رسا/آفاق- لأن کربلاء فی السیاق الإجتماعی تتعرض للکثیر من التشویه، وتُختزل فی طقس تفجعیّ دامٍ، فإن الحاجة إلى ثقافة تنویر تعید النهضة الحسینیة الى وظیفتها التعبویة والتثقیفیة على قیّم الإسلا م أضحت مهمة طارئة.. فی هذا السیاق یأتی هذا النص لآیة الله الشیخ عیسى قاسم.

وکربلاء بمن تقابلا فیها سِجلٌّ حافل بمواقف الحق والباطل، وشاهد صدق وحق على عظمة الدین وأهله، وخسة الفُسق وأهله. وهی ساحة غنیة بالدروس لمن أراد أن یتعلم الحیاةَ على ضوء الإیمان، ویدخل فی الخالدین ممن یُخصبون الحیاة، ویقیموا عوجها، وینیروا الدرب ما بقوا وبعد الرحیل. وکربلاء تجیبنا على الأهم من أسئلةٍ الواقع، وتضعنا على الطریق الصحیح، وتبعثنا أحیاءً إرادة وضمیراً، وعزة وکرامة، وصموداً بعد الموت.
والواقع عند الرسالیین وأمّةِ الإیمان ینشد إلى الماضی الحجة فیما هو المطلق والکلیُّ من الأحکام، والرؤى، والمفاهیم، ودلالات المواقف، ولا یتحرک منفلتاً فی هذه المجالات عن المسار الواحد الذی یربط بین کل حلقات التاریخ الإیمانی، ویحقق لها تواصلها، وانتظامها على طریق الهدف الکبیر.
یُصاغ الواقع دائماً عند الأمة الأصیلة البریء ماضیها عن اعتناق الخرافة، والساقط من الفکر والسلوک، والإعتساف على ضوء ثوابت الماضی الطلیقة من حدود الزمان والمکان، وبالاجتهاد فی دائرة المتغیرات التی تختلف من زمن إلى زمن، ومن مکان إلى مکان. والماضی الذی بنته ید المعصومین علیهم السلام هو ماض قدوةٌ فی ثوابته وضوابطه وکلیَّاته، ما مسَّه جهل ولا شیطان ولا هوى ولا قصورٌ ولا ضلال، أمّا المتغیر فهو على عصمته على أیدیهم علیهم السلام لم یُقدِّموه حجة مطلقة لا تختلف مع الزمان والمکان فی التغیرات والتحولات العارضة علیهما، ولذلک یبقى محلاً لتجدید الرأی والاجتهاد.
ومن یصوغون الامتداد الصحیح للإسلام فی الأزمنة المختلفة فی غیاب المعصوم علیه السلام هم المسلمون عقیدة، وفقها، وتقوى من أهل الخبرة بتغیرات المکان والزمان، والعارفون بفرق الثابت والمتغیر، القادرون على التنظیر للواقع على خط الإسلام فی ضوء کلِّ معطیاته.
وإحیاء عاشوراء لیس مجرد عملیة تعبدیة محضة غیر منظور فیها مدى ونوعیةَ التأثیر على الواقع، لذلک لا بد من التناسب بین أسالیبها وآلیاتها مع أجواء الواقع ومقتضیاته ومتطلباته لتعطی التأثیر المطلوب نوعاً وکمّاً، من دون أن تتسبب فی انعکاسات سلبیة تضر بأهداف المناسبة، فیجب أن یرکّز کثیراً على نقاء الأسلوب، وفاعلیة الآلیة، والتقائهما مع الموافقة الشرعیة، واستبعاد ما لا یعطی دوراً نافعاً للإسلام والقضایا الإسلامیة، فضلاً عما یشغل عن الاهتمامات الرسالیة کالطبول والموسیقا حتى على تقدیر إباحة شیء من ذلک، أو یُسیءُ إلى صورة الذکرى عند الآخرین ویحمِّلها ما لا تحتمل من غیر أن تکون فی هذه الممارسة أهمیّةٌ ترجحُ ذلک الضرر.
