رسا/آفاق- نتناول فی هذه السلسلة من المقالات الحدث التاریخی الكبیر الذی تفجر فی مغرب العالم الإسلامی لیمتد إلى مشرقه..محدثا المفاجأة لنا ولغیرنا، ومؤذنا ببدایة ما، لا نرید أن نستبق معطیات القراءة لتحدید هویة هذه البدایة..قد تختلف القراءات، تفترق وتتقاطع فی هذا المفصل أو ذاك..لكن وبمعزل عن المآلات، فالحدث یمكن أن نجزم بأنه بدایة لشیء ما..بقلم عبدالرحیم التهامی.

فی الحلقة الأولى قمنا باستعراض أهم القراءات التی تذهب إلى اعتبار ما یسمى بالصحوة الإسلامیة أو بالربیع العربی مجرد جعجعة فی فنجان، وقد انطلق من قال بذلک؛ ولتأکید صوابیة قراءته؛ من النتائج التی تمخض عنها الحراک العربی فی مغرب العالم الإسلامی و مشرقه، وهی النتائج التی نقرّ مع أصحاب هذه القراءات بأنها جاءت فی بعض حقائقها مخالفة لما توقعه الکثیرون بل صادمة ومحبطة أحیانا.
هناک ملاحظة منهجیة جوهریة نسجلها على هذه القراءات وهی أن کل هذه القراءات انطلقت من النتائج؛ مع أنها غیر نهائیة، ولم تهتم کثیرا بالمنطلقات او لنقل لم تعبأ بذلک المتغیّر الجوهری الذی انتقل بشعوب کانت تعیش فی درک المهانة الوجودیة إلى شعوب حیّة ومتحررة ثائرة من أجل الحریة والکرامة..وهی الهبّة التی أسقطت؛ وبحساب النتائج أیضا؛ عهدا من الدیکتاتوریة فی الزمن العربی، وطوحت بأنظمة استبدادیة وعمیلة ومتخلفة، حوّلت مؤسسة الدولة إلى جهاز مافیوزی یمارس القمع والسرقة ویدمن الخیانة للجهات الأجنبیة.
هذا المتغیّر التاریخی فی قصّة هذا النهوض وهذه الثورات هو ما سأحاول الإضاءة علیه..لأن الذی حصل لیس مجرد ثورات وإسقاط لعروش ودیکتاتوریات، بل الذی حصل هو تحوّل جوهری رادیکالی فی واقع الأمة؛ وفی وعیها وإدراکها وسیکولوجیتها.
هناک شیءٌ نضج فی الوعی وحتى فی اللاوعی ومن خلال التراکم، سمح باقتحام العقبة؛ عقبة الخوف والرهبة من صورة السلطة المتوحشة، وبحصول هذه الطفرة الکبرى من حالة الاستسلام والوضاعة الوجودیة إلى الحالة الثوریة والحضور فی الساحة لدفع مستحقات التغییر؛ دماء وشهداء ومصابین؛ وبالتالی العبور إلى دولة الحریة والکرامة والمواطَنة التامة والمتساویة.
الانظمة التی حکمت او التی لا زالت تحکم، فی انتظار أن تدور علیها دوائر الصحوة والثورة مدفوعة بالقدر التاریخی، هی سلیلة موروث متجدر من الاستبداد فی التجربة السیاسیة للأمة، یتداخل فیه جشع السلطة.. باحتقار وازدراء ل"الرعیة"، باستثمار خبیث للدین من أجل تبریر التسلط والتحذیر من الخروج المفضی إلى الفتنة التی هی أشد من القتل، عبر تاریخ طویل کانت هذه هی هویة السلطة؛ سلطة النزّاعة الى الاستحواذ والتنکیل بکل معارض..ومع ذلک اجترحت قدرة هائلة على تغلیف هذا الهویة بمظاهر حداثیة من قبیل النص الدستوری، والمواد القانونیة والمؤسسات التمثیلیة.
والمفارقة أن هذه السلطة الاستبدادیة، تمکنت من الإسحواذ على الدین وفرض رؤیتها الخاصة علیه، ولم تترک فیه مساحة نابضة بمعانی الحریة والکرامة الإنسانیة، أو بالغضب المقدس، او بالحقوق المدنیة والسیاسیة إلا وأهدرت مدلولاتها من خلال طابور العلماء المنتفعین الخائنین لأماناتهم. ثم ترادف القمع مع تجفیف منابع الکرامة فی الدین والثقافة لصوغ "رعیة" منقادة أشربت فی قلبها وکل وجدانها الخوف والرهبة من السلطة، التی أمنت لبائقها، والتغطیة على امتهانها للشعوب من خلال الارتهان الکامل الى المحاور الدولیة الغربیة وتقدیم الخدمة السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة عن ذلة وهی صاغرة.
وهذا ما یفسر کیف أن معظم الحرکات الشبابیة الثوریة و التنظیمات الطلابیة المعارضة والتی عرفتها بعض المجتمعات العربیة، انطلقت من ارضیة ایدیولیوجیة بعیدة عن الدین، بل إن الدین فی الأدبیات السیاسیة لهذه التنظیمات قد حمّل أوزار التوظیف الخبیث للسلطة، فأبعد من دائرة الصراع، بل أن بعض هذه التنظیمات سعت لأجل إبعاده حتى من مجال الثقافة والقیّم، فعدّت کلّ القیّم الناشئة من الدین قیّما رجعیة یجب التحرر منها ضمن مشروع تحرری أکبر؛ اشتراکی أو شیوعی مارکسی.
