رسا/آفاق- الکتابة عن الشهید القائد عماد مغنیة مغامرة، فالرجل لم یُعرف إلا حین ترجّل عن فرسه وارتفع شهیدا. من ذلک الحیز المُضاء والوضّاء فی مسیرته؛ وهو یسیر؛ تسللت إلیکم هذه الکلمات، التی قد لا تقول شیئا مهما أو جدیدا، لکنها ترید أن تحتفی بأحد أعظم القادة فی تاریخ المقاومات. بقلم عبد الرحیم التهامی.

بقدر ما تغریک الکتابة عن الشهید عماد مغنیة..بقدر ما تسد علیک الظلال الکثیفة منافذ الولوج إلى ساحة الرجل أو لبعض عوالمه، فالرجل یقترب من حالة الأسطورة، إذا لم یکن فعلا أسطورة فی تاریخ المقاومات باطلاق.
وحتى حینما یأتیک عزم الکتابة انطلاقا من الحیز المُضاء علیه فی سیرة الرجل ومسیرته الجهادیة الطویلة فإن إحساسک بضحالة ما تکتب سرعان ما یفت فی هذا العزم، وهنا تتحقق الأسطورة فی تعالیها ومحدودیة ما تفصح عنه، تارکة المجال للتخیل والافتراض مع قدرة متجددة على الإدهاش.
لکن ومع کل ذلک تغدو الکتابة؛ ومعها کل مجالات الفن والابداع؛ مسؤولیة أخلاقیة تجاه الأبطال والرموز الکبیرة فی مسیرتنا الإسلامیة والجهادیة..الکتابة بما هی تخلید للرمز وافتکاک لجوانب فی سیرته من قبضة الأسطورة، وتنزیلها منزلة الفعل الإنسانی القابل للسریان فی نماذج بشریة أخرى والامتداد فیها على شرط الإرادة والعزم والإقتباس، ومن ثم الإبداع والإضافة فی مقابل الشرط التاریخی وما یفرضه من تحدیات متجددة.
عماد مغنیة..اسمٌ انساب إلى وجدانی معنًى جمیلا متلبسا بفعل المقاومة وملتبسا معها، کان ذلک فی أواسط الثمانینات، التی تأکد فیها أن فعل المقاومة عصیّ على الشطب والإلغاء..حوصرت بیروت ولم تسقط، ولم یدخلها الإسرائیلی إلا بعد رحیل وترحیل قوات منظمة التحریر الفلسطینیة إلى مناف بعیدة عن خطوط التماس مع فلسطین..هنا اقترفت العین فعل مقاومة المخرز، مجترئة على زمانها؛ الزمن العربی الردئ؛ ومدفوعة بیقین الإمکان الذی رأته رأی العین شهودا فی معرکة خلدة البطولیة على مشارف بیروت المحاصرة.
فی مطلع الثمانینات وبعد الاجتیاح الاسرائیلی للبنان بدا أن الفعل المقاوم هویة بیروتیة، تنتصر على شروطها الصعبة، وأن الهزیمة فی معرکة مختلة الموازین لصالح العدو لا تعنی نهایة المعرکة..فافقنا على اندحار العدو عن بیروت بفعل المقاومة وانکفائه الى ما کان یعرف بمنطقة الشریط الحدودی، ثم ما تلى ذلک من أحداث وتطورات تردد معها اسم عماد مغنیة – عن حقیقة او ادعاء- بدءا بتفجیر مقر قوات المارینز ببیروت وصولا إلى طائرة الجابریة المختطفة.
هذه التفاصیل لا تهم کثیرا، فالأهم أن هذا هو السیاق الذی انتشر فیه اسم القائد عماد مغنیة..والتقطته ذاکرة البعض قبل أن یغیب الاسم فی أفق النسیان إلاّ من رأس لائحة المطاردین لأکثر من جهاز استخبارات عبر العالم.
