آفـــاق: بقلم عبدالرحیم التهامی.
رسا/ آفاق- یقف "الأزهر" فی منعطف اتجاهات الفرصة السیاسیة بمصر؛ حیث احتمالات التغییر قائمة؛ وبیده جردة الحساب الخائبة، بل الأقسى فی الأمر أنّ مؤشر المصداقیة تحت الصفر، وهذا ما یجعل موضوع الخلافة حیویا أکثر من أی وقت مضى.

بعد أربعة عشر سنة قضاها على رأس مشیخة الأزهر، رحل الشیخ طنطاوی عن دنیانا إثر أزمة قلبیة، ومنذ تولیه المشیخة فی 1996م قادماً إلیها من موقع دینی آخر-لا یقل أهمیة وهو مفتی الدیار المصریة- ومواقف الرجل الفقهیة والسیاسیة المثیرة للجدل کانت تمنح هویّة وکیانیة جدیدتین للأزهر؛ تضعه فی قلب استراتجیة السلطة الشمولیة وتوجهاتها السیاسیة، وتحوّله إلى مجرد مظلة لمؤسسة الحکم؛ کما لم یحصل من قبل، وتقوّض کل مسافة ولو قصیرة من السلطة، لا اقل بسبب اقتضاءات العالمیة؛ فالأزهر لا ینظر إلیه کمؤسسة دینیة مصریة صرفة، بل هو مؤسسة إسلامیة فوق قطریة، وبتعبیر أدق فهو یمثل المرجعیة الدینیة فی العالم السنّی.
ومنذ عام 1961م تاریخ إقرار قانون جدید یخوّل لرئیس الدولة صلاحیة تعیین شیخ الأزهر على رأس «السلطة الدینیة»، وتحویل مشایخه إلى موظفین حکومیین، دخل الأزهر إلى دائرة التأمیم الدولتی فی تزامن مع أوج المواجهة بین النظام الناصری وتنظیم الإخوان المسلمین، وکان ذلک بدایة لمسیرته التراجعیة حیث لجأت الدولة وبنص القانون إلى فرض الأصلح بمعیار السلطة وحساباتها ومصالحها، وأضحت موارد الأزهر المالیة جزءاً من الموازنة العامة للدولة، ولم تفلح نقاشات التعیین والاختیار بین أعضاء مجمع البحوث فی ساعات الإحساس بانعدام الوزن؛ فی إعادة النظر فی هذا القانون سیء الذکر، لأن الاتجاه کان یرسو دائما على التعیین.
ولم یشهد الأزهر منذ تأمیمه، حملة تضییق ممنهجة على الأزهریین أنفسهم؛ ممن یمکن تسمیتهم بالصقور؛ کما کان الأمر علیه فی عهد مشیخة الراحل محمد سید طنطاوی، فکل ردة فعل على واحدة من مواقف "الشیخ الأکبر" الغریبة والمثیرة کانت تواجه بتضییق أو حتى بالفصل کما فی قراره-أغسطس عام 2003م- بعزل الشیخ نبوی محمد العش رئیس لجنة الفتوى لأنه أفتى بعدم شرعیة مجلس الحکم الانتقالی العراقی وحرم التعامل معه.
کما لم یُسجّل هجوما أشد على شیخه الأکبر، من ذلک الذی حصل مع من وصفه البعض بأنه "شیخ الحکومة"، على خلفیة مواقفه المثیرة، والتی استهجنها ورد علیها شیوخ وعلماء الأزهر أنفسهم، مثل الردود علیه فی فتوى تطبیق حد القذف على الصحفی الذی یقوم بنشر خبر أو موضوع غیر دقیق، بل وتطور الأمر لحد مطالبة نواب وصحافیین ومفکرین رئیس الوزراء؛ بوصفه المسؤول عن الأزهر؛ بعزل طنطاوی لأنّه لم یعد صالحا للفتوى ولمنصب "شیخ الأزهر" بعدما تمادى فی توظیف الدین لخدمة الحاکم والحکومة.
لقد آلت العلاقة بین الدینی والسیاسی فی التجربة التاریخیة للسنّة، إلى هیمنة السیاسی واستتباع قهری للدینی، وتقلصت بالتدریج تلک المساحة الضیقة التی کان یتحرک فیها الفقهاء، لتستقر العلاقة فی الدولة القطریة المعاصرة على نصاب من التبعیة؛ غدت معها المؤسسة الدینیة بشکل یکاد یکون مطلقا خاضعة للقرار السیاسی بل وانتهت إلى مؤسسة رسمیة من مؤسسات الدولة واقعة تحت الإشراف السلطوی الشامل، ومُمَارِسةً للقمع والقهر باسم الدین.
وکان من الطبیعی أن تتکیّف المؤسسة الدینیة مع هذا الواقع ومع الأدوار التدجینیّة الموکلة إلیها، ولم تجد کبیر عناء فی ذلک من منطلق ما تسعف به مسلّمات الفقه السیاسی السنّی؛ کما هی متبلورة فی صورتها شبه النهائیة مع "الأحکام السلطانیة" لأبی الحسن الماوردی، بل إن تمرکز السلطة السیاسیة وتطور مؤسسة الدولة المتمخضة عن الحقبة الاستعماریة؛ فتح على إمکانات أوسع لتسخیر المؤسسة الدینیة وتوریطها فی مشاریع السلطة حدّ تشویه صورتها ومصادرة کل أدوارها.
