رسا/ تحلیل سیاسی- بعد أن خاب سعیها فی جعل العراق نموذجا للدیمقراطیة على وفق تصورها الخاص..ها هو أوباما یکرر نفس الرهان على تونس بزعمه أن الولایات المتحدة الأمریکیة تأمل فی أن یعطی تقدم تونس نحو الدیمقراطیة مثالا یحتذی به آخرون..فما هی قصة أمریکا مع الدیمقراطیة؟ / بقلم عبدالرحیم التهامی.

بعد الإجتماع الذی عقد فی البیت الأبیض؛ نهایة الأسبوع المنصرم؛ مع رئیس الوزراء التونسی الباجی قائد السبسی، أشاد الرئیس الأمریکی باراک أوباما بتقدم تونس نحو الدیمقراطیة، وقال: "إن الولایات المتحدة لها مصلحة کبیرة فی رؤیة النجاح فی تونس، وتأمل فی أن یعطی تقدم تونس نحو الدیمقراطیة مثالا یحتذی به آخرون" وأضاف: "فی ضوء أن تونس کانت أول دولة تخوض التحول الذی نعرفه باسم الربیع العربی، وفی ضوء أنّها الآن أول دولة تُجری انتخابات؛ رأینا أنّه من الملائم أن تکون تونس أول من یزور البیت الأبیض".
هذا التصریح یفید فی فهم استراتجیة تعاطی أمریکا مع هذا الحراک العربی ومع مجمل التحولات التی تمخضت عنه، بل وأیضا استشراف مآلات ما یسمى بالربیع العربی - ما التحفظ الشدید على التسمیة-.
ومفتاح الفهم لهذه الاستراتجیة یکمن فی مفردة ا"لدیمقراطیة"، وهنا نتساءل: هل ترحب أمریکا حقا بهذه التحولات التی یشهدها العالم العربی؟ وهل هی صادقة فعلا فی دعم مشاریع الانتقال نحو الدیمقراطیة؟ وهل انهیار انظمة حکم دیکتاتوری کما فی تونس ومصر لا یزعج الإدارة الأمریکیة؟
قبل الخوض فی هذه الأسئلة، تجدر الإشارة إلى أنّ للسیاسة الخارجیة الأمریکیة قصة قدیمة مع مشاریع دعم الدیمقراطیة وحقوق الإنسان فی العالم، وفی کل شوط تاریخی تعید بلورة وظیفتها الدیمقراطیة الرسولیّة بما یتماشى وحفظ نفوذها وتعزیز مصالحها عبر العالم.
لسنا مضطرین لفتح قوس تاریخی عریض فی قصة علاقة أمریكا بالدیمقراطیة، بل نكتفی بالعُشریة الاولى من هذا القرن..وهکذا فبعد أحداث الحادی عشر من أیلول/ سبتمبر أصبح نشر الدیمقراطیة ومبادئ احترام حقوق الإنسان فی الشرق الأوسط؛ وهذه المرة عن طریق التدخل المباشر والإملاءات؛ أحد الأهداف المعلنة للسیاسة الأمریکیة فی المنطقة، وذلک من منطلق أن الفضاء الاستبدادی یساعد فی نمو نزعات التطرف الدینی ویقوی المیولات نحو "الإرهاب". وقد سعت هذه السیاسة لجعل العراق نموذجا للدیمقراطیة یحتذى به فی منطقة الشرق الأوسط، ففی خطاب للرئیس جورج دبلیو بوش أمام مؤسسة «أمیرکان انتربرایز انستیتیوت» للدراسات التابعة للمحافظین الجدد، أکد بأن إقامة نظام جدید فی العراق سوف یقود إلى تغییر دراماتیکی فی الشرق الأوسط وسیلهم باقی الشعوب إلى التطلع لمسایرة نموذج حی للحریة فی المنطقة..ثم جاءت قمة الدول الثمانی فی حزیران/ یونیو 2004 لتعزز من هذا التوجه بطرح مبادرة الشرق الأوسط الکبیر.
وفی ضوء ذلک ستطلب الإدارة الأمریکیة من الحکومات العربیة تطبیق إصلاحات سیاسیة واقتصادیة واسعة تحت طائلة مساءلتها عن سجلها فی مجال حقوق الإنسان وحرمان المحتاجة منها من برنامج المساعدات المالیة.
لکن مخاطر قیام نظام دیمقراطی واحتمالات وصول"إسلامیین متشددین" إلى الحکم کما کاد أن یحصل مع جبهة الإنقاذ الإسلامی فی الجزائر عام 1992م، وتأثیرات کل ذلک على الأمن الاسرائیلی أجبرت الرئیس الأمریکی بوش الابن على تبنی فکرة التطبیق التدریجی للدیمقراطیة فی دول المنطقة، من خلال التحفیز على بعض الإصلاحات السیاسیة الشکلیة کإیجاد بعض الهوامش الدیمقراطیة فی الدول التی تخلو من أی تعبیرات لما یسمى بالمجتمع المدنی مع غض النظر عن الطبیعة اللادیمقراطیة لهذه الدول وسجلها الأسود فی مجال انتهاک حقوق الإنسان.
