتشريعاته الموافقة للفطرة الإنسانية والكفيلة بتحقيق السعادة الإنسانية في الدنيا قبل الاخرة، وان الإجراءات التي يوصي بها المختصون، لتطويق فايروس كورونا وهي النظافة والحجر الصحي قد أكّد عليها نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) قبل ألف وأربعمائة عام واكّد على تناول الدواء لمعالجة المرض وعدم الاعتماد على القضايا الروحية فقط فضلاً عن الاستسلام للخرافات والدجل والشعوذة، فقد روى جابر بن عبد الله قال: (قيل يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم تداووا فأن الله تبارك وتعالى لم ينزل الداء والا وقد أنزل له دواء)، مضافاً الى العلاج الروحي بالصلاة والدعاء، فقد روى الصدوق عن الامام الصادق (عليه السلام) عن النبي العظيم (صلى الله عليه واله).
(وكره أن يكلم الرجل مجذوما إلا أن يكون بينه وبينه قدر ذراع، وقال: فر من المجذوم فرارك من الأسد).
وأضعف اقتصادهم بعد ان أقنعوا البشرية بأنهم ملكوا زمام العالم بهذا الاقتصاد ولوثوا المناخ بما تفرزه مصانعهم وآلياتهم التي تملأ الشوارع من سموم فتعطلت هذه المصانع والسيارات وتحسّن المناخ بإيقافها.
وجعلهم يقتنعون أكثر من أي وقت مضى بالحاجة الى المنقذ والمخلِّص الذي يفك كل هذه العقد في حياتهم ويدلّهم على طريق السعادة والفلاح وهو ما نرجوه بظهور المهدي الموعود (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان الكل يعجز عن تصور كيفية تحقيق دولة العدل الإلهي في ظل هذه القوى المستكبرة العتيدة وكانوا يسخرون من الآمال المعقودة على المهدي الموعود (عليه السلام) واصحابه، وإذا بفايروس لا يُرى بالعين المجردة يهزم طغيانهم وجبروتهم.
لقد كان الابتلاء بهذا الفايروس ميداناً لكشف أخلاق الشعوب وما تؤمن به الأيديولوجيات المختلفة من قيم ومبادئ فبينما هرع الكثير من المتطوعين في بلادنا للعمل على معالجة المصابين وخدمتهم ودفن المتوفين بكرامة وتوقير ومساعدة العوائل التي توقف مصدر رزقها بسبب حظر التجوال والحجر الصحي بتوفير السلّات الغذائية المجانية لهم والتطوع لتعقيم وتعفير المرافق العامة والطرقات، نجد بعضاً من الحكومات الغربية تدعو الى تطبيق سياسة (مناعة القطيع) التي تعني عدم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية الشعوب وترك الوباء يأخذ مداه في إصابة الناس ولينجو من ينجو بمناعته الذاتية ويموت كبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة من دون توفير الأجهزة والعناية اللازمة لهم حتى ينتهي وجود الفايروس بتحصيل مناعة الناجين وموت من لا يملك المناعة لتتخلص الحكومة من دفع مبالغ المعونة الاجتماعية لهم والتي تشكّل عبئاً مالياً على الدولة بحسب وجهة نظرهم رغم ان ما يدفع لهم هو حصيلة الضرائب التي كانوا يدفعونها خلال مدة عملهم، وبذلك سُحقت كرامة الانسان عندهم خصوصاً المسنّ الذي يستحق في شريعتنا كل توقيرٍ واحترام.
ولما عملت الصين بما ينسجم مع المبادئ الإنسانية التي أمر بها الإسلام ورسّخها من التكاتف والتراحم والتضحية والايثار والإخلاص والالتزام استطاعت ان توقف انتشار هذا الفايروس في معقله ومركزه الأول (مدينة ووهان: مقاطعة هوبي) فأخذت بهذه السنن الإلهية الجارية في المخلوقات التي يحصل العاملون بها على ثمرتها وان لم يؤمنوا به تبارك وتعالى أو يطيعوه سبحانه (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الأحزاب -62)
إن كل ما حصل أو ما سيحصل يدعو البشرية الى إجراء مراجعة لأفكارها وسلوكياتها ولمبادئها وأولوياتها التي تؤمن بها، وأن يبادر نخب المفكرين والفلاسفة والمنظّرين الى حراك تغييري شامل مستفيدين من تجربة وباء فايروس كورونا وأسبابه وتداعياته قبل فوات الأوان لأننا لسنا بمأمن من الإبتلاء بأمر آخر تعجز عن مواجهته حتى الأساليب التي نجحت في تطويق كورونا ولو بمقدار ما.
ان الابتلاء بهذا الوباء واحد من كثير من الآثار السيئة التي يجلبها الانسان لنفسه ولمجتمعه بسوء تصرفه (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى:3) وان الله تعالى يدفع عن مخلوقه الكثير من مظاهر هذا الابتلاء ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله) (الرعد:11) { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود : 90).
هذه هي العلاقة الودودة المبنية على الرحمة بين الله تعالى وخلقه وان كانت من طرف واحد وهو الله تعالى لأن الانسان لا يقدّر هذا الود ولا يعطيه حقّه، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام : 91]، لكن الله تعالى قد يجد من مصلحة عبده ان يتركه لنفسه ولما جنت يداه من دون ان يتدخل للدفاع وترفع الملائكة المعقبات التي تدافع عن الانسان يدها عنه بعد ان يطول تمرده وعصيانه ويصبح ضاراً لنفسه وللآخرين، فيتركه يعاني من نتائج أفعاله لمصلحته عسى أن يثوب الى رشده ويصلح ما فسد من أمره.
وعلى المؤمنين أن يتّعظوا من حرمانهم من زيارة البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف والمشاهد المشرّفة للمعصومين (عليهم السلام) وخلو المساجد من صلاة الجماعة والذكر والدعاء فيها، وأن يحذروا من كونهم مقصودين بقوله تعالى (وان تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا امثالكم) (محمد:38).
فليبادروا الى الدعوة الى الله تعالى وتحبيبه للناس وأقناعهم بالرجوع، اليه تبارك وتعالى والالتزام بشريعته، وبيان عظمة الإسلام النقي الأصيل وأسراره وسمو أخلاق نبي الإسلام وأهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) وتحقيق السعادة التي تنشدها البشرية في دولة المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه).
وحذّروا الناس من العودة الى الغفلة والعصيان والتمرد كما وصفتهم الآية الكريمة {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر : 8] وذكرّوهم بأن الانسان باستقامته وجريه على السنن الآلهية الجارية في خلقه يستطيع أن يدفع البلاء بل يمنع من وقوعه اصلاً، وندعو بما كان الامام زين العابدين (عليه السلام) يقول في دعائه:(إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك) { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود:90).