جاء فيها: "هو يوم الله وعيد عباده الذين أخلصوا له، وطافوا كعبة حقه، ومجدوا طاعته، واعتصموا به، وأقاموا على عهده، وعقدوا القلب، وقصدوا ديار الصدق وأنابوا وتثبتوا، وأعلنوا لله طاعتهم، ونزولهم على شرعه، وقيامهم على دينه. هو عيد يراد منه تعظيم أمر حجيج الله، وسائر خلقه ممن أنابوا واستقاموا، تمييزا لهم عمن اختار إبليس بشره وفساده وباطله ورجس مشاريعه. ولذا، وصف أمير المؤمنين علي هذا اليوم باليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون. ألا وإن الطاعة في دين الله تعالى لا تعني الاصطفاف في محاريب العبادة فقط، إنما هي انخراط في مشروع الله بإنسانه وخلقه، وطبيعة نظامهم، لتأكيد عدل السلطة، وضمان حقوق الرعية، وأمان الأوطان، ورشاد البرامج التنموية والسياسية والاجتماعية، التي تتقاطع وقول الله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم)، ليحسم بذلك قضية العيد والأوطان، والسلطات القائمة والأشكال والأطر الاجتماعية والسياسية، ضبطا على حقوق ناسنا وشعبنا وخلق الله تعالى.
والعيد في يومنا بين محسن ومبطل، وشقي وسعيد، ومدلس ورشيد، لأن كثيرا من خلق الله تنكر لله، وتعامل مع الدنيا وكأنها الإله المعبود، حتى أضاع أكثرهم الصلوات، واتبعوا الشهوات، ومالوا إلى الأهواء، وأكثروا من سفك الدماء، وعظموا أصحاب الفساد، وباعوا الدين بالدنيا، حتى ذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء، مما يرى من النهب والسلب والتسلط والفساد. كل ذلك وسط عقليات متنفذة، وقوى تشبعت من الثراء والامكانيات، حتى أصبح الشر فيهم خيرا، والخير شرا، وكثر المتملق، وغنم المتسلط، وخمد الحق، وصدح الباطل، فأضحت السجون مكتظة بالفقراء الذين سجنوا باسم الشعب المذبوح، بسكاكين الفساد، كل هذا فضلا عن غالبية ناسنا التي تأن من الجوع والإفقار والبطالة والعزل بألف طريقة وطريقة. والحال، أن عيدنا اليوم مغمس بالعداوات والفتن والحرائق والحروب، التي تطوق منطقتنا منذ ما يقرب العشر سنوات، ولم تخمد، رغم أن الله تعالى خاطب أمة نبيه، مؤكدا عليها لزوم الوحدة والاعتصام بحبله، ومنطق دينه، ورحمته، لمنع الظلم والفرقة والفساد والاضطهاد والعدوان بكافة أشكاله، من شكل السلطة ورؤاها العشوائية وأطرها الفاسدة، وبرامجها المتخلفة، إلى طريقة الحكم، ومفاهيم الاستبداد بمختلف أنواعه، وهو ما نعاني من آثاره، من إفقار ويأس واستنزاف وحصار شامل في لبنان، وسط أزمة مجتمع وسلطة وتجار جوع وحيتان أسعار وسلع، وذئاب احتكار، وتماسيح متعطشة، وضعت لبنان أمام كوارث مجتمعية وأخلاقية، وكشفت عن عجز مخيف في قدرة السلطة، وغياب كلي للضمير عند من يحكم ويتحكم بمقدرات الوطن وناسه.
ورغم أننا نعيش هذا العام مناسبة مرور قرن كامل على إنشاء دولة لبنان، ككيان سياسي، إلا أن من أنشأه فخخه بالطائفية، وزرع فيه كل أسباب فساده وسقوطه. ومع ذلك، ما زلنا نعول اليوم على العقلاء والمخلصين في هذا البلد لإنقاذه من السقوط وكارثة الاندثار، لأن أكثر من حكم استبد، واحتكر، وتسلط، وتمكن من ثروات وإمكانات هذا البلد. إن البلد يعيش كارثة تاريخية موصوفة وبكل المعايير، فيما هناك من يكابد ويناكد؛ البلد ينحرف وينجرف بسرعة فائقة، وهناك من يلعب لعبة الفتنة ويصب الزيت على النار، البلد أمام مشروع دولي وإقليمي لإعادة ترسيمه على قاعدة جغرافية الطوائف والمذاهب، وعلى مبدأ (لكم دينكم ولي دين). البلد أمام الخطر الكبير، لأن الفتنة تبدأ بالكلمة، ولا تنتهي بها، تماما كما هو الشر، مفتاحه كلمة، ولكن نهايته وخيمة. لذا ومن خلال هذا اليوم المبارك أتوجه للجميع بالقول:
أولا - يا شعبنا لا يجوز السقوط في مصيدة المشروع الدولي الإقليمي، الذي يضيق الحصار على بلدنا، ويشد الخناق على أعناق شعبنا، ويحول دون قيام دولة مواطنة مدنية والتي وحدها تجمعنا، ووحدها تحمينا، ووحدها يجب أن نتعاضد من أجلها، لأن أي خطأ في حسابات البعض ممن يفكر بالتقسيم والفدرلة، يعني العودة إلى مشاريع الاحتراب والفتن والاقتتال بين اللبنانيين، والوقوع مجددا فريسة الذئاب الهائجة في زمن الحرب الأهلية، والتي ما زالت تداعياتها ماثلة أمام أعيننا.