وبالعودة إلى الثورات العربیة فکلنا یذکر موقف المسؤولین الأمریکیین فی الأیام الأولى للثورة الشعبیة فی مصر ومساندتهم لنظام مبارک، ولکن وبإدراک الامریکیین بأن عهد مبارک فی نزعه الأخیر أخذ الموقف الأمریکی یتبلور فی اتجاه التضحیة بمبارک من خلال الدعوة لانتقال منظم للسلطة وذلک تحسبا من تداعیات موقف المساندة على المستوى الاقلیمی وعلى المصالح الأمریکیة من أن تلحق بها أضرار فادحة ، وهکذا انقلبت الصورة و حلّت الإشادة الخطابیة بالشباب المصری فی خرجات أوباما بدل الموقف الأمریکی الداعم لمبارک.
أما فی النموذج التونسی، المفتتح لعهد الثورات العربیة؛ ولخصوصیة جیواستراتجیة فإن الإدراة الامریکیة أرادت أن تظهر بأنها أکثر تقبلا للتغییر من منافستها على النفوذ فرنسا؛ وراهنت على کسب ود الشعب التونسی بدلا من مواجهته، وهی لم تکن بعیدة عن حیاد الجیش التونسی فی الساعات الحاسمة من تصاعد الثورة التونسیة، کما لم تکن غائبة عن استثمار الفراغ القیادی فی الثورة وذلک بالمساهمة فی إخراج السیناریوهات الأولى البدیلة بعد فرار الرئیس التونسی. ولم یأت احتفاء الإدارة الأمریکیة بالثورة التونسیة إلا بعد أن ضمنت نفس الأدوار الأمنیة والاستخبارتیة التی کانت مخولة للاجهزة المعنیة على عهد النظام السابق، وأن تضل تونس مفتوحة بقوة على الکیان الصهیونی کما فی السابق.
وهکذا یفتضح کذب أمریکا ونفاقها، فهی وبعد أن استثمرت فی أنظمة مستبدة لتعزیز نفوذها ولخدمة مصالحها، وعملت على الافادة من وضعها المفتقر لأی شرعیة سیاسیة او دیمقراطیة لخدمة الأمن الصهیونی وفک طوق العزلة عنه، وتسهیل تمدد مکاتب اتصاله إلى أکثر من عاصمة عربیة، هاهی ومنذ الحدث التونسی تبدی دعمها لما تسمیه بالثورة الدیمقراطیة فی العالم العربی.
لقد أدرکت أمریکا أن الثورة فی تونس - وهی لیست استثناءًا فی هذا السیاق- نمط جدید فی الثورات؛ فهی ثورة بلا قیادة طلائعیة وبلا ایدیولوجیة وبلا مشروع سیاسی ومجتمعی واضح..بل هی ثورة ضد الاستبداد والفساد، هی تفجر اجتماعی کان بحاجة الى فتیل بعدما صادرت السلطة بوجهه کل المسالک السیاسیة والثقافیة لتصریف توتراته..ولذلک ووفقا لحسابات الربح والخسارة لم تجد الإدارة الأمریکیة مانعا من دعمها ومساندتها، فلیس سقوط رأس عفن عن هیکل نظام مستبد هو الذی سیزعج الولایات المتحدة الامریکیة، ویدفعها إلى المخاطرة بمصالحها لتواجه الإرادة الشعبیة.
بل یمکن القول أن تجدید بنیة النظام العربی على قاعدة نفس السیاسات والالتزامات یمثل حاجة أمریکیة واوروبیة أیضا، ولذلک وجدنا أمریکا ترکب موجة هذه الثورات وتحاول ان ترسم لها السقوف المقبولة أمریکیا وإسرائیلیا لأداء الوظائف المتجددة على الساحة الدولیة.
ولعل الخطیر فی الأمر هو استغلال أمریکا لهذه الهبّات والمناخ الذی نشأ عنها لتصفیة الحساب مع أنظمة خارجة عن طوعها ومعادیة ل(إسرائیل) کما یحصل الآن مع سوریة، بما یؤکد أن أمریکا لا تحترم المبادئ الدیمقراطیة ولا تعنیها أن تتحول الدیمقراطیة إلى آلیة لتدبیر مسألة التداول على السلطة وفق الإرادة الشعبیة هنا أو هناک؛ بما یجعل الطبیعة الدیمقراطیة لأمریکا مجرد زعم وإدعاء.
ویبقى التواطؤ الأمریکی والشراکة السیاسیة فیما تعیشه البحرین من قمع وإجهاض لحرکتها الإصلاحیة وصمة عار فی جبین أمریکا ونقطة سوداء مضافة إلى سجلها الإجرامی بحق الشعوب.
نختم ونقول أن هذه حسابات أمریكا ومناوراتها..لكن تبقى لإرادة الشعوب الكلمة الفصل فی هذا الطور من اللصوصیة الأمریكیة وهی تحاول سرقة الثورات..وعهدنا بالشعوب أنها دائما هی من ینتصر كلما وثقت بقواها وتوكلت على الله.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.