ألقى العلامة السید علی فضل الله، خطبتی صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامین الحسنین فی حارة حریک، فی حضور عدد من الشخصیات العلمائیة والسیاسیة والاجتماعیة، وحشد من المؤمنین، ومما جاء فی خطبته السیاسیة: "عباد الله، أوصیکم وأوصی نفسی بتقوى الله وطاعته ولزوم أمره، وأحذرکم وأحذر نفسی من عصیانه ومخالفة أمره، لقوله تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعلیها وما ربک بظلام للعبید.ومن التقوى، أیها الأحبة، أن نأخذ بمضمون هذه القصة، حیث ورد فی السیرة، أن أحد أصحاب رسول الله، ویدعى أبو طلحة الأنصاری، کان یمتلک مالا کثیرا من نخل (أی أنه کان یملک نخلا کثیرا)، وکانت أحب أمواله إلیه "بیرحاء"، (إحدى أراضیه)".
وقال:" لعذوبة مائها، کان رسول الله یدخل إلیها لیشرب منها، فلما نزلت على رسول الله الآیة: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال له أبو طلحة: "یا رسول الله، لقد نزلت علیک آیة "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، وإن أحب مالی إلی "بیرحاء"، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله سبحانه، فضعها یا رسول الله حیث أراک الله". فقال رسول الله: "بخ بخ لک. ذلک مال رابح، ذلک مال رابح، وقد سمعت ما قلت بأن أضعه حیث أرانی الله، وإنی أرى أن تجعلها فی الأقربین"، فقسمها أبو طلحة بین أرحامه، کما أشار إلیه رسول الله".
وأضاف:"أیها الأحبة، بهذه الروح، روح المحبة لله والتضحیة فی سبیله بأغلى الأثمان، استطاع رسول الله أن یبنی مجتمعا متحابا متراحما متکافلا ومتعاونا، لم تقف حدوده عند الجزیرة العربیة، بل بلغ آفاق العالم. وبهذه الروح، نقوى، ونشتد، ونستطیع مواجهة التحدیات. والبدایة من لبنان، الذی لا تقف حدود معاناته عند الفراغ السیاسی وعدم انتظام عمل المؤسسات فیه، وما یترکه ذلک من أثر فی مسیرة الدولة ومصالح الوطن، والتحدی الأمنی من حدوده الشرقیة والجنوبیة، والأزمة المستمرة لمخطوفی الجیش ومعاناة أهلهم، لیواجه هذا البلد معاناة أخرى، وهی الفساد المستشری، وعلى مختلف المستویات، حیث تطالعنا الأخبار بین یوم وآخر بملف جدید هو أکثر خطورة من الملفات السابقة التی فتحت على مصارعها. فبعد الملف الأمنی والغذائی والصحی الذی لا یزال یتفاعل، أطل علینا مؤخرا ملف المواد المشعة التی تدخل البلد من خلال مقاولین، ولا نعرف ما تحمله الأیام القادمة من ملفات نائمة ومخفیة، تنتظر من یکشفها أو یمیط اللثام عنها".
وتابع:"إن هذا الواقع بات یستدعی تحرکا مسؤولا وجادا، لا یقف عند تحدید المسؤولیات، بل بات یستدعی إطلاق حال طوارىء فی البلد لمواجهة هذا الفساد، فلا یکفی أن یتحمل وزیر أو وزیران أو عدد من المسؤولین، أعباء هذه الملفات بأنفسهم، وأن یطالبوا بالحمایة والغطاء السیاسی لمواصلة جهودهم المشکورة فی هذا الجانب، بل إن المسألة تقع على عاتق کل الوزراء، وکل من هم فی مواقع المسؤولیة، حیث إن المطلوب تفعیل أجهزة الرقابة والتفتیش، والمتابعة الإداریة والمالیة الجادة. وفی الوقت نفسه، لا بد على الموجهین والمربین وعلماء الدین، من تفعیل جهودهم لاقتلاع جذور هذا الفساد من النفوس، لإخراج الإنسان من فردیته، ومن أنانیته، ومن الاستغراق فی مصالحه".
وقال:"إن أخطر ما یواجهنا، هو أن یستشری الفساد فی النفوس والعقول. وعندها، لن یأمن الإنسان على طعامه وشرابه وصحته، ولا على سلع یشتریها، ولا على عامل أو موظف، وسیشعر بأنه فی حالة طوارىء یومیة وخوف دائم".
وأضاف:" أما العراق، فإنه یخوض أقسى معارکه فی مواجهة الإرهاب، من خلال الجیش العراقی وکل فئات الشعب بتنوع أطیافه ومذاهبه، متجاوزا بذلک الحساسیات المذهبیة والطائفیة والقومیة، لیتصدى للارهاب الذی لم یکن فی أی یوم من الأیام یعمل لمصلحة أی مذهب أو فریق. إننا فی الوقت الذی ننوه بهذه الصورة الوطنیة الجامعة، نؤکد ضرورة حمایة المدنیین المسالمین فی المناطق التی یتم تحریرها، وندعو الجمیع، لا سیما من هم فی المواقع الدینیة، إلى التثبت من المعلومات، وعدم التسرع فی نقل الأخبار عن تعرض لمدنیین من مذهب معین، أو مجازر تتم بحقهم، ولا سیما أن هناک من یسعى من وراء تلک الأخبار، إلى خلق مناخات فتنة مذهبیة، أو صب الزیت على نارها.إن من حق أی جهة أن تدعو إلى تحقیق موضوعی، ولکن لیس من حقها أن تحکم، فالحکم لا بد من أن یستند إلى علم، لا على نقل أقوال أو إشاعات، ونحن لدینا کل الثقة بالقیادة العراقیة الحریصة على المدنیین، والتی لا تسمح لأحد بأن یتعرض لهم بسوء، فلا استهداف فی کل ما یجری لمذهب أو طائفة، بل هو استهداف لمن یسیء إلى أمن العراق ووحدته".
وتابع: "نحن فی هذا الإطار، نضم صوتنا إلى کل الأصوات التی دعت إلى العمل لتعزیز العلاقات الإسلامیة - الإسلامیة فی هذه المرحلة، فی ظل استنفار الغرائز المذهبیة، وفی ظل الصراع الذی تشهده العدید من الساحات تحت هذا العنوان، مما یضعف الساحة الإسلامیة، ویشتت الجهود فی مواجهة الإرهاب الذی یتهدد الجمیع. إن هذا الواقع یستدعی من الجمیع التلاقی لمعالجة الأسباب وحل المشکلات، بدل الاستمرار فی الاستنزاف الذی لن یفید إلا أعداء هذه الأمة، والإرهاب المتربص بنا جمیعا".
وختم:"إلى الیمن، حیث نأمل أن تعود اللحمة بین أبنائه، وأن تساهم دعوات الحوار التی أطلقت، فی توحید صفوف الیمنیین، لا فی زیادة انقسامهم، أو تأکید هذا الانقسام، فلا یمکن أن یتحقق الاستقرار فی هذا البلد باستبعاد فریق أو تهمیش آخر، بل بالتوافق بین کل المکونات الدینیة والقبلیة والسیاسیة والمناطقیة، على صیغة تعید إلى البلد استقراره، وهذا لیس ببعید إن صدقت النیات، ولم یدخل البلد فی تجاذبات المحاور وصراعها".