ما اعتبر غیابا عن الساحة وانحسار تداول الإسم/الرمز، کان فی الواقع تکتیکا لإعطاء الحضور أعلى مدیاته الاستراتجیة..وذلک عبر التجلّی لا من خلال الذات بل من خلال العمل الأمنی والعسکری. وهکذا استثمر الرجل القائد قدراته الممیزة؛ والتی انتبه لها فی وقت مبکربعض قادة حرکة فتح؛ للانتقال بحزب الله من حزب یلتزم المقاومة من منطلق دینی وسیاسی وأخلاقی ویعبر عن ذلک فی أدبیاته بأداء التکلیف الشرعی، إلى حزب مقاومة بأفق إلحاق الهزیمة ب(إسرائیل) فی المیدان، وبتغییر صورتها عن نفسها کمقدمة لانهیارها وزوالها.
حینما أفاق العرب، وبینهم جحافل الثوار المستقیلین، صبیحة25 أیار عام 2000، بدا أن الجمیع غیر مصدق لحقیقة ما یجری على أرض جنوب لبنان، فهل هذه فعلا (إسرائیل) التی فر جنودها من الجنوب کحمر مستنفرة تحت ضربات المقاومة؟ وهل هذه فعلا المقاومة التی انتصرت؟؟
فی مکان ما من الجنوب المتطهر من دنس الإحتلال؛ وقف شخص یُعرف باسم بالحاج رضوان (الاسم الجهادی والتمویهی لعماد مغنیة)، لم یشده کثیرا مشهد الجنود الصهاینة وهم یغلقون – بفرحة الخلاص- بوابات الحاجز الحدودی بین لبنان وفلسطین المحتلة، بل کانت عینه على القدس، لم یذهله الانتصار الکبیر عن فلسطین، بل بدت له فلسطین أقرب مسافة مما کانت علیه.. فهمس لها بأنها على موعد قریب مع هدیر خطوات المجاهدین لتحریرها من الأسر.
کان انتصار أیار2000 کبیرا؛ فبالمیزان الاستراتیجی هو أکبر بکثیر من تحریر أرض کانت محتلة؛ وکان على المقاومة أن تکبر معه بل وأن تتخطاه حتى تکون فی مستوى تداعیاته على کل أبعاد الصراع فی المنطقة والعالم..من تلک اللحظة انهمک عماد مغنیة على تطویراستراتجیة الممکن العسکری الى استراتیجیة تفریغ الردع الإسرائیلی.
عندما انجز الحزب صفقة تحریر أسراه بوساطة ألمانیة عام 2004 کان هناک عقل أمنی، یقرأ جیدا فی الرموز والدلالات ویسبر سیکولوجیة الکیان الصهیونی، لاستثمار الصفقة فی وضع مرایا جدیدة أمام (إسرائیل) ترسخ لدیها؛ وفی عمق أکبر؛ تلک الحقیقة التی زلزلت کیانها الغاصب عندما خطب السید حسن نصر الله فی مهرجان الانتصار فی بنت جبیل لیقول وبأغلظ الایمان بأن (إسرائیل) بسلاحها وعنجهیتها هی أهون من بیت العنکبوت.
لم یکن انتصار التحریر إلا افتتاحا لورشات هائلة من العمل الأمنی والعسکری واللوجستی، کان القائد عماد یسابق الزمن لردم الهوة وتضییقها من خلال هندسة أسالیب جدیدة ومبتکرة فی حرب العصابات، واسجلاب السلاح المناسب والمتطور، وتحویل الأرض والجغرافیا إلى سلاح فتاک، ثم فقأ عین العدو بمناورة الکبرى لتفریغ بنک الأهداف الذی کان فی حوزة (إسرائیل) من أی قیمة استراتجیة.
وجاء العدوان فی تموز من عام 2006 فی سیاق مشروع جدید للمنطقة أطلقت علیه الإدارة الامریکیة اسم "الشرق الأوسط الجدید".. وفی الحسابات الإسرائیلیة والأمریکیة کما فی أمنیات الرجعیة العربیة، کان العدوان لکسر المقاومة وتشطیبها مجرد نزهة ستنهی حتما شیء اسمه المقاومة وحزب الله..لکن المخطط سیرتد على عصابات المراهنین فی کل مکان منذ أن خطب السید حسن نصر الله وتکلم عن بدایة سلسلة المفاجآت وأتبع القول بما شاهدناه جمیعا فی البحر والبر.