ثانيا - المنطقة ملتهبة، والصراع الدولي يتفاقم فيها بشدة، وقصة الحياد مستحيلة، لا لأننا لا نريدها، بل لأنها غير ممكنة على الإطلاق، فالعالم مقسوم بشدة، ومنطقتنا مشتعلة بمختلف الحروب والأدوات، والحشد الدولي يخوض معارك على المنطقة ولبنان فيها، ويعيد انتاج القوة لتقسيم الدول والكيانات، بما فيها بلدنا، ومن يضع رأسه في الرمال يؤكل، فلا تضعوا رؤوسكم في الرمال كما حصل في فيينا وسايكس بيكو ووعد بلفور وغيرهم، فالمنطقة إلى كارثة، إن لم تبادر القوى العربية والإسلامية الوازنة إلى مصالحة سياسية وأخلاقية، وسحب فتيل التفجير من أيدي الأميركي. وهذا ما نأمله من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية ومن تركيا ومصر وغيرهم، والمعول عليهم الدخول في تسوية سياسية كبيرة، تحت شعار القرآن الكريم (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وإلا فإن المنطقة إلى كارثة غير مسبوقة.
ثالثا - في يوم الله وعيده نناشد الدول العربية والإسلامية وكل من له صلة، العمل على حقن دماء ناسنا وشعوبنا، في اليمن وسوريا وليبيا والعراق وسيناء، ووقف تمزيق العرب بالعرب، وهذا ما قلناه في أول أحداث الشام "اطفئوا نار الشام قبل أن تدخل كل بيوت العرب"، وقد دخلتها للأسف الشديد.
نحن نناشد الجميع وندعوهم إلى لحظة تاريخية، وإلى موقف عربي قيمي أخلاقي إنساني إيماني، يخمد حروب المنطقة، ويدخلها في مشروع (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، نعم أصلحوا وسيسجل لكم التاريخ هذه المبادرة، أما الإصرار على القطيعة والحروب وسفك دماء بعضكم بعضا، يعني أنتم وأوطانكم وشعوبكم إلى الدمار والاندثار الأكبر.
رابعا - يعيش لبنان على وقع دوي حروب المنطقة الهائجة، في ظل مشروع دولي إقليمي، يرعاه ويديره الأمريكي ويمارسه حربا اقتصادية هائلة على لبنان، ويفرضه حصارا دوليا شاملا على شعبه ومشروع دولته، وسط انقسام سياسي داخلي، ودعوات للنأي بلبنان عن نيران المنطقة وحروبها، في الوقت الذي نرى فيه أن جزءا من هذه الحروب الكارثية، وهذا الحصار اللاأخلاقي واللاإنساني واللاقانوني هو على لبنان وليس بعيدا عنه، وخير مثال على ذلك احتلال تل أبيب لبيروت، ثم الموجة التكفيرية الدولية، التي تحولت كارثة على لبنان بكل المقاييس، من زعزعة لأمنه، ومحاولات تمزيق وتفخيخ البلد من الداخل، ما يعني ويؤكد أن لبنان في قلب العاصفة، وضمن محاورها، ولا يمكن أن يكون محايدا، بل عليه أن يكون شريكا فاعلا وأساسيا في الدفاع عن نفسه وعن مصالحه، وإلا أصبح فريسة سهلة المنال؛ وعليه قلنا بالانحياز لكل ما فيه مصلحة لبنان، وندعو إلى تعزيز هذا المبدأ، وتدعيمه بالوحدة ومشاركة الجميع، والبحث في كل الاتجاهات التي تمكننا من الدفاع عن سيادتنا وعن أرضنا وعن ثروات بلدنا في البر والبحر.
