رسا/تحلیل سیاسی- المتتبع لخطابات قائد الثورة الإسلامیة حول القضیة الفلسطینیة، سیقف على ثابت وهو التحریر الشامل، وعلى متغیر مما تفرضه الوقائع فی مسار الصراع مع العدو الصهیونی..لکن تبقى لخطابه الأخیر بمناسبة المؤتمر الدولی الخامس لدعم الانتفاضة الفلسطینیة قیمته الاستثنائیة. بقلم عبد الرحیم التهامی.

لا یمکن وصف خطاب قائد الثورة الإسلامیة سماحة الإمام السید علی الخامنئی فی افتتاح المؤتمر الخامس لدعم الانتفاضة الفلسطینیة الاّ بالخطاب التاریخی والاستثنائی، وسیدرج الخطاب بلا شک ضمن أهم الوثائق التی تتصل بالصراع ضد المشروع الصهیونی منذ نشأته، تأتی أهمیة الخطاب أولا لاستیعابه للبعد التاریخی فی الصراع مع الدقة فی تشخیص منعطفاته ورسم مفاصله وفق منهج تحلیلیّ نقدی یسمح بفهم عناصر المد والتراجع فی المسیرة الکفاحیة لقوى المقاومة الفلسطینیة، وبتشخیصه لراهن الصراع وفق موازین القوى الفعلیة على الأرض ولیس کما تصورها الدعایة الصهیونیة، او توحی بها الادارة الامریکیة، فضلا على اشتمال الخطاب لخلاصة الدروس منذ بدایة الصراع وتضمنه لخارطة طریق نحو هدف التحریر الشامل.
لقد کان لافتا تعرض الخطاب بالنقد للنزعة الیساریة والقومیة والتی تأطر ضمنها الکفاح الفلسطینی على مدى عقدین من الزمن فی الحد الادنى مما کان له بالغ الاثر فی إهدار المخزون الثقافی وعزل فاعلیته فی الصراع من خلال مفاهیم الجهاد والشهادة وغیرها، بل إن الادلجة المفرطة لدى فصائل المقاومة الفلسطینیة وخاصة الیساریة منها- وإذا استثنینا حرکة "فتح" نسبیا- حولتها إلى فصائل شبه معزولة عن الشعب لانعدام اللغة المشترکة بینهما، وللتباین فی الرؤى على صعید فهم طبیعة الصراع وموقع الدین والایمان فیه.
هذا الخلل الجوهری والمتمثل فی "عدم توفر الایمان الدینی الراسخ والانقطاع عن الشعب" کما جاء فی الخطاب، أنتج الهزیمة النفسیة ومن ثم الارتکاسة عن أهداف الحرکة التحرریة کما تجلى ذلک واضحا فی اتفاقیة أوسلو وما أعقبها من أداء سیاسی لبعض الفصائل الفلسطینیة لا یمکن وصفه الا بالخیانة والتنکر للحقوق الثابتة والتاریخیة للشعب الفلسطینی.
یقف الخطاب عند لحظة حاسمة من تاریخ الصراع أو من عمر النکبة وهی لحظة انقلاب المشهد والتحوّل فی میزان القوى.." القدرة الإلهیة قلبت الصفحة فجأة، وقلب انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران فی سنة 1979م الأوضاع فی هذه المنطقة رأساً على عقب، وفتح صفحة جدیدة"، وغدا تحریر فلسطین والقضاء على الغدة السرطانیة فی جسم الامة (إسرائیل) هدف الثورة الولیدة التی ضبطت بوصلتها على القدس..وبرغم کلفة هذا القرار وأثمانه الباهضة سیاسیا واقتصادیا ظلت فلسطین فی قلب الثورة وعنوانا لدورها الاقلیمی والدولی.
ومع انتصار الثورة الاسلامیة یضعنا الخطاب على مشارف مرحلة جدیدة من الصراع بوجه العدو حین انبثقت الجماعات الفلسطینیة المجاهدة الإسلامیة، وبانطلاق المقاومة فی لبنان بصیغة فریدة من خلال "حزب الله"، واعتماد الفلسطنیین على انفسهم وعلى ایمانهم بعدما کسر انتصار الثورة الاسلامیة کل المستحیلات فی الصراع وامد الشعوب بدرس ثری فی معادلات القوى وطریقة تمثلها باستحضار البعد الغیبی القاهر.
ومن الاستعراض التاریخی التحلیلی الذی یؤکد القائد الخامنئی على ضرورة استلهام دروسه فی التوجه المستقبلی؛ یصل بنا الخطاب الى القراءة الآنیة لمشهد الصراع حیث تقود مضمرات القراءة ومعطیاتها فی دائرة أعلى سلطة لدولة إقلیمیة کإیران إلى أن " الکیان الصهیونی الیوم مکروه وضعیف ومعزول أکثر من أی وقت آخر، وحامیته الرئیسیة أمریکا مبتلاة متحیرة أکثر من أی وقت آخر".
