11 July 2010 - 13:05
رمز الخبر: 2458
پ
رسا/آفاق- إن أحد مداخل التعامل المسؤول مع المنجز التجدیدی العظیم للسید فضل الله(رض)، یقوم على إدراج مشروع سماحته تحت عنوان التنویر الإسلامی، والانطلاق من هذا المنجز ونظائره فی إطار حرکة تنویریة راشدة توسع حضورها فی الساحة، وتدخل الباب على مناشئ التحجر فی الفکر الدینی بتصمیم قوی على اقتلاعها واجتراح عصر أنوار إسلامی. بقلم عبدالرحیم التهامی.
ما بعد فضل الله ومآلات التنویر الإسلامی


لا شک فی أن رحیل شخصیة من وزن وقیمة السید محمد حسین فضل الله أشعرت الجمیع بفداحة الخسارة، فالرجل کان استثنائیا فی زمن استثنائی، لکن غیاب الرجال الاستثنائیین من رواد الإصلاح وأرباب الفکر التنویری تجعل من سؤال المابعد سؤالا تاریخیا بامتیاز، سؤال لا یندرج فی إطار العاطفة بقدر اندراجه فی قلق الصیرورة والامتداد ومدى تواصل فاعلیة النشاط التفکیکی للبُنى الفکریة العتیقة أو تلک المستنفدة وظیفیّا والمعیقة لانبثاق زمن التنویر، ومقتضیات کل ذلک.
أما التنویر الإسلامی فهو إمکانیة تاریخیة دائمة ومفتوحة على اشتراطاتها الخاصة، هو رهان معرفی قائم على نصاب العقل والحریة، وهنا نلتقی مع التعریف الکانطی للأنوار، کما هو رهان سیاسی على تقویض الاستبداد؛ التقویض الذی یمکن أن یعوّل على استدماج المقاربة المعرفیة المعرّیة للاتاریخیة النمط الاستبدادی للسلطة فی عالمنا الإسلامی فضلا على لا إنسانیته.
مشکلتنا أننا صرنا نعیش التاریخ من دون رهانات کبرى، وهذا نکوص عن مرحلة الکفاح الوطنی والتحرری، کما عن المرحلة التی أعقبتها، ففی کلا المرحلتین کانت هناک عناوین کبرى ورهانات تعنونت ببناء الدولة الوطنیة، ثم بالوحدة العربیة، ولو من خلال جدلیته المعروفة؛ الوحدة شرط التحریر - فلسطین- أو التحریر مدخل للوحدة العربیة.
لکن وبعد سقوط کل هذه الرهانات، بما فیها رهانات الإسلامیین فی مشروع "الدولة الإسلامیة"مع استثناء التجربة الإیرانیة الناجحة، انفتح المجال العربی والإسلامی عموما على أنماط التدین السلفی بشقیه السنّی والشیعی کمظهر عن اختلال بنیوی فی الواقع الإسلامی، أطاح ولازال یطیح بکل مفاصل العقلنة والاستنارة فی تراثنا الإسلامی,
فی هذا المناخ کان السید فضل الله(رض) الرائد التنویری یوسع من مساحة العقل ویصدم الوعی الساذج المکتفی والمطمئن إلى سکونیته، ویناضل من أجل تأصیل الفهم الدینی الصحیح من خلال دعوته إلى "التعمق فی النص الدینی، وفی امتداد هذا النص، کی یکون النص الدینی للحیاة کلّها، لا أن نحبسه فی زنزانة ضیقة من خلفیاتنا الضیقة، التی قد تکون مما نعیش معه فی الماضی أو نسقط بسببه فی وحول الواقع".
فکان من الطبیعی أن تنفتح على السید جبهات العداء من خنادق التخلّف، وکان من أشدها علیه تلک الخنادق التی لمست فی مشروعه عقنلة تمنح هویّةً للتشیّع تؤصّله و تحرّره من جرح الذاکرة وتخلّصه من الغلو والخرافة، أو تلک التی تنبهّت لنباهة تاریخیة فی حرکة السید وهو یجدّد للتشیع وظائفه التاریخیة من مدخل التلاقی مع الآخر المذهبی بدل الانفصال عنه والقطیعة معه، بله التواصل مع الإنسان على وفق قاعدة "إما أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق". فکل عناوین الحملات على السید بمندرجاتها التفصیلیة لا تعبّر فی حقیقة الأمر إلا عن اعتراک تاریخی معرفی فی سیاق کسب رهان التنویر بین نزوعات العقلنة ونقائضها الماضویة والردّة العقلیة، وقد وظّف السید حریة الفکر فی هذا السیاق بأقصى درجات الجرأة والشجاعة والاستقلالیة لیغنی لحظته التاریخیة المقفرة بمشاریع تروم عقلنة المعارف والممارسات.