من هنا أود أن أقول "لسنا ببعيدين عن إخواننا في بكركي، لأن مصلحتنا ومصلحة بلدنا تفرض علينا جميعا أن نكون في خندق واحد للدفاع عن لبنان وعن حقوق اللبنانيين، وأن نحدد ما هي مصلحة لبنان، وكيف نحققها، وكيف نحميها. وهنا لا بد من التذكير بقول الإمام السيد موسى الصدر لا سلامة للبنان وجنوبه يحترق. نعم، لا سلامة للبنان وفريق فيه يتألم أو يتوجس أو يعاني، فلبنان للجميع، واستقراره من استقرار وأمان الجميع، وهذا يدعونا، ونحن في قلب هذه الأزمات العاصفة والحروب القائمة في المنطقة، أن ندقق في حساباتنا، وأن نكون أكثر وعيا وفطنة وجرأة في اتخاذ الموقف الذي ينقذ البلد، ويعزز وحدته، ويدعم كل وسائل الدفاع عنه، وحمايته من كل الأخطار المحدقة.
كما أعيد وأذكر ما أجمع عليه كل من الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد موسى الصدر والشيخ شمس الدين والشيخ قبلان وكل من حركة أمل وحزب الله، وهو مؤكد فينا، ونحرص أن يكون ثابتا، حينما قالوا العلاقة مع كسروان مثل علاقة الرأس بالجسد، والشراكة الوطنية بين المسلم والمسيحي نتاج لقاء القرآن بالإنجيل، ولا يمكن معاداة المسيحيين لأنهم ثاني الجناحين. وأنا أضيف لأقول: إن الشراكة مع المسيحيين في لبنان هي ضرورة دنيا ودين وأخلاق وإيمان ووطن. من هنا أؤكد ضرورة احترامنا لبعضنا البعض، والاستماع لهواجس بعضنا والأخذ بها، لأن لبنان شئنا أم أبينا، خط تماس دولي ملتهب، وبإشراف أميركي، يصر على تطويب المنطقة وتمزيقها وصهينتها بما في ذلك لبنان، فضلا عن تهويد القدس وإنهاء قضية فلسطين المظلومة، فيما الواجب الإلهي، وقيم العالم الإنساني، تقر بضرورة الدفاع عن النفس والوطن، وحماية القدس وفلسطين، وهي نفسها تقر بأن الصهيونية قوة احتلال وإرهاب واعتداء وتهديد لفلسطين ولبنان وسوريا ولسائر المنطقة، ولا يمكن مواجهة قوة تل أبيب الإرهابية بالندب على قتلانا، أو أن نبكي على أطلالنا، كما حصل في زمن احتلالها لبيروت، بل يجب مواجهتها بميزان رعب متصاعد، كالقوة التي هزمتها عام 2006. وعليه، نعتقد أن لبنان يعيش بمكونه المسلم والمسيحي؛ وعلى سياسته الخارجية وعقيدته الوطنية ألا تتجاوز حق لبنان ومصالحه وطبيعة التهديدات التي تحيط به وتتقاتل عليه. وهو ما نعنيه بمبدأ الانحياز لمصالح لبنان، والافادة من القوة الدفاعية الاستراتيجية التي تتشكل من الثلاثية الماسية لحماية لبنان ومنع مشاريع الاعتداء عليه.
أخيرا، والأهم ما في الداخل، إن لبنان الشعب يعيش لحظة يأس وكارثة، والناس اليوم بأغلبيتهم المطلقة تحت عتبة الفقر المدقع، ويعيشون حالات مأساوية بسبب سياسة الفساد والهدر والنهب التي مورست لسنوات عديدة ولا تزال، مضافا إليها سياسة الحصار والتجويع التي تمارسها بكل وقاحة وحقد إدارة ترامب المتهور، بهدف إخضاع البلد والتحكم بقراره ووضع اليد على أي سياسة تزعج الكيان الصهيوني.
من هنا، أدعو الحكومة إلى المبادرة واتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والمالي الجريء والواضح، والبدء بالعمل على وقف النزف والهدر وحماية الأسواق والسلع، وكسر دفاعات الحماية السياسية عن المغارات المالية في كل مؤسسات وإدارات الدولة والمجالس المختلفة. وهذا يفترض حسم الخيار بالتوجه نحو الشرق، نحو الغرب، نحو أي جهة في العالم تتحقق فيها مصلحة لبنان من دون القطيعة مع أحد، فنحن كقوى وشرائح وكيانات مجتمعية نفضل الجوع والحصار على خيانة مصالح لبنان، وسنكون حيث مصلحة لبنان، وسنرفع الصوت أمام شعبنا وناسنا لتحقيق قدرات الصبر، ما دام أن ذلك مصلحة لبنان. وشعبنا شعب حر أبي سخي مقدام، يقدم أولاده حين تكون الحرب ضرورة لحماية لبنان".