رسا/تحلیل سیاسی- مشهد الاستقبال الرائع الذی حظی به قائد الثورة الإسلامیة فی زیارته لقم، لا یمکن حصره ضمن الأطر العاطفیة والوجدانیة؛ فدلالاته السیاسیة تفرض نفسها فی المیزان الاستراتجی. بقلم عبدالرحیم التهامی.

الصورة أفصح من کل کلام وفوق ممکنات الکلام العادی فی الوصف، وکیف لکلام حتّى وهو یصدر عن فصیح أن یصوّر تلک اللحظة الوجدانیة العارمة والعاصفة بالشوق والمحبّة والولاء التی احتضن بها أهالی قم الإمام السید علی الخامنئی، فغدا موکبه محمولا بین أمواج المحبین والعاشقین والموالین وهی تزفّه رجل اللحظة والأمّة والإسلام من على مشارف قم حتى قلبها؛ حیث ضریح کریمة أهل البیت فاطمة المعصومة(ع).
کیف للسیاسی أن یترجم مدلولات لحظة الاستقبال التی کانت أشبه بقیامة من الفرح والاحتفاء ممهورة بتجدید البیعة والولاء؟
وکیف لمتوقّع أن یتوقّع ما سیکون علیه حال المرجفین والمنافقین والمستکبرین من الخزی والحسرات وهم من منّوا الأنفس أن شعب إیران طامح لحریة على غیر مسلک ولایة الفقیه، وأنّ إیران تتوق لصورة عن نفسها مستنسخة عن نموذج دیمقراطی مستولد من سیاقات عصر الأنوار الأوربی!
لقد نسجوا الکثیر من المعطیات عن هشاشة موقع ولایة الفقیه، بل إنهم جعلوا من المشهد مابعد انتخابی مخاضا یعلن استنفاد مرحلة من النظام السیاسی لإغراضها وضروراتها وبشّروا بالولادة الجدیدة التی استبقتها بیانات الدعم والتبنّی فی أکثر من عاصمة من عواصم محور الاستکبار.
لکن النبتة الخضراء التی هلّلوا لها تحولت بعد حین من الوقت إلى ورقة صفراء تذروها الریح إلى مطارح النسیان..لکنّها للأسف سمّمت الأجواء، فتحوّلت بؤرة الضوء الإعلامی إلى ما سُمی بالانقسام فی المؤسسة الدینیة، وعمل التکتیک الغربی على تضخیم التفاعلات السیاسیة حیث جرى الترکیز فیها على عدم اعتراف بعض المراجع برئیس السلطة التنفیذیة رئیس الجمهوریة الدکتور احمدی نجاد.
وبمعزل عن الخوض فی هذه التفاعلات ومدى دقتها فإن الاختلاف فی التقدیر أمر دارج خاصة عندما یتعلق الأمر بثورة، وعند المفاصل السیاسیة الهامة.. هذا فضلا على أنّ بعض زعماء الفتنة هم أصحاب صلات وعلاقات بالحوزة العلمیة وببعض خطوطها وزعماءها، ومن الطبیعی أن تعیش الحوزة بعض ارتدادات الحدث فی شکل مواقف واصطفافات.
من هنا تکتسی زیارة قائد الثورة الإسلامیة أهمیتها القصوى لجهة معالجة الآثار واجتراح توافقات ترمم الصدع على صعید الحوزة، فرهان الأعداء هو فی اللّعب على بعض التناقضات التی نشأت فی سیاق الحدث الانتخابی، مع الإقرار بأن ثمة تناقضات لا علاقة لها بهذه الأحداث بقدر ارتباطها بعضها بعدم نضج فکرة الدولة واقتضاءاتها عند بعض الوجوه الحوزویة.
فی خطابه لم یتردد القائد فی استعمال مفردة "فتنة" وهو یتحدث عن محاولة العدو إجهاض نتائج المشارکة الملحمیة للشعب الإیرانی فی الانتخابات الرئاسیة والتی شکلت استفتاءا عاما على ارتباط الشعب الإیرانی بنظام الجمهوریة الإسلامیة، وهو إذ یفعل ذلک فهو یستند من جهة إلى کل ما طُرح من آلیات ومخارج دستوریة فی تدبیر الخلاف الناشئ عن نتائج الانتخابات الرئاسیة کما فی خطبة یوم الجمعة التی خطبها بعد الانتخابات- وهی التی رفضها الخاسران فی الانتخابات-، وإلى أن فی الفریق الآخر عقلاء ممن وقف على مسلسل الانکشافات التی عرّت المعترضین على نتائج الانتخابات الرئاسیة من جهة ثانیة، هذا فضلا على المستمسکات التی قد یُکشف عنها فی اللقاءات الخاصة التی ستجمعه مع ممثلی هذا الفریق.
وقد کان لافتا تمحور الخطاب حول مشاریع الأعداء ومؤامراتهم على النظام الإسلامی، بما یمکن اعتباره مخاطبة للعقل الباطن لذلک الفریق الذی أخذ یتصرف من خلال ردود فعل بتضخیم النقد حول أداء السلطة التنفیذیة، کیما یغلّب المصلحة العلیا للنظام على الحسابات الضیّقة والعابرة.
أکثر من ذلک فإعلان القائد عن موت مفاعیل الحظر الاستکباری على إیران، وفشل خطط الأعداء لدفع النظام للاستسلام أو التنازل هیأ المسرح العملیاتی الداخلی لطفرات تنمویة هائلة خاصة أنّ البنیة التحتیة قائمة، وامتلاک ناصیة العلوم حقیقة افتکّتها النخب الإیرانیة العلمیة الشابة بصبرها ومجاهدتها..وهذا کلّه مشروط بتمتین الجبهة الداخلیة من خلال الوحدة الوطنیة بین أبناء الشعب، وبین الشعب والسلطات الثلاث وخاصة السلطة التنفیذیة وبین هذه السلطات فیما بینها.
لقد مرّت اللحظة الصعبة والحرجة بکل مراراتها عندما تجنّد الإعلام المعادی لاستثمار الشرخ الذی وفّره من کانوا بالأمس وجوها فی مسیرة هذه الثورة المبارکة، واجتهد الإعلام الموجّه لتسویق صورة الشارع الإیرانی المنقسم والمضطرب، لتحلّ محلّ الصورة النمطیة التی رسختها مسیرة أکثر من ثلاثة عقود من الأمجاد الثوریة والتلاحم بین الشعب والقیادة الثوریة وملاحم الحضور فی الساحات؛ تلک الساحات التی لم تغب عنها تلک القبضات الصارمة وهی تهتف بالموت لأمریکا ولـ(إسرائیل).
وها هی قم؛ قم الوفیّة لنهضة الخامس عشر من خرداد المجیدة کانت فی الموعد؛ وألقمت الأعداء مشهدا إحتفائیا بقائدها، وأسمعتهم الشعارات إیّاها والتی ظن أن حصاره المفروض سیمس من عنفوانها. ها هو مشهد الاستقبال سیدفع بالعدو خاسئا لإعادة حساباته ومراهناته.
من قال أنّ صورة الاستقبال الرائع لقائد الثورة الإسلامیة هو مجرد مشهد عاطفی لا یؤخذ فی حسابات الإستراتجیا، ومن یزعم أن لا أثر له فی معادلات الصراع وموازین القوى؟؟
فالعکس هو الصحیح.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.