ولم یتغیّر هذا الوضع إلا بانتصار الثورة الإسلامیة فی إیران بقیادة الإمام الخمینی(رض)، وهو الانتصار الذی افتتح سیاقا دینیا وسیاسیا جدیدا فی واقع الأمة، لم تکن للأسف الأمة فی حینه؛ باستثناء مجموعات من الشباب والمثقفین؛ مهیأة للإنخراط فیه للأسباب التی أشرنا لبعضها آنفا، وإن کانت قد استبشرت خیرا بالثورة وبقائدها وعلقت علیها آمالا عریضة.
وبالعودة إلى ذلک المتغیّر الجوهری؛ الذی نعتبره القیمة الکبرى فی التحولات الثوریة التی عرفها العالم العربی، فإنه منشأه فی التقدیر العلمی، ثلاثة عوامل، اول هذه العوامل هو ما أتاحته ثورة الاتصال من قدرة على التعرف عن التجارب الدیمقراطیة فی العالم، ومنها الدیمقراطیة الدینیة فی إیران، وقد مثل هذا تحررا من الوصایة الإعلامیة التی مارستها الانظمة وأفادتها فی صیاغة الرأی العام. العامل الثانی هو تراکم الإحساس بالمهانة الوجودیة من خلال تواطؤ الأنظمة العمیلة مع (إسرائیل) وجرائمها بحق الشعب الفلسطینی، وقد تعزز هذا الإحساس من خلال دور الإعلام الذی وثق لهذه الجرائم وعرضها أمام المشاهد العربی الذی لم یجد رد فعل من حکامه..من هنا کان التثمین الشعبی لمواقف الجمهوریة الإسلامیة فی إیران من أمریکا و(إسرائیل)، ومن هنا أیضا ذلک الإعجاب بالانعطافة المحسوبة للحکومة الترکیة من قضیة فلسطین؛ بعد حرب غزة تحدیدا. أما العامل الثالث ولعله الأهم؛ فهو تغیّر معادلة الممکن والمستحیل فی وعی الشعوب، فقد ترسخ فی وعی الشعوب أن تغییر الانظمة المتسلطة مستحیل، تماما کما هی هزیمة (إسرائیل) أمر مستحیل..ونفس الشیء فی الاعتراض على الادارة الأمریکیة وعدم التسلیم لها..لکن الشعوب شهدت انتصار "حزب الله" على (إسرائیل)، وتابعت فشل أهداف عدوان (إسرائیل) على غزة المحاصرة أواخر 2008 وبدایة 2009، کما تابعت الشعوب؛ عبر وسائل الإعلام، وبشکل یومی تقریبا؛ تحدی إیران لأمریکا والغرب و(إسرائیل) فی ملفا النووی ودفاعها الشرس عن حقها فی امتلاک التقنیة النوویة.
هذه لیست إسقاطات، بل هی وضعیات متقابلة، فمن جهة هناک موارد العز والشرف والکرامة والانتصار، وفی المقلب الآخر لا شیء غیر المهانة الوجودیة وعمالة أنظمة وتغوّلها على شعوبها، وتخلف، وعطالة تاریخیة..ولا یمکن لهذه الوضعیات المتقابلة والمتغایرة فی سیاق ثقافی وتاریخی واحدح إلا أن تحدث شیئا فی الوعی الجمعی، کمقدمة لتحول فی الإرادة الجمعیة من الاستسلام إلى تحطیم جدار الخوف والتردد ومن ثم الثورة والشهادة على الواقع.
لذلک نقول أن الأوضاع السیاسیة التی نشأت بعد الثورات، کما بعض التیارات التی اندفعت من الهامش لتتصدر المشهد ما بعد ثوری، کل ذلک أوضاع سیاسیة انتقالیة، وواجهات سیاسیة مرحلیة، وصیاغات دستوریة لمرحلة لن تطول طویلا..إنه حکم الضرورة، ونتاج المفارقة الثوریة التی تمثلت فی أن الجماهیر تقود ثورتها بنفسها، لکنها تضطر للقبول فی إعادة البناء بأحسن عرض سیاسی أمامها.
الجوهری والتاریخی فی هذه الثورات؛ أن الشعوب قطعت مع مرحلة المهانة الوجودیة، وانتصر على خوفها الوراثی من السلطة؛ الخوف الذی تناقلته جیلا بعد جیل منذ أن جلس الحجاج بن یوسف الثقفی فی مسجد الکوفة وخاطب الجموع بقوله:" إنی لأرى رؤوساً قد أینعت وحان قطافها، وإنی لصاحبها".
لن یعود التاریخ إلى الوراء..لن یجد مستبد مناخات سیاسیة او ثقافیة او حتى دینیة زائفة لیمارس استبداده، ولن تتمکن قوى من فرض خیاراتها على الشعوب.
أما موجبات اعتبار هذه الثورات صحوة إسلامیة فسنعود إلیه فی حلقة قادمة بمشیئة الله.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.