ومن ثابت کربلاء الذی لا بد أن یستهدی الحاضر به، ولا یمکن له الانفصال عنه:-
1. تحمل مسؤولیة الإصلاح والتغییر للواقع الفاسد فی الأمة وعدم التنصُّل عنها، ویشهد لذلک السیرة المستمرة من المعصومین علیهم السلام بما یتجاوز فی النظر الدقیق الدلالة الاستحبابیة لاشتراک کل المعصومین فی هذه السیرة وعدم وجود موقف مضاد واحد فی سیرتهم علیهم السلام. وأکثر من ذلک دلالة على الوجوب النصوص المتواترة کتاباً وسنّة. وقد انصبّت کلمات الإمام الحسین علیه السلام ومواقفه على هذا الاتجاه بصورة مرکّزة وقدّم أبلغ الدروس فی هذا المجال قولاً وعملاً.
2. المستهدَف دائماً هو الإصلاح الشامل للإنسان والحیاة بکل أبعادهما، والإصلاحات الجزئیة مقدِّمة له، ولا یصح أن تشغل عنه، أو تؤثر على هویة الأمة وانتمائها. ونستهدی هنا بما جاء عن الإمام الحسین علیه السلام ".... وإنما خرجت لطلب للإصلاح فی أمة جدی"، فهو إصلاح مطلق ولیس لحیثیة معینة، ولا لعلاج مشکلة خاصة فحسب. وإذا کان التصدی فی موقفه علیه السلام للانحراف السیاسی، فإنما کان بهدف المقدمیة من أجل الإصلاح الشامل الکامل.
3. إسلامیة المنطلق والشعار والآلیة والمعالجة "رضا الله رضانا أهل البیت".
4. الإسلام فوق کل شیء، وقبل أیّ شخصیة، وأیّ بیت؛ فالمتقدم لإنقاذ الإسلام فی کربلاء بدمه وأهله هو الحسین علیه السلام سبطُ رسول الله (ص) الذی لا ثانیَ معه على الأرض، وهو الإمام المعصوم محلُّ حاجة العالم کله، والبیت الذی تعرض للأذى والترویع والسبی من أجل الإسلام هو أکرم بیت فی الدنیا وأطهر بیت.
5. النصر الذی یُضحَّى من أجله لا یکون دائماً من النصر القریب والمادیّ "من لحق بنا استشهد، ومن لم یلحق بنا لم یدرک الفتح" فمن الثابت من دروس کربلاء وحدة الأمة ومسؤولیة الحاضر عن المستقبل ولو البعید.
6. الدعوة الحسنة، والمجادلة بالتی هی أحسن، والحوار الواعی الهادف القوی هو المقدَّم دائماً. والحسین علیه السلام ظل یحاور عمر بن سعد حتى لیلة العاشر کما یذکر التاریخ، وقد مارس عدد من صحبه الکرام التذکیر والوعظ والحوار مع الطرف الآخر.
7. لا یصح للمسلمین فی أی زمن أن یسکتوا على الفساد السیاسی لأنه من الناحیة العملیة رأس کل فساد، ولا إسلام حقا إذا استشرى الفساد السیاسی. "إذا کان الوالی مثل یزید فعلى الإسلام السلام".
8. لا یکفی للدخول فی أی معارضة أنها تواجه مفسداً ما، وتتحرک ضده، فلو کانت تستبدل فسادا جدیدا بفساد قدیم لم تکن المعارضةَ المطلوبة، ولا یصح متابعتها، وإنما معارضة الفساد التی تستحق المناصرة هی التی تأخذ بالأوضاع إلى الصلاح بعد فسادها. "لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا" فکلما کانت معارضة یزید بیزید مثله أو أخس لم تکن شرعیة، ولا یتأدى بها الواجب، ولا تستحق المتابعة.
وإذا کانت مسؤولیة الإصلاح ثابتة دائمةً فإن أسالیبها وآلیاتها وخصائصها المکانیة والزمانیة وما تقتضیه هذه الخصائص؛ من المتغیر الذی یتطلب نظراً جدیداً، ودراسة موضوعیة خاصةً به. وهذا لم یورث من المعصوم علیه السلام إلا فی حدود ضوابطه الکلیة العامة.
_ _ _ _ _
آیة الله الشیخ عیسى أحمد قاسم
خطبة الجمعة 4 محرم 1424هـ الموافