ألقى السيد جعفر فضل الله خطبتي صلاة عيد الأضحى المبارك من مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية والمؤمنين، وقال: "سنوات عجاف مرت على الأمة! هذه السنوات أظهرت كل ما في الأمة من مساوىء أو من نقاط ضعف، هذه المساوىء وهذا الضعف وجدناه في نظرتنا إلى بعضنا البعض، كمسلمين أو أهل ديانات، ووجدناه في أنظمتنا السياسية التي تستبد باسم قوانين الطوارىء، وتلقي بالسجون أصحاب الرأي الذين قد يحملون إبداعات التغيير الذي تحتاجه المجتمعات لتستمر، وتقتل المعارضين الذين يمثلون حاجة التوازن لأي حركة حكم، ووجدناه في اقتصادات الشعوب المنهوبة من بعض أفراد مترفين، والتي لا تعتمد التخطيط الدقيق لتحقيق مصالح الشعوب، ولا تقيم بنيانها على الثروات الثابتة في الأوطان، وإنما تشرع قواعدها لنهب الشركات الاحتكارية المعولمة التي لا تتمكن حتى تتحكم بالسياسة والمصير".
أضاف: "وجدناه في فهمنا للدين، وفي قراءتنا للقرآن والسنة والتاريخ، حتى أظهر إمكانية أن تستنزف الأمة طاقات الفكر والتربية في إعداد جماعات مستقيلة من الزمن، تقتات من سطح النصوص الدينية، حتى تتحول إلى مسخ دين، وإلى كيان وحش، حتى يتحولون إلى قنابل تفجيرية من داخل جسم الأمة، باسم الله يذبحون عباد الله، وبصيحات التكبير يفجرون بيوت الله، وباستعادة التاريخ يدمرون معالمه، وبإنشاء دولة المسلمين يسلمون جغرافيتها للطامع والمستعمر، ووجدناه في تعصبنا لمذاهب كانت وجهات نظر في فهم الإسلام، فتحولت إلى أسماء منغلقة، وأحيانا إلى أصنام تعبد من دون الله، وكفت عن أن تكون حركة تنوع، يتحول فيه الاختلاف إلى رحمة للأمة في خياراتها، ويراكم فيها الحوار خطواته نحو الحقيقة التي يقاربها كل من زاويته".
وتابع: "نعم، لعل أقسى ما أنتجته هذه السنوات العجاف، هو فقدان الأمة ثقتها بنفسها، وإحساسها بأهمية وحدتها، حتى أصبح التنظير للفرز والتقسيم سيد الموقف، انعكس ذلك في السياسة حيث أصبحنا محورا سنيا وآخر شيعيا، وقضايانا سنية وشيعية، وأمننا سني وشيعي، والدول باتت سنية وشيعية. وهذا الفرز والتقسيم، أصاب بالعدوى الأعراق، فأصبح للكردي حدوده التي تفصله عن العربي، وللفارسي حواجزه التي تفصله عن التركي، ونسينا جميعا قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقنا كم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإنما هذا التنوع جزء من السنة الإلهية في تكامل البشر الذي يكتسبون القيمة أو يكسبونها لتنوعاتهم من خلال التقوى ووحدة المعايير التي ترتكز إلى الإيمان بالله والاستقامة على طاعته، والارتفاع عن الاستغراق في كل هذه المسميات التي لم يخترها الإنسان وإنما ولدت معه أو ولد معها. وهكذا أصبحنا أمة تنتج التقسيم في كل يوم، وأصبحت دولة تستكبر على أخرى، وحزب يتعالى على آخر، وفقدنا كل أرضية للتعاون على البر امتثالا لأمر الله، وأصبح بعضنا يتعاون على الإثم والعدوان والقتل والتدمير، وليس من هم له سوى أن يعتلي العرش أو أن يورث الكرسي. وضاعت في كل ذلك فلسطين القضية الأوضح في ميزان العدالة الإنسانية، ومركز القلب في المشروع الإسلامي الاستراتيجي في المنطقة، والذي إذا ضرب فلن يكون هناك شيء اسمه عالم إسلامي، بل دول متناحرة عرضة لمخططات التقسيم والتفتيت التي شهدنا فصولا منها في السنوات التي مرت. نعم، هذه هي الكارثة التي يمكن أن تصاب بها أمة".
وقال: "حتى لا نبقى في جلد الذات، فإن هذه المرحلة بكل جراحاتها تحملنا المسؤولية الكبرى للمرحلة القادمة، حيث تشير المؤشرات إلى أننا في بداية مرحلة جديدة، تطوى فيها مرحلة الحرب التي طبخت في ليل، وأكلنا منها جميعا، بعضنا بعلم وتآمر وبعضنا بجهل وآخرون باضطرار، وأدركنا في لحظة انقشاع أنه عندما يتم الحديث عن تغيرات بحجم منطقتنا العربية والإسلامية، فمن الخطأ أن نستغرق في مواقع أقدامنا، أو أن نقصر رؤيتنا على الأبعاد المحلية لأن الخرائط عندما ترسم، والحدود عندما تفتح، والعديد والعتاد عندما يصدر، فمعنى ذلك أن الأمور معدة سلفا، والذي يملك هذا الإعداد المسبق - بكل أسف - هو أجهزة المخابرات ومراكز الدراسات وأروقة السياسة العالمية، التي بنت خطتها على ضربنا من داخلنا، وأضرمت الحروب بأجسادنا، وخلطت المفاهيم بخطاباتنا، وشوهت صورتنا بسلوكنا.. هكذا يعلمنا القرآن عندما يحدثنا عن إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن، لا يظهرون بالباطل الصريح، وإنما يزينونه بصورة الحق، ويرفعونه خطبا على منابر المساجد، وينتقون له آيات من القرآن منزوعة السياق، وأحاديث مقطوعة الأسانيد".
أضاف: "يبدو أن الذين صنعوا الحركات المتطرفة، وأذكوا نار الإرهاب المتنقل، قد استسلموا لانتهاء الوظيفة الإقليمية والدولية لها، كما أن من المهم لنا أن نرصد القلق الصهيوني من مسارات التحرير من هذا الإرهاب، من لبنان إلى سوريا إلى العراق، بما بات يشير إلى تحولات في المزاج العالمي، وإلى توازن في المعادلات الاستراتيجية، إن لم يكن بالصورة السابقة فبقدر كبير منه، ولكن هذا لا يمثل نهاية المطاف، ولا ينبغي أن يدفع القوى الفاعلة في المنطقة إلى الدعة والاستسلام للإنجازات، بل قد تكون التحديات القادمة أكثر حراجة، وقد تتحرك في أكثر من أسلوب مخابراتي خفي يستهدف ضرب الإنجازات التي تحققت على طريقة الحروب الناعمة، وهذا يتطلب العمل على سد الثغرات التي أفرزتها الحروب الماضية، سواء منها الأمنية أو السياسية أو الاقتصادية أو على صعيد التنمية وإعادة إنتاج الفكر الإسلامي الحضاري، في نظرته إلى ذاته وهويته، وفي توظيفاته في العلاقات بين المسلمين، أو بينهم وبين غير المسلمين، أو في بناء تجربتهم الإسلامية الحضارية في بناء الدولة وترسيخ البنى الحضارية الضرورة للاجتماع الإسلامي".
وتابع: "انطلاقا من ذلك، لا بد للقوى التي أثبتت قدرتها على التحرير أن لا تقع تحت تأثير الحالة الفئوية التي تستغرق في خصوصيات المعركة ضد المشروع الإرهابي التدميري في داخل أطرها الإقليمية، وأن تعيش حالة طوارئ في سبيل سد أي خلل قد ينشأ بفعل التعقيدات الطبيعية لخصوصية أي قطر؛ لأن المشروع الواحد يتطلب مواجهة واحدة، والتربص الاستكباري سيستغل أي ثغرة لتحويل أي إنجاز إلى فشل ذريع، تقع نتائجه على الجميع. وإلى اليمن الذي يحج المسلمون قريبا من معاناة شعبه، والذي تفوح من أرضه رائحة البارود والدماء، وتفتك به الأوبئة والأمراض، وبات يحتاج إلى مستقبل يقارب تاريخه لإعادة بنائه حجرا وبشرا. هذا البلد العريق في أصالته، يحتاج إلى حس إسلامي ورحمة إنسانية ترفع معاناته بعيدا عن أي حسابات لا تمت للاسلام والإنسانية بصلة".
وقال: "إلى البحرين، الذي بات يعيش الانقسام العمودي في داخله، وكثير من قيادات المعارضة فيه داخل السجون المغلقة، مع أن الكثيرين منها إنما رفعوا أصواتهم ولم يرفعوا أسلحتهم، وقد أثبت هؤلاء أنهم سلميون في كل حركة معارضتهم. يحتاج البحرين إلى إعادة روح الحوار الذي يمهد لحل يحفظ تنوعه ويعيد السلم الأهلي إليه".
أضاف: "نطل على لبنان الذي احتفل في الأيام الماضية بالانتصار على قوى التطرف والإرهاب، والذي أثبت أنه قادر على الإنجاز عندما يتحرك بواقعية وجدية في البناء على أوراق القوة في يديه، والتي هي حكما لا تخضع للوصفات الجاهزة التي تتحرك بها النظريات السياسية للدولة وحركتها، وإنما طبيعة الصراع في المنطقة والمرحلة تتطلب مرونة في بناء قوة الدولة عبر انضمام القوى الشعبية المقاومة إلى القوى العسكرية النظامية. وهذه الواقعية والجدية تمثل الحاجة لتحصين المجتمع، وإعادة بناء الوحدة الإسلامية والوطنية، وتحقيق شروط التنمية التي لا تسمح بتحول الحرمان والتهميش إلى فرصة للنفاذ مجددا للعبث الخارجي وإثارة الفتن الداخلية".
وختم: "أخيرا، كلمة إلى الدول الكبرى؛ نقول لها إنكم جربتم في أكثر من موقع هذا العالم الإسلامي، وأنه يمتلك اليد التي يمكن أن تتعاون في تحقيق السلم العالمي على قاعدة العدالة الحقيقية، وأن تتشارك في عملية البناء الحضاري لهذا العالم على قاعدة احترام الإنسان والقيم المشتركة التي أرستها الرسالات السماوية، وأنه أيضا يمتلك الإرادة والقوة التي يدافع فيها عن نفسه وهويته وموقع الحضاري أيضا؛ وإن هذه التجربة لا بد أن تدفع إلى إعادة النظر في السياسات التي تتعاطىى باستخفاف مع هذا العالم، وأنكم إذا كنتم جادين في تحقيق السلم العالمي، فعليكم أن لا تضعوا بيضكم كله في سلة مشروع أثبت أنه غير قادر على تحقيق مصالحكم في المنطقة، وأن الكيان الذي زرعتموه لأجل ذلك بات خائفا على وجوده أكثر من أي وقت مضى. وأن الإسلام الحقيقي لديه الكثير الذي يمكن أن يسد فراغ الروح في هذا العالم الذي يتجه نحو التوحش المادي يوما بعد يوم".(۹۸۶۳/ع۹۴۰)