فی ذکرى انتصار25 أیار
رسا/تحلیل سیاسی- یأتی الاحتفال بذکرى انتصار 25 أیار2000 مختلفا هذا العام، فهو یأتی فی مشهد عربی مختلف موسوم بالارادة فی حسم المعرکة مع الاستبداد، لم یعد کسب المعرکة ضد الدولة البولیسیة مستحیلا بل أقرب الممکنات، وکانت البدایة مع الایمان بان هزیمة (اسرائیل) أمرٌ ممکن. بقلم عبدالرحیم التهامی.

فی استحضار ذکرى انتصار 25أیارالمجیدة یمکن القول ومن دون مبالغة أننا نستحضر لحظة مفتاحیة فی تاریخ الصراع مع العدو الصهیونی، نقول لحظة مفتاحیة لأنها لا تسمح لنا فقط بفهم معادلة النصر فی صراعنا مع (إسرائیل)، بل وأیضا فی فهم الکثیر من الأبعاد السیاسیة والثقافیة والدینیة فی واقعنا الإسلامی وصولا إلى مجمل هذا الحراک الثوری الذی تعرفه منطقتنا.
لم یکن الانتصار مجرد کسرا لمیزان القوى الذی کان لصالح العدو باعتبار (إسرائیل) فی الأساس تمثل قاعدة عسکریة متقدمة للغرب فی منطقتنا الإسلامیة وبحکم الالتزام الأمریکی بضمان تفوقها العسکری على کل دول الشرق الأوسط مجتمعة..ومع ذلک استطاعت المقاومة الإسلامیة ومن خلال النفس الطویل أن تبدع وتجدّد فی أسالیب حرب العصابات وأن تلحق الهزیمة بالعدو عسکریا وأمنیا، ویبقى کمین بلدة "انصاریة" نموذجا للظفر الذی حققته المقاومة الإسلامیة عسکریا وأمنیا على قوات النخبة للعدو الصهیونی، وقد کشف السید حسن نصر الله قبل أشهر فی مؤتمر صحافی عن بعض أسرارها الأمنیة.
کان الانتصار أیضا کسرا لحالة الهزیمة النفسیة وإبطالا مبکرا لمفاعیل الخرافة التی صدّق بها البعض، وأرید لها ان تنتشر کمعتقد فی السیاسة کما فی الحرب بین الناس مثقفین وجمهورا وهی أن (اسرائیل) لا یمکن أن تُهزم.
فمن اللحظة التی کفر فیها الفتیة الذین آمنوا بربهم بهذه الأحجیة، وازدادوا إیمانا وقد بدا لهم من الیقین عبر فصول معرکة "خلدة" البطولیة على مشارف بیروت صیف عام 1982، کان سیاقا آخر من النضال یُفتتح أمام الأمة..فغزو لبنان وطرد قوات منظمة التحریر الفلسطینیة واحتلال بیروت عاصمة المقاومة بعد صمود أسطوری للفدائیین، لم یزلزل کلّ ذلک من ثقة شباب المقاومة فی القدرة على اجتراح النصر، وقد وجدوا فی انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران عنوانا لزمن آخر مختلف یعد بانبثاق الأمة المنتصرة..وثقوا بالله ونصره ولم یستوحشوا الدرب قط، بل قرأوا فی تجربة الإمام الخمینی(رض) - الذی بایعوه- أنّ الدروب الموحشة توصل؛ بشرط أن تکون مع الله، وجدوا الأنس واطمئنوا إلى یقینٍ بالنصر کما انتصر الإمام الخمینی من یوم أن سلک مفردا فی ذلک الدرب الطویل حتى عودته الظافرة ذات خریف عام 1979م .
لم تنشا المقاومة من فراغ، ولا هی قدمت نفسها کمبتدأ لفعل المقاومة بل هی عدّت نفسها امتدادا للمقاومة الفلسطینیة والمقاومة الوطنیة اللبنانیة، لکنها تمیزت بهویتها العقائدیة وبخصائصها الثقافیة وبقدرتها على تفعیل مخزون المقاومة والجهاد والثورة فی التراث الشیعی خاصة، فحضر الإمام الحسین کرمز للفداء والتضحیة بقوة فی أدبیاتها، وحضرت زینب فی ثقافة الأمهات والأخوات والزوجات کعنوان على الصبر امام القرابین تأسیا بصبرها أمام المشهد الکربلائی المفجع، وحضر العباس بن علی کرمز للبطولة والنجدة والإیثار، وحضر الإمام المهدی کحتمیة لانتصار المستضعفین فی الأرض..
وکمقاومة تتعلّم من الدروس وتأخذ بأسباب القوّة فقد هضمت کل دروس التجربة الفلسطینیة المقاوِمة وتجاوزتها إلى تجارب أخرى فی المقاومة دون أن تسد هامش الإبداع، وهو ما اتسع وتطور وحمل بصمات القائد العسکری الشهید عماد مغنیة، حتى غدت تجربة المقاومة الإسلامیة مدرسة قتالیة جدیدة.. صنعت التحریر وزادته استحکاما فی انتصار تموز2006 وتحولت إلى نمط قتالی جدید عکفت على دراستها بعض الکلیات الحربیة فی الغرب.
