جاء هذا في كلمة مؤسّسة بحر العلوم الخيريّة التي ألقاها أمينُها العامّ السيد محمد علي بحر العلوم، خلال حفل افتتاح فعّاليات المؤتمر الدوليّ الرابع لعلوم اللّغة العربيّة وآدابها بين الأصالة والتجديد، الذي تُقيمه العتبةُ العبّاسية المقدّسة بالتعاون مع مؤسّسة بحر العلوم الخيريّة تحت شعار: (الحَوْزَةُ العِلْمِيَّةُ رَائِدَةُ التَّجْدِيدِ)، وفي ما يلي نصّ الكلمة:
مرّةً أخرى نلتقي أيّها الحضورُ الكريم من أجل تسليط الضوء على منجزٍ معرفيّ من منجزات الحوزة العلميّة في النجف الأشرف في تاريخها الطويل وأيّامها الصعبة، في ضمن سلسلة اللقاءات والمؤتمرات التي تسبق الوصول إلى نهاية الألفيّة الأولى من عمرها المبارك، وقد خصّص هذا اللّقاء للّغة العربيّة وآدابها.
تعدّ العلاقةُ المتبادلة بين علوم اللّغة العربيّة وعلوم الشريعة أمراً بديهيّاً، وذلك لأنّ اللّغة العربيّة هي لغةُ القرآن الكريم والحديث الشريف، وعليهما تُبنى عمليّةُ الاستنباط الفقهيّ، فيبدأ طالبُ العلم مسيرته العلميّة بالمفردة العربيّة بهيئتها الإفراديّة والتركيبيّة ليُبحر في بحرها طيلة سنواتٍ خمس، يطوي في خلالها علوم الصّرف والنحو والبلاغة والبيان بمستوياتها المختلفة، ومن دون أن يلمّ بهما إلماماً تامّاً لا يتمكّن من أن يمضي قُدُماً في الدرس الحوزويّ، فتنشأ بينه وبينها علاقةٌ حميمة تجعل لقواعد هذا العلم أثراً في مستقبله العلميّ، بل يرى أثرها في نبوغ أدبيّ ظهر على كثيرٍ من غير العرب، فاقتحموا آدابها نثراً وشعراً وأبدعوا في ذلك.
لم يكن دورُ الحوزات العلميّة فقط التعلّم والأخذ من علوم العربيّة بما يحتاجه الفقيه في فهم كتاب الله والسنّة الشريفة، وإنّما كانت هناك بصمةٌ واضحةٌ من الفقهاء والأصوليّين على علم النحو من خلال التعمّق في الدراسات اللّغويّة والنحويّة وجعلها جزءً من علم أصول الفقه، فظهرت نظريّاتٌ في الوضع والمعنى الحرفيّ والاشتقاق، وآراء في المعاني والبيان.
كما أنّ الحركة الأدبيّة عموماً مدينةٌ للحوزة العلميّة ببروزها كأحد المعالم الثقافيّة في هذه المدينة بشكلٍ واضح، من خلال المشاركة الفاعلة في النشاطات الأدبيّة المختلفة إن لم يكن هم مَنْ أنشاها، كما في ما يعرف بالمعارك الأدبيّة التي ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري، وكذلك تشجيع غير الحوزويّين في إبراز مواهبهم الأدبيّة ودعمها، مضافاً إلى ما أنتجه علماؤها من نتاجٍ أدبيّ وعلميّ، فصاغوا علومهم الأصوليّة والفقهيّة بطابعٍ شعريّ كما في الأراجيز الفقهيّة والأصوليّة والعقائديّة، كلّ هذا أدّى إلى تميّز هذه المدينة بالصبغة الأدبيّة حتّى باتت من كبريات المدن العربيّة في هذا الميدان، وأصبح لأُدبائها شأنٌ إقليميّ وعالميّ.
ولا يفوتُنا الشعرُ الثوريّ الذي يهيّج العواطف ويدفع نحو الثورة ويقارع الظالم سواءً في الداخل أو الخارج، فكانت القصائدُ تتوالى في القرن الماضي وتنتقد الاستبداد، وكذلك كانت للثورات العربية التي نهضت ضدّ الاستعمار وطالبت بالحرّية والاستقلال.
كلّ هذا وغيره دعا العتبة العبّاسية المقدّسة ومؤسّسة بحر العلوم الخيريّة ليكون مؤتمرها الرّابع في مسيرة الحوزة رائدة التجديد عن علوم اللّغة العربيّة وآدابها، وتشجيع الباحثين ليُدلوا بدلوهم وببنات أفكارهم في عرض تلك العلاقة الوطيدة والإنجازات التي تمّ تحقيقُها، وذلك الجهد الذي بذله الماضون من علماء الحوزة العلميّة في الحفاظ على لغة الضاد والتعمّق في العديد من مواضيعها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق الباحثين في التوصّل إلى نتائج ملموسة تدفع بعجلة العلم نحو التطوّر والرقيّ والإبداع، وأن يوفّقنا لنُكمل المسيرة للأعوام القادمة