إن أحد مداخل التعامل المسؤول مع المنجز التجدیدی العظیم للسید فضل الله(رض)، یقوم على إدراج مشروع سماحته تحت عنوان التنویر الإسلامی، والانطلاق من هذا المنجز ونظائره فی إطار حرکة تنویریة راشدة توسع حضورها فی الساحة، وتدخل الباب على مناشئ التحجر فی الفکر الدینی بتصمیم قوی على اقتلاعها واجتراح عصر أنوار إسلامی.
وبالعودة إلى سؤال المآلات فکما هو معلوم فإن الفکر العمیق والخلاّق والمبدع والتأسیسی المتصل بجوهر الحقائق الکبرى یمتلک قابلیة البقاء ولا یستنفده تتالی العصور، لکن الحدیث هنا یتخطى حیاة الفکر إلى فاعلیة الفکر لجهة تأمین وظیفته فی الواقع وإنزاله ضمن الأطر المرجعیة المتقدمة لفکر الحاجات التاریخیة، ثم الإمساک بالعناصر المنهجیة لهذا الفکر وإعادة تشغیلها فی المعالجات الفکریة لقضایا الساحة ولأسئلة الحیاة التی لا تعرف النضوب.
وعلى هذا الأساس فإن دور الحاضنة الفکریة هنا؛ وهی النخبة تحدیدا؛ تغدو شرطا حیویا وحاسما فی مآلات المشروع الفکری واستمراره، ولا یخرج ذلک فی العادة عن أحد مصیرین، إما تموضع الفکر فی دائرة التراث الفکری الممیز والمتألق و...دون أن تستمر وظیفته فی الواقع ضمن جدلیة التفکیک وإعادة البناء، أو على عکس ذلک من حیث تواصل فاعلیة الفکر فی ممارسته التفکیک على ما استنفِد من مناهجٍ فی إنتاج المعرفة والإطاحة ببعض بناءاته الفوقیة وإحلال البنى الجدیدة محلّها بإحکام الأسس المنهجیة التی تقوم علیها.
وللأسف فإن المصیر الأول هو ما قدّر لتجربة الشهید محمد باقر الصدر(رض)، ومع أن الصدر کان صاحب مشروع نهضة وتجدید وصاغ فکرا متسما بدرجة عالیة من الصرامة النظریة والمنهجیة، فإن خطه لم یستمر، فلم نشهد بعد رحلیه المأساوی تیارا ملموسا یوظف منهجه فی الکدح المعرفی، ویحمل فکره لیکمل مسیرة الإصلاح الدینی باعتبارها کانت تمثل عند الشهید أحد مداخل النهضة المنشودة فی الأمة.
إن مجرد الاهتمام بتراثه وإن کان أمرا محمودا فی ذاته فإنّه ومهما اتسع فهو یقصر عن الاستجابة للوظیفة التاریخیة، لأنّ هذه الوظیفة تتقوّم بما یتخطّى مجرد الاهتمام، ای بتیار حرکی یواصل مهمة الاشتباک الفکری مع البنى الدینیة والفکریة والثقافیة التی تمثل عوائق بوجه النهضة وتعرقل الوظیفة التحریریة للدین، کما ویوسع من الهوامش المکتسبة التی تحوزّت علیها فکرة الإصلاح فی نضالها ومن خلال کل تعبیراتها.
إن هذا التیار النخبوی الذی نعبّر عنه هنا بالامتداد الأصیل، قد لا ینجح فی لعب أدواره الطلائعیة هذه إذا لم یضفی على مفهوم الامتداد معانی الإضافة (الفکریة) والإغناء والإبداع على المشروع الذی ینطلق منه.