ولما انکشف غبار المعرکة عن هزیمة ماحقة للصهاینة..وعلى کل صعید، وتناثرت أوراق "الشرق الاوسط الجدید"محترقة على بوابات "مارون الراس" و"عیتا الشعب" و"بنت جبیل"أدرکت (إسرائیل) أنها دخلت مأزقا وجودیا..انهارت أساطیرها المؤسٍّسة، وذهب ردعها أدراج الریاح، وانکسرت صورتها فی وعیها وفی التاریخ المعاصر، وکان علیها أن تنوء وجودیا تحت ثقل مفهوم لم تتحسب له اساطیرها المؤسسة ولن تتحمله؛ وهو مفهوم الهزیمة.
فی بیروت وفی مهرجان الانتصار بتاریخ 22أیلول 2006 کان القائد عماد هناک بلباس مدنی، کان کأحد أبرز القادة العسکریین للمقاومة معروف باسم الحاج رضوان، کثیرون مروا بجانبه فی طریقهم للاحتفال بأکبر انتصار، دون ان ینتبه ای منهم الى أن ذلک الرجل صاحب الوجه الثوری هو مهندس الانتصارین.
لم یکن هادئا، فالسید حسن نصر الله؛ رفیق دربه؛ قرر الظهور على المنصة مباشرة، وکان على الجسم المقاوم أن یکون على أعلى درجات التأهب والاستنفار، فالصهاینة توعدوا وهددوا..لکن الأکید أن العدو قد تبلغ رسالة ما بشکل غیر مباشر وبلا وسیط أیضا، والذی بصم على الرسالة کان هو عماد مغنیة.
وکما فی الإنتصار الإول، تعاظمت المسؤولیة..لم یهدأ القائد عماد، کان علیه ومباشرة بعد وقف إطلاق النار أن یؤمّن عودة النازحین إلى جنوبهم بأقل الخسائر مما تسببه الألغام..وتثبیت النصر بتلک العودة السریعة للاهالی. کان علیه أن یشرف على أکبر عملیة تقییم دقیق عرفتها المقاومة فی تجربتها، فالقییم هو فی نفسه أکبر غنیمة فی المعرکة. وانهمک بعد ذلک وفی ضوء القییم المنجز على تعزیز القدرات العسکریة للمقاومة وتطویرها، ومواصلة المعرکة الأمنیة مع العدو وتعمیق الفجوة لصالح العقل الأمنی للمقاومة.
ولأنه عماد الذی حمل فی قلبه فلسطین، فلم یر فی الانتصار الالهی والتاریخی الذی تحقق إلا محطة تقرّب من لحظة الصلاة فی القدس، حمل دروس حرب تموز ومعها معرفة مضافة بالعدو، ووضعها من خلال قنواته التی لم تنقطع یوما بید إخوة الجهاد فی حرکة "حماس" وحرکة "الجهاد الإسلامی" وواصل معهم مشروع التسلیح.
یقال انه وبعد واحدة من لقاءات التنسیق هذه، تمکن الأعداء من القائد عماد مغنیة فی منطقة کفر سوسة بدمشق فی سوریا، استشهد القائد الذی عاش اکثر من نصف عمره مطاردا من الاستخبارات الدولیة.
رحل شهیدا، وبشهادته صار اکثر حضورا، أحبه الناس وکأنهم یریدون ان یستدرکوا بعظیم حبهم له على مرحلة الاختفاء، فأضحى حبه بأثر رجعی، وهذا نادر الحصول، وهذا مقام لا یرقى إلیه إلا من رفع الله مقامه.
ترجل الفارس..لم یأخذ معه إلا أسرار تخفیه، أما ما ینفع المقاومة فی لبنان وفلسطین فقد استودعه فی أیادی الرجال..فارتقبوا المنازلة الحاسمة القادمة..ولا تندهشوا حین یخطب فیکم سید المقاومة السید حسن نصر الله، ویقول: کما کان الحاج الشهید عماد مغنیة صانع الانتصارین، فهو صانع هذا الانتصار الالهی الکبیر الثالث..هذا الانتصار الذی قصم ظهر (إسرائیل).
فی ذکرى استشهادک أیها القائد..دمعتین ووردة، وبعض العزم من عزمک.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.