ولانّ إیران معنیة بهذا الصراع ومنخرطة فیه فکان لا بد من قول فصل تجدد من خلاله مواقفها وترسل رسائلها الى اکثر من جهة فی ضوء ما استجد من معطیات فی مسار الصراع، فجاء الموقف الثابت " إن دعوانا هی تحریر فلسطین ولیس تحریر جزء من فلسطین، أی مشروع یرید تقسیم فلسطین مرفوض بالمرة.. إن دعوانا هی تحریر فلسطین ولیس تحریر جزء من فلسطین، أی مشروع یرید تقسیم فلسطین مرفوض بالمرة". فی لغته السیاسة یعتبر هذا الموقف ترجمة للموقع والمکانة الدولیة والاقلیمیة التی تحتلها إیران، فوحدها دولة کبیرة ومطمئنة إلى موقعها و إمکاناتها یمکن لها أن تصل بالموقف من قضیة کبیرة وحساسة کالقضیة الفلسطینیة هذه الدرجة من الوضوح " أی مشروع عملیاتی یجب أن یکون على أساس مبدأ: کل فلسطین لکل الشعب الفلسطینی، فلسطین هی فلسطین؛ من النهر إلى البحر، ولیس أقل من ذلک حتى بمقدار شبر".
وهو المشروع الذی تدرک القیادة الایرانیة انه وإن اندرج ضمن الممکنات العسکریة والسیاسیة فإن درجة التحدی فیه کبیرة وعظیمة لذلک جاء الخطاب لیؤکد على "أنه من أجل الوصول إلى هذا الهدف السامی لا بد من العمل ولیس الکلام، ولا بد من الجدّ ولیس الممارسات الاستعراضیة، ولا بد من الصبر والتدبیر لا السلوکیات المتلونة غیر الصبورة. ینبغی النظر للآفاق البعیدة والتقدم للأمام خطوة خطوة بعزم وتوکل وأمل".
بعد التأکید على ثابت المقاومة کخیار فی تحقیق الهدف السامی للشعب الفلسطینی فی سیادته على أرضه، انفتح الخطاب على مقاربة سیاسیة للصراع حیث أعاد التذکیر؛ تذکیر المجتمع الدولی؛ بمشروع الجمهوریة الإسلامیة لحل قضیة فلسطین وهو المشروع الذی وصفه المرشد بالمشروع الواضح والمنطقی والمطابق للعرف السیاسی المقبول لدى الرأی العام العالمی، ولعله یناسب بعض الجوار الإسلامی ممن یأنف من الحرب الکلاسیکیة، ویسحب من الصهاینة فزاعة رمی الیهود المهاجرین فی البحر، یقول الاقتراح:إننا نقترح إجراء استفتاء للشعب الفلسطینی، فمن حق الشعب الفلسطینی کأی شعب آخر أن یقرر مصیره ویختار النظام الذی یحکم بلاده. یشارک کل الفلسطینیین الأصلیین من مسلمین ومسیحیین ویهود - ولیس المهاجرون الأجانب - أین ما کانوا، فی داخل فلسطین أوفی المخیمات أوفی أی مکان آخر، فی استفتاء عام ومنضبط ویحددوا النظام المستقبلی لفلسطین. وبعد أن یستقر ذلک النظام والحکومة المنبثقة عنه سوف یقرر أمر المهاجرین غیر الفلسطینیین الذین انتقلوا إلى هذا البلد خلال الأعوام الماضیة. هذا مشروع عادل ومنطقی یستوعبه الرأی العام العالمی بصورة صحیحة، ویمکن أن یتمتع بدعم الشعوب والحکومات المستقلة".
وبمعزل عن جوانب الانصاف التاریخی والاحتکام الى الآلیة الدیمقراطیة فی هذا المقترح؛ التی یزاید بها الغرب على بقیة الشعوب والثقافات؛ وقوته الاختراقیة، وبمعزل عن موقف الصهاینة ومن یدعمهم من کل ذلک، فإن اقتراح هذه الصیغة من الحل بأبعادها الانسانیة والحضاریة فی تناول مصیر الیهود فی أرض فلسطین أو من هاجر إلیها قبل نشأة الکیان یمثل فی الوعی الصهیونی أجراس القیامة لأسطورة الدولة الیهودیة، ویعمق من أزمة الوجود التی یعانی منها الکیان الغاصب والتی فاقمها انتصار "حزب الله" على العدو الصهیونی فی حرب تموز2006م.
وفی ما یشبه إغلاق القوس، ولعله من باب دفع أی التباس لدى البعض، عاد الخطاب لیؤکد على أنّ "منظمات المقاومة الإسلامیة التی تحملت فی الأعوام الماضیة أعباء الجهاد الثقیلة لا تزال الیوم أیضاً أمام هذا الواجب الکبیر. مقاومتهم المنظمة هی الذراع الفاعل الذی بمقدوره أخذ الشعب الفلسطینی نحو هذا الهدف النهائی".
ولاظهار أن اوباما یجذف خارج التاریخ، وأن خطه الأحمر الذی یحوّق به دولة (إسرائیل) الغاصبة مجرد وهم سیتکسر، کانت الاشارة ضروریة للشعوب المسلمة الثائرة التی لم تعد ترید "بأن تتحکم فیهم أمریکا وأوربا وعملاؤهم، ویفرضون علیهم الهوان"، فالزمن غیر الزمن، وکما کان لانتصار الثورة الاسلامیة فی إیران فاتحة عهد جدید من الانتصارات فی اتجاه الهدف الکبیر، فإن صحوة الشعوب الاسلامیة ستکون رافعة قویة لنضال الشعب الفلسطینی.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.