
عندما تفاجأت أجهزة المخابرات الأمریكیة والغربیة بتفجّر الثورة التونسیة وامتداد شرارتها إلى مصر ومن ثم إلى أكثر من مكان فی العالم العربی، وحینما أسقط فی ید الاستخبارات الإسرائیلیة التی كانت مهتمة أكثر بتتبع تقاریر الوضع الصحی للقادة العرب وتتدخل فی سیناریوهات التوریث؛ وبشكل مباشرة كما حصل فی مصر؛ فإن المفاجأة لم تدم طویلا، خاصة وان هذه الأجهزة الاستخباراتیة مبرمجة على هضم المفاجآت والمبادرة إلى الاستدراك على كل وضع یخرج عن حدّ التوقعات.
حصل هذا مع انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران، وحصل أیضا بعد انتصار المقاومة الإسلامیة فی حرب تموز2006 وكان الفشل، ویحصل الآن فی كل من مصر وتونس فی ما یعرف بالثورة المضادة.
بل إن التدبیر الاستخباراتی الأمریكی/الصهیونی أظهر قدرة فائقة على التكیف مع مسرح الأحداث، فبادر أوّلا إلى دعم وتنشیط كل عناصر ومفردات الثورة المضادة ومماشاة حركتها الارتدادیة؛وهی حركة متوقعة فی أنظمة فاسدة ومترهلة؛ لتفریغ الثورة من دلالالتها السیاسیة أی ما قبل الثورة وما بعدها، ومحاولة فرض سقف منخفض على شعارات وتطلعات الثورة، وضمان استمرار بقایا النظام السابق وتمییع أجواءها لخلق حالة من الإحباط وتقلیص الإندفاعة الثوریة، وهنا تجب الإشارة للفورة السلفیة فی مصر وممارساتها المرعبة والمستفزة للشعور الدینی كما فی حالات الاعتداء على بعض الناس بدوافع أخلاقیة أو من خلال التعرض للأضرحة والمزارات.
أما فی الدول التی تعتبر مناطق حیویة بالمعنى الاستراتیجی ومنابع للشریان النفطی ، فقد عمل التدبیر السیاسی والأمنی على تامین بعض دول منطقة الخلیج من هذا المد الثوری وذلك حین أعطت الإدارة الأمریكیة الضوء الأخضر للقوات السعودیة للتدخل فی البحرین وقمع الثورة بتواطؤ دینی (خطبة القرضاوی) وإعلامی(قناة الجزیرة وأخواتها) وذلك للإیفاء بمتطلبات منسوب الشرعنة والتعتیم المطلوبتین لانجاز الجریمة بقلیل من التداعیات السیاسیة والإعلامیة وتحقیق هدف التامین.
على صعید ثالث عمل التدبیر الأمریكی على التدخل فی الثورة اللیبیة جنبا إلى جنب مع بعض دول الاتحاد الأوروبی بعد أن انعطفت الثورة إلى الخیار العسكری لمواجهة استراتجیة الفتك لتی اعتمدتها كتائب القدّافی الأمنیة، وهو التدخل الذی تسلل إلى الانتفاضة اللیبیة من عنوان إنسانی مزعوم هو فرض الحظر الجوی لحمایة المدنیین، لكن الأهداف الحقیقیة هی تأمین المصالح فی هذا البلد الغنی بثرواته النفطیة والذی یقع فی الضفة الجنوبیة للبحر الأبیض المتوسط فی مقابل أوربا؛ ولو اقتضى ذلك تقسیم لیبیا، وما الترویج للمبادرات السیاسیة وتلكؤ حلف الناتو فی حركته العسكریة إلا مؤشرات على مخطط لسرقة الثورة ومعها الثروة.
أما فی الیمن فلم یلحظ هناك ضغط سیاسی على الرئیس المعمّر علی عبدالله صالح مارسته الإدارة الأمریكیة حتى الآن، بل هی ومع إیمانها باحتراق ورقة الرئیس الیمنی، تراهن الإدارة الأمریكیة على نصف ثورة، أی تغییر لا یغیّر فی موقع الیمن السیاسی ولا فی علاقته بأمریكا، ولا یكون مزعجا لجارته الكبرى العربیة السعودیة. وفی هذا الإطار یمكن فهم المبادرة الخلیجیة للحل والتی رفضها الثوار بشكل حاسم.
أما الحلقة الرهیبة فی هذا المخطط فهو استثمار الحالة الثوریة التی تعم الشارع العربی ونقل شرارتها؛ أو فی الحد الأدنى تحویر اتجاهها؛ وهذا ما نشهده هذه الأیام فی سوریا.
ونرید أن نؤكد أن مطالب الإصلاح حاجة سوریة وقد أقر الرئیس السوری بشار الأسد نفسه بذلك، بل واعترف بتأخر هذه الإصلاحات، وقد انخرطت سوریا فعلا فی دینامیة إصلاحیة، فإذا فبعض الحراك مشروع ولا یستطیع أحد أن یختلف مع مشروعیته.
لكن الحراك الإصلاحی؛ وقد كان لافتا غیاب شعار "الشعب یرید إسقاط النظام" عن التظاهرات؛ اخترقته جهات متربصة شرا بسوریا ودورها فی محور المقاومة.
رأس النظام مطلوب فی سوریا أمریكیا وإسرائیلیا وهو أمنیة أنظمة عربیة معروفة، ولذلك كان التركیز الإعلامی منقطع النظیر على الهبّة الإصلاحیة لبعض الشارع السوری، لجرّها إلى مسرح الثورات العربیة بعد أن عمدّها الشیخ القرضاوی من على منبر الفتنة والطائفیة فی الدوحة.
والمتصفح للصحافة الإسرائیلیة سیجد مادة دسمة مما یكتبه المحللّون الذی یتحدثون عن اعتدال المیزان الاستراتجی بعد أن أعاد الثوار فی مصر لمصر روحها، بل منهم من ذهب لرجحان هذا المیزان لمصلحة العدو.
ذلك بعدهم، لن یحصل ذلك بإذن الله وقد بدأت تتكشف خیوط المؤامرة و الدور الأمریكی والإسرائیلی فیها من خلال وكلاء المهمات القذرة لبعض الجهات الإقلیمیة.
كل الأمل أن تسد القیادة السوریة كلّ منافذ هذا الاختراق، فالدیمقراطیة والإصلاحات والموقع المتقدم فی المقاومة هی ما یتناسب مع سوریا وحجمها ودورها التاریخی فی الصراع.
فالإصلاحات لن تقوم إلا بتعزیز الجبهة الداخلیة وتمتینها وإلقام حجرا فی وجوه الغربان السود، وسترفع فی الرصید التاریخی والشعبی للقیادة السوریة.
ما یهم أمریكا هو مصالحها، ولأن الثورة نقیض الهیمنة، فإن المسعى الأمریكی هو تحویل الثورة إلى وظائف تجمیلیة وتنفیسیة للاحتقانات السیاسیة، لكن مع ضمان وتأمین المصالح، وكل كلام آخر فهو لا یخرج عن الدجل والنفاق الأمریكی المعروف.
لكن الثقة كبیرة فی الثوار..وفی تراكم الخبرة من السیاسات الأمریكیة، وفی كون دم الشهداء لن یذهب هباءًا.. كل هذه عوامل ستعقد من الرهانات الأمریكیة وخططها والتی نتمنى لها الخیبة كمثل الخیبة التی جرعتها إیاها الثورة الإسلامیة فی إیران.