الآن یقف "الأزهر" فی منعطف اتجاهات الفرصة السیاسیة بمصر؛ حیث احتمالات التغییر قائمة؛ وبیده جردة الحساب الخائبة، بل الأقسى فی الأمر أنّ مؤشر المصداقیة تحت الصفر، وهذا ما یجعل موضوع الخلافة حیویا أکثر من أی وقت مضى، وإن کانت حظوظ التحول والإصلاح الجدّی فی المؤسسة الأزهریة؛ من مدخل الاستقلالیة؛ مرتهنة لتطورات الوضع السیاسی ومآلات التغییر فیه، إذا تمکنت المعارضة السیاسیة من إجهاض مخطط التوریث، وکسب رهان التغییر.
وفی حالة ما إذا سمح الوضع الصحی للرئیس مبارک بعد العملیة التی خضع لها فی ألمانیا، من مزاولة مهامه، فسیقوم بتعیین خلیفة للشیخ طنطاوی، ووفقاً للعرف السائد فی المؤسسة الدینیة المصریة، فإنّ الدکتور علی جمعة (58 عاماً) مفتی الدیار؛ وصاحب الفتوى الشهیرة بجواز التعبد على وفق المذهب الشیعی؛ هو الأوفر حظا لهذا المنصب، وإن کان الدکتور أحمد الطیب(63عاما)، رئیس جامعة الأزهر، والمقرّب من أمانة السیاسات بالحزب الوطنی الحاکم، هو من یتردد اسمه بقوة فی کوالیس رئاسة الحکومة کمرشح خلفا للدکتور محمد سید طنطاوی. وعلى وفق هذا الاحتمال فلن یکون ذلک إلا وضعا انتقالیا فی أفق أن یحسم الصراع السیاسی فی مصر بین مشروع التغییر ورهانات التوریث، لأنه لا إصلاح فعلی إلا بتعزیز دور الأزهر وإبطال قانون عام 1961م بکل آثاره ومفاعیله.
وعلى أمل أن یستعید "الأزهر" فاعلیته فی سیاق وضع سیاسی مختلف تتطلع إلیه کل الأمة، فإن لهذه المؤسسة العتیدة مساهمات وأدوارا عظیمة تنتظرها بعد إعادة تأهیل نفسها، وهی الأدوار التی من المفترض أن تلتقی وتتکامل مع دور الحوزة العلمیة فی قم بدرجة أولى، ویمکن حصر الحدیث عنها - باختصار- على أربعة أدوار نقدّر أنها ترتبط بدور المؤسسة الدینیة کما تتصل بحقیقة التدیّن الأصیل، بل وتؤثر على صورته، وتفعّل لحظة صیرورته دینًا کونیًا قادرًا على استیعاب الاحتیاجات الرمزیة والمعنویة للبشریة جمعاء.
1- دور متقدّم فی مواجهة المشروع الصهیونی، وتجدید الفتوى الصادرة من لجنة الفتوى بالأزهر الشریف برئاسة الشیخ حسنین مخلوف فی کانون الثانی عام 1956م بـ"تحریم الصلح الدائم مع الکیان الإسرائیلی ووجوب الجهاد"، ودعم حرکات المقاومة، وإشاعة ثقافتها.
2- استعادة الدور التقریبی للأزهر على غرار ما کان علیه الأمر فی ثلاثینات وأربعینیات القرن الماضی؛ حیث المشاریع التقریبیة الهائلة. وأمامه وفی السیاق ذاته،مهمة التصدی لظاهرة التکفیر فی واقع أمتنا، سواء من قبیل تکفیر بعض الجماعات المتطرفة لمجتمعاتها المسلمة، والتصرف تجاهها على أساس هذا التکفیر بما یعرّضها لکل الاستباحات، أو تکفیر الغیر على أساس الاختلاف فی المذهب. ولأنّ نزعة التکفیر تعمد إلى شرعنة نفسها من داخل الدین؛ فإن تصدی مؤسسة من حجم الأزهر للظاهر ستکون له نتائج حاسمة.
3- إعادة الاعتبار للفتوى ولمؤسسة الإفتاء، والتی أضرّ بها الأزهر نفسه خاصة على عهد الشیخ الراحل، ووقف کل مظاهر التسیّب والفوضى التی انتهى إلیها واقع الفتوى، وهو نتیجة طبیعیة لإضعاف المراکز العلمیة العتیدة کالأزهر، والقرویین وجامعة الزیتونة، واستلحاق السلطة السیاسیة للمؤسسة الدینیة فی العالم السنی؛ ما سهّل الأمر على التیار السلفی المتشدد والمفرط فی نصوصیته للدخول على خط الإفتاء، لصیاغة وعی دینی بئیس ومشوّه.
4-التصدی لتنامی النزعة «الجهادیة» الزائفة، والتی بقدر ما کانت کاشفة عن انسدادات فی الواقع السیاسی للأمة، فهی بنفس القدر معبّرة عن انتشار نمط من التدیّن مجوّف ومفرغ من کل نزعة إنسانیة؛ لدى قطاع واسع من الشباب (الجهادیین) الذین جعلوا أوطانهم مجالا لهذه الممارسة "الجهادیة" باستهدافات عُـنفیّة، عبثیة ولا أخلاقیة.
رحل الشیخ الطنطاوی إلى ربّه، وترک وراءه ترکة صعبة، والکثیر من الشروخ فی واجهة الأزهر، لکن الفرصة الوحیدة أمام الأزهر لکی ینهض مجددا؛ هی فیما إذا کانت ریاح التغییر السیاسی ستهبّ قریبا على مصر؟.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.