ألقى العلامة السید علی فضل الله، خطبتی صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامین الحسنین فی حارة حریک، فی حضور عدد من الشخصیات العلمائیة والسیاسیة والاجتماعیة، وحشد من المؤمنین، ومما جاء فی خطبته السیاسیة: "عباد الله، أوصیکم وأوصی نفسی بتقوى الله ولزوم طاعته؛ هذه التقوى التی تعزز فینا الرقابة على أنفسنا وعلى کلماتنا ومشاعرنا ومواقفنا، وتجعلنا أکثر وعیا لمسؤولیاتنا حینما نوسع دائرة هذه المسؤولیات، لتشمل حتى البقاع والبهائم، وهذا ما حرص علیه الإمام علی عندما قال: "اتقوا الله فی عباده وبلاده، فإنکم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطیعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأیتم الخیر فخذوا به، وإذا رأیتم الشر فأعرضوا عنه".
أیها الأحبة، علینا أن نحسن نیتنا لتکون خالصة لله ولحسابه. ومتى فعلنا ذلک، سنکون بعینه التی لا تنام، وسنکون أقدر على مواجهة التحدیات".
اضاف: "انتهى الأسبوع الماضی على قضایا وأحداث عدة: أولا، انتهاء الجولة الأولى والطویلة من المفاوضات النوویة باتفاق مبادئ یمثل خطوة هامة على طریق الاتفاق النهائی. إننا إذ نبارک هذا الاتفاق الذی استطاعت فیه الجمهوریة الإسلامیة أن تنتزع اعترافا من العالم ببرنامجها النووی، الذی أرادته من الأساس أن یکون برنامجا سلمیا لا عسکریا، نأمل أن یتم التوصل إلى الاتفاق النهائی، لیساهم فی بناء العلاقات بین الشرق والغرب على أسس متوازنة، ویهیئ الظروف المؤاتیة لمعالجة الکثیر من الملفات العالقة فی منطقتنا، التی تعج بالتوترات والتشنجات والفتن والحروب.
ثانیا: أحداث الیمن، التی تؤکد یوما بعد یوم، أن لا جدوى من التدخل العسکری الذی حصل تحت عنوان إعادة الاستقرار لهذا البلد، فالصراع الداخلی فیه یتأجج، فضلا عن تزاید أعداد الضحایا البریئة، والدمار الذی تخلفه الغارات الجویة وعملیات القصف المدفعی على بنیته التحتیة ومقدراته واقتصاده.
ومن هنا، فإننا نعید التشدید على ما أشرنا إلیه سابقا، بضرورة الإسراع فی إیقاف التدخل العسکری، وتهیئة مناخات العودة إلى طاولة الحوار، للتوصل إلى اتفاق یتأسس على قاعدة التوازن بین کل مکونات الشعب الیمنی، وعدم الغلبة لأحد على أحد، فمنطق الغلبة هو الأساس فی إشعال کل الحروب الداخلیة، والدافع نحو الاستقواء بالخارج.
ومن هنا، فإننا نرى أهمیة فی الدعوة التی أطلقتها الجمهوریة الإسلامیة إلى مد الید للتعاون مع المملکة العربیة السعودیة لحل هذه الأزمة. ولا نزال نراهن على عودة لغة العقل والحکمة، کبدیل من الاستنزاف الذی یراد لجمیع فرقاء الصراع الداخلی والخارجی أن یغرقوا فیه، والذی لن یربح فیه سوى الذین یقتاتون على الحروب والفتن الداخلیة. وبالطبع، فإن ذلک کله سیصب فی مصلحة الکیان الصهیونی، الذی سیزداد فرحا وهو ینظر إلى تدمیر بنیة الجیش الیمنی، الذی ینضم إلى الجیوش العربیة الأخرى التی أنهکت وضعفت.
وهنا، نعید التأکید على أن ما یحصل فی الیمن لیس حربا مذهبیة، سواء فی طبیعته أو فی منطلقاته، وإنما هو صراع سیاسی یتقاطع مع الصراعات الإقلیمیة أولا، والدولیة ثانیا.
إننا من هذا المنطلق، ندعو إلى الکف عن هذا الاستخدام الصارخ للعناوین المذهبیة، لتأجیج هذا الصراع، والذی تشارک فیه وسائل إعلامیة، ومواقع تواصل، وبعض الشخصیات والرموز الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة.
ونقول للجمیع: إن اللعب على وتر إثارة الحساسیات المذهبیة والطائفیة خطیر وخطیر جدا، وسیکون هو الترجمة العملیة لما تحدث عنه بعض القادة الغربیین، حین أشار إلى السعی لإدخال البلاد فی آتون حرب المائة عام بین السنة والشیعة.