من میزات المقاومة الإسلامیة أنها متداخلة مع عمقها البشری، وتعیش حالة التحام به بحیث یصعب أن نرصد هذه الدرجة من الالتحام فی تجارب مقاومات أخرى، بل العلاقة تجاوزت الاعتبارات المیدانیة والاخلاقیة إلى انخراط المقاومة فی العمل السیاسی خدمة للمجتمع المقاوم وتعزیزا لشروط مناعته وقوته ورسوخه فی خط المقاومة.
هذه الممیزات وغیرها کانت عاملا حاسما فی تحقیق التحریر فی 25أیار عام 2000، وهیأت الشروط القتالیة والنفسیة لانتصار تموز عام 2006، فدلالة ما تحقق مع التحریر أنّ العدو القائم على مشاریع الاحتلال والتوسع بدأ یتراجع، بل وینهزم دون ان یحمی نفسه باتفاقیة او شروط..وکان أبلغ فی الدلالة قول قائد المقاومة فی بنت جبیل فی خطاب التحریر" والله إن (إسرائیل) لأوهن من بیت العنکبوت".
منذ التحریر وبعض القوى الاقلیمیة تتربص شرا بالمقاومة، وهالها ان یرتفع الرصید السیاسی لحزب الله لأنه شیعی، فاوعزت لأشباه المثقفین الذین اشترتهم بالدولار بأن لا یهتموا بهذا الانجاز التاریخی بل ویصوّروه على أنه مجرد امتثال اسرائیلی للقرار الدولی حتى وإن جاء تحت شیء من الضغط؛ لا ضغط المقاومة بل ضغط الداخل الاسرائیلی من خلال حرکة الامهات الأربع (و هی حرکة نسائیة إسرائیلیة مناهضة لحالة الحرب، نشأت فی عام 1997، وتهدف إلى انسحاب (إسرائیل) من الأراضی العربیة التی احتلتها، وبخاصة من الجنوب اللبنانی، وإنهاء حالة الحرب وحل جمیع المشاکل بالمفاوضات والطرق السلمیة)، وحرکت هذه الدول فلول المرتزقة من صناّع الوعی الدینی للطعن على الشیعة وتسعیر الحرب المذهبیة، وازداد ذلک خاصة مع انتصار تموز2006 مرورا بکل الوان الکید والتآمر.
وللأسف فقد حققت الأنظمة العربیة الرجعیة بعض أهدافها، وطیلة سنوات ستّة؛ هی الفاصلة بین الانتصار الأول والثانی؛ ظلّ 25 أیار یوما عادیا من یومیات أمة أرید لها ان تعیش ذکرى نکبتها وذکرى نکستها، ولا تقرأ دلالات انتصار أیار ومعادلة النصر فیه.
لکن ما أضمرته الخیانة لانتصار أیار کان أحقر من أن یمنع مفاعیله فی لاوعی القطاع الأوسع من الأمة، فبذلک الانتصار استقرت حقیقة کبرى فی الوجدان الشعبی للامة، هذه الحقیقة هی الممکن فی الصراع، وبتوضیح اکبر أنّ الانتصار المجید حطم المستحیل وأحلّ بدله ثقافة الممکن. انهزمت (إسرائیل) وكان قد صوّر على أنه مستحیل، وبانهزامها انجرفت فی اللاوعی باقی المستحیلات، ولأنّ التحول فی منظومة القیّم الثقافیة یاخذ وقتا اطول، فقد تطلب ذلک حوالی عقد من الزمن لتنضج البنیة الثقافیة الجدیدة، ولما نضجت کان یکفی أن یعلن الشاب التونسی محمد البوعزیزی صرخته بوجه الإذلال والحُکرة على طریقته، لتنبعث ثقافة الممکن من قاع الوجدان، ولیترجمها التوانسة الأحرار من خلال شعار "الشعب یرید إسقاط النظام"، کتعبیر عن إرادة ممکنة التحقق..وکذلک کان، انهار النظام البولیسی وظل رمزه الأبشع طریدا معلقا فی الأجواء حتى تحننت علیه حاضنة جدّة أدامها الله لأمثاله، وکرت بعد ذلك سبحة الاستبداد، ولا زال المخاض متواصلا، وانفتحت النوافذ - أخیرا- على هواء جدید بطعم شیء یقال له الحریـــة.
تحیة لقادة المقاومة وشهداءها..
تحیة لشهداء التحریر والمقاومة..
تحیة للشعب الذی صنع لنا کلّ هذه الأمجاد.
وکل 25 أیار ونحن راسخون فی الانتصارات.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.