وعلى خلاف الفرصة التاریخیة المجهضة أسفا والتی أعقبت استشهاد محمد باقر الصدر(رض)؛ ولسنا هنا فی وارد بیان أسباب ذلک؛ فإن المشروع الفکری للسید محمد حسین فضل الله(رض) یبدو أنّ له فرص أقوى لیمتد من بعده تیارا تنویریا فاعلا فی الأمة، فقد أفاد فضل الله من الحریّة فی الوضع السیاسی اللبنانی والذی یقوم على توازن الطوائف مع هوامش معتبرة فی الحریة مؤمّنة دستوریا ومفتکة طوائفیا بقوة الأمر الواقع، وأتاحت له تلک المناخات؛ والتی وان اتسمت بالصراع المفتوح مع (إسرائیل) وبالتصدی للسیاسات الأمریکیة فی المنطقة؛ الفرصة لکی یبلور مشروعه ویمأسس بنیته التحتیّة ویؤهل کادره، وذلک بمعزل عن أیة إکراهات سیاسیة، أما التشویش فقد استطاع السید فضل الله بصبره وتصمیمه أن یتخطاه، محتسبا ذلک ضریبة مستحقة على من ینهض لأجل الإصلاح فی أمّته.
وإذا کانت بیئة النجف المغرقة فی تقلیدیتها والمتوجسة خیفة من التجدید قد شکلت شرطا معاکسا أمام حرکة الشهید الصدر، ما اضطره ولاعتبارات مرحلیة وموضوعیة؛ لیس أکثر؛ لأن یخفف من إیقاع حرکة مشروعه الإصلاحی واندفاعته فی بعدیه الدینی والحوزی ویرجئ بعض عناوینه، حتى اختطفته الشهادة فی منتصف الطریق. فإن العلاّمة فضل الله وبما أتاحته هوامش البیئة السیاسیة اللبنانیة وفی علاقة بالطور التاریخی الجدید الذی أقحمت فیه التجربة الشیعیة بعد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران؛ وجد نفسه منخرطا من موقعه الخاص وبما تراکم لدیه من عدّة معرفیة متعدّدة الأبعاد ونفس تجدیدی عمیق فی استحقاقات اللحظة التاریخیة منذ مطلع الثمانینات، مستکملا المنجز النهضوی کما تبلور مع الشهید الصدر، کما کان فی الموعد التاریخی مع التحولات التی أرهصت بها الثورة الإسلامیة فی إیران وهی تخوض لأول مرة سیاق التجریب بقیادة الإمام الخمینی(رض)مهتدیة بفکر قائدها ومستندة إلى أرصدة الفکر الإصلاحی کما تجلت بقوة فی نتاجات الشهید مرتضى مطهری.
إذا یمکن القول أننا فی سیاق تنویری أسهم فیه السید فضل الله وعلى مدى عقود وأقحم فیه فئات واسعة داخل لبنان وخارجه، من الشیعة والسنة.. والوعی بهذا السیاق التنویری کمکتسب دینی وتاریخی هو شرط لازم لإدامة فاعلیته ودفعه لاستیعاب مجمل اللحظة التاریخیة، ومن الخطأ أن ینحصر التفکیر فی إیجاد شخصیة یمکن أن تغطی بعض ما ترکه السید فضل الله من فراغ بعد رحیله، لأنّ التفکیر کلّه یجب أن یتجه -الآن- إلى حفظ وتأمین لحظة التنویر التی افتکها فضل الله بعمل جبّار من سیاقات التخلف الإسلامی؛ وضمِّها إلى کل روافد ومعطیات الاستنارة فی الأمة.
فالتحدی الآن کما المسؤولیة هو فی کیف یمکن تحویل زمن السید فضل الله(رض) إلى زمن مسترسل فی أفق إدراک زمنٍ تنویریٍّ إسلامیٍّ مبین.
وهذا یقع بدرجة أولى على عاتق النخبة من تلامذة السید وعلى عموم المثقفین الإسلامیین.
مع کل الأمل فی أن یتحوّل الغیاب إلى اندفاعة کبرى للحضور فی التاریخ، والسید فضل الله(رض) قد ترکنا؛ و(نا) هنا تعنی کل الإسلامیین والمثقفین المتنورّین؛ لکنّه وقبل رحیله وضع رأس الجسر فی موضعه من أجل العبور إلى الضفّة الأخرى، ضفة التنویر الإسلامی.. فلنغنی الجسر.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.