ثالثا: القمة العربیة، حیث نرى الأهمیة للتضامن العربی، ولأی عمل عربی مشترک یؤدی إلى حمایة العالم العربی من الأخطار المحدقة به. ولکن یبقى أن نسأل: ما هی وجهة هذه القوة؟ هل هی لحمایة الأنظمة، أم لخوض صراعات عربیة ــ عربیة، أو عربیة ـ إسلامیة؟ وهل ستکون مهمتها مواجهة الکیان الصهیونی وحمایة البلدان العربیة من أخطار الخارج وتدخلاته ونهبه لثرواتها؟
إننا نرید للعالم العربی أن یدرس بعمق من هم أعداؤه الحقیقیون، بعیدا عن کل الهواجس والمخاوف التی تزرع، وتجعله یوجه بندقیته إلى غیر وجهتها الحقیقیة، ویغرق مجددا فی حروب استنزاف تستنزف قدراته وإمکاناته وکل عناصر القوة فیه.
ویبقى أن نشیر إلى أن حل أزمات العالم العربی لا یقتصر على بناء القدرات العسکریة، بل لا بد من أن یواکب ذلک بمشاریع للتنمیة على مختلف المستویات، والعمل لإخراج هذا العالم مما یعانیه من الفقر والتخلف والغبن والتهمیش والإحباط، ومن کل السیاسات التی تجعل الإنسان العربی لا یثق بحکامه، ولا بتضامنهم فی ما بینهم، والتی تمنیه بربیع عربی سرعان ما یتحول إلى خریف وشتاء.
رابعا: دخول القوى الأمنیة العراقیة إلى تکریت. وهنا، نهنئ الجیش العراقی، والشرطة الاتحادیة، والحشد الشعبی، والعشائر، على توحدهم ووقوفهم معا فی تحقیق هذا الإنجاز. إننا نرى فی هذا الإنجاز تعبیرا عملیا عن صورة العراق المتنوِع فی طوائفه ومذاهبه وعشائره، ولکنه المتوحد فی مواقفه تجاه أعدائه.
إن نجاح هذه التجربة مرهون بمنع تسلل العابثین الذین یریدون تشویه هذا الإنجاز، وإظهار البعد الطائفی والمذهبی فیه، مما لا یریده صانعوه.. وهنا نذکر العراقیین بقول رسول الله بعدما عاد من إحدى معارکه، حیث توجه إلى جیشه المنتشی بالنصر قائلا: "عدتم من الجهاد الأصغر، وبقی علیکم الجهاد الأکبر"، ونقول لهم: عدتم من الجهاد الأصغر، وبقی علیکم جهاد التغلب على الحساسیات والعصبیات والأهواء والمصالح الخاصة".
وتابع: "ونعود إلى لبنان الذی تستمر معاناته على مختلف المستویات، لنؤکد مجددا ضرورة العمل لإبعاد هذا البلد عن کل الحرائق المحیطة به. وهنا نشدد على أهمیة الخطاب الهادئ والعقلانی والواعی. إن من حق کل فریق سیاسی أن یعبر عن رأیه، وأن یؤید هذا البلد أو ذاک، ولکن من حق الوطن علیه، أن یحسب حسابا لتداعیات کلماته ومواقفه على الداخل اللبنانی، الذی یحتاج دوما إلى الذین یدافعون عن وجهة نظرهم، ولکن بالتی هی أحسن. وهنا علینا أن نفرق بین من یتحدث بحرقة عن مصلحة بلده والعالم العربی والإسلامی، ویشیر إلى نقاط الضعف الموجودة فیه، ومن یتحدث بمنطق المصالح الشخصیة. ویبقى أخیرا أن نذکر أنفسنا بضرورة الخروج من منطق التسرع فی الاتهامات، حیث نجد أن هناک من یتهم هذا بوطنیته، وذاک بالعمالة لهذا أو ذاک، مما قد لا یستند إلى دلیل.. ولیکن الموقف دائما هو قول الله تعالى: {ولا تقْف ما لیْس لک بِهِ عِلْم إِن السمْع والْبصر والْفؤاد کل أولـئِک کان عنْه مسْؤولا}.. وما قاله رسول الله(ص) عندما جاء إلیه رجل یسأله: کیف أحکم؟ قال له(ص): "على مثل هذه فاشهد أو دع"، وأشار إلى الشمس وهی فی وضح النهار. إننا نعیش فی عالم نحتاج فیه إلى تعزیز ساحاتنا وتقویتها، بدلا من العبث بها، وعلینا أن نتعلم عندما نختلف، أن نتجرد من ذاتیاتنا، بحیث یخاطب العقل العقل، والقلب القلب، لا الغرائز والانفعالات، ولنتمثل بذلک قول الإمام علی(ع): "لا یکن أفضل ما نلت فی نفسک من دنیاک بلوغ لذة أو شفاء غیظ، ولکن إطفاء باطل أو إحیاء حق".