24 May 2010 - 13:41
رمز الخبر: 2256
پ
رسا/آفاق- فی الوقت الذی کان شباب الثورة یصنعون الملاحم والبطولات فی جبهات الدفاع المقدس، کان اخوة لهم فی امکنة قصیّة یضعون ایدیهم على قلوبهم، وهم یعیشون معهم ذلك المخاض الشاق والطویل، وهذه خاطرة..شهادة من ذلک الزمن الجمیل./ بقلم عبدالرحیم التهامی.
خرمشهر..خاطرة من یوم التحریر.


فی مثل هذا الیوم، ومن غرفة على سطح البیت، کانت ضمن أماکن أخرى قلیلة ملتقى لمجموعة من الشباب المؤمن، منضدة صغیرة، ومجموعة کتب ومجلات، وصورة للإمام الخمینی(قده)، لها وجه آخر عبارة عن صورة لمشهد طبیعی، کان ذلک رعایة للاعتبارات الأمنیة، حیث کنت لا أجعل الصورة على جهة الإمام الخمینی(قده)، إلاّ حین لا أتوقع زائرا من غیر المجموعة التی تقاسمت معها الحلم بالتغییر والالتزام بالعمل الحرکی، وفی الرکن، على زاویة الحائط، کان ذلک المذیاع المتوسط الحجم الذی أهدانی إیاه أخی الأکبر حین عودته من أداء العمرة، لشدّة ما لاحظ شغفی بالأخبار.
کان الحدث فی ذلک الیوم بالنسبة لکاتب هذه السطور استثنائیا..کان جهاز الرادیو المضبوط على موجة رادیو الجمهوریة الإسلامیة فی إیران، ینقل وعبر الأثیر أوّل البیانات العسکریة..بیانات تحریر خرمشهر..تتخللها التکبیرات من مسجدها الجامع..کانت البیانات تداع بالفارسیة، وعلى غیر العادة هذه المرة؛ باللغة العربیة أیضا، وکانت المعطیات الأولیة تتحدث عن انتصار استراتیجی عظیم، سیرسم منعطفا فی مسار الحرب والمواجهة.. تحریر تام، وهزیمة ساحقة لقوات صدام، وأعداد هائلة من الأسرى ضمنهم ضباط کبار، فضلا عن الغنائم الهائلة.
کان صوت الرادیو یضعف ویتشوّش من حین لآخر، ویتداخل مع موجات أخرى، ما کان یتسبب لی فی شیء من التوتر، لکنّه فی الأخیر کان یستقرّ على صفاءه.. الوقت عندنا کان یفصله عن الغروب حوالی الساعتین او تزید قلیلا، ولم یکن فی المقدور التقاط موجة رادیو صافیة إلاّ فی المساء؛ مع بعض التشویش طبعا، وهو الوقت الذی کان یصادف فترة البث العربی من السابعة إلى الثامنة بتوقیت طهران.
الجو الملحمی یعرج بی إلى المدینة المحرّرة وأجواء النصر فیها، فأخال نفسی والرشّاش بیدی واحدا من الذین صنعوا ذلک النصر وهم یرفعون أصواتهم بالتکبیر من مسجدها الجامع، کان إحساسُ الفرح العارم یصوّر لی وکأنّ موجة العواطف تنقلنی بعیدا لتحط بی بین جنود الإسلام، حَواریّی الإمام..وفی وسط أولئک الشباب الثوری الذین ارتسمت ملامح وجوه بعضهم فی ذاکرتی حین وصلتنی بطرق خاصة أول مجلة مصوّرة عن شباب الثورة من الحرس والبسیج وهم فی جبهات الدفاع المقدّس..
لم یکن یومذاک من سبیلٍ إلى الصورة على التلفزیون، فالموقف السیاسی والإعلامی الذی اختاره النظام الحاکم؛ کان هو الانحیاز التام إلى صدّام الملعون وقادسیته المزعومة، فکانت نشرات الأخبار الرسمیة تعتمد وبشکل أساسی على وکالة الأنباء البعثیة..بل إنّه ومن فرط العداء للثورة والکُره لقائدها وزعیمها؛ فقد کان محظورا بث أی تقریر یظهر فیه الإمام الخمینی(قده)، وما کان أمامنا إلا أن ننتظر تصرّم فصل الربیع بفارغ الصبر، لأنّه ومع حلول الصیف؛ کان صفاء الجو یتیح لنا التقاط بعض قنوات التلفزیون الاسبّانی، وکنّا نشعر بنشوة التحرّر من سطوة الإعلام الرسمی والموجّه، وهکذا کنّا نتابع فی نشرات الاخبار؛ تقاریر وتغطیات بالصورة عن أحداث إیران، بل وکنّا نملّی النظر بصورة الإمام الخمینی(قده) وهو یخطب فی حسینیة جمران، فنستغرق فی سحر اللحظة، ونشعر بتماه مع الزمن الثوری المنبعث من طهران عاصمة الثورة، وکنّا نشکر الله لأنّ الطبیعة کما الجغرافیا فی هذا المورد کانتا لصالحنا.
کانت دموع الفرح تنساب على خدی، وانأ أکبّر على إیقاع تلک التکبیرات المرتفعة من المسجد الجامع أو ما بقی منه، فالأخبار کانت تتحدث عن دمار واسع طال المدینة الصامدة، کنت اشعر أنّ التحریر فتح مسالک العبور إلى القدس، فهذه العملیات التی توجّت بالتحریر کانت تحمل اسم "بیت المقدس"، وقد کان واضحا لدینا أنّ الحرب المفروضة کانت هی الرد الاستکباری على شعارات الثورة والتزامها بتحریر فلسطین.
کواحد من الشباب المؤمن، کنّا نخشى على الثورة، فلم یکن مضى وقت کثیر على واقعة انتصارها المبارک، وهی التی ملأت قلوبنا فرحا وطموحا وأملا، وأعطت المعنى لحلمنا الإسلامی ولذلک الشعار الذی کنّا نردّده من دون عمیقِ فهمٍ "الإسلام هو الحل"، حتّى شنّ صدّام حربه على الجمهوریة الإسلامیة الناشئة، ومنذ لحظة العدوان الأولى والتی فهمنا أبعادها، کان الانخراط فی المتابعة الإعلامیة لمجریات الحرب والدفاع المقدس، وعلاقة ذلک کلّه بتطورات الوضع الداخلی للثورة وبمخططات التآمر والاستنزاف التی تعرضت لها؛ من أبسط التزاماتنا تجاه الثورة الإسلامیة.
کانت الأخبار قد بدأت تتواتر قبل مدة من یوم الحسم فی خرمشهر، وتحدیدا مع انطلاق عملیات "بیت المقدس" حیث کانت التقاریر تتحدث عن احتدام المعارک فی محاور القتال على مشارف المدینة، وبرغم البیانات الصدّامیة التی تعتمدها أکثر المنابر الإعلامیة فی تحیز للطرف الصَدّامی وارتباطا بآلته الإعلامیة المموّلة عربیا، فإنّ إحساسا ما؛ کان یُنبئ بتطور دراماتیکی فی ساحة المواجهة عطفا على فک حصار عبدان، المعبّر دلالیا عن متغیرٍ جوهری فی الأداء العسکری الإیرانی.
فی ذلک الیوم کانت نشرة أخبار الواحدة بتوقیت غرنیتش على إذاعة لندن، تتحدث عن شبه سیطرة للإیرانیین على المدینة، إلاّ من جیوب للجیش الصَدّامی، وهذا ما کانت تنفیه البیانات العسکریة العراقیة..وکان علیّ العودة إلى الثانویة فی فترة ما بعد الظهیرة، لا أذکر کیف تحملت کل ذلک الوقت وکل تلک الحصص حتى عودتی إلى المنزل ومتابعة آخر التطورات..
فتحت المذیاع..حرّکت مؤشر الموجات على طهران، فکانت الموسیقى العسکریة..ثم البیانات ثم تکبیرات النصر والفتح من المسجد الجامع..وکان الفرح الذی لا یوصف ومعه جرت دموع الفرح ، ومعها طمأنینة لازمت قلبی إلى الیوم.. من یومها؛ من یوم خرمشهر المجید أیقنت أنّ الثورة بعین الله، وأنّ هذه الثورة نجحت لکی تستمر.
فی صباح الیوم الموالی..وکعادة الإخوة المؤمنین، کنّا نتوجّه یومیا بالتحیّة لطهران، ونقول ومع إطلالة کل فجر جدید؛ صباح الخیر یا طهران الحبیبة.
فی ذلک الصباح..وبعد التحیّة لطهران الحبیبة، توجهت بقلبی إلى خرمشهر وقلت مبروک علیک الحریة یا خونین شهر یا أشمخ المدائن، هکذا فهمت أنّ الإمام سمّاها، حین تطهرت بالدم من رجز الغزاة الصدّامیین.
رحم الله قائد هذا الانتصار العظیم الإمام الخمینی(قده).
رحم الله شهداء هذه الملحمة البطولیة النادرة فی التاریخ العسکری، والتی وجهّت صفعة لا تنسى للاستکبار و لأحلام الرجعیات العربیة، وسفهّت أوهام قادسیة صدّام اللعین.
رحم الله جمیع شهداء الثورة وشهداء الدفاع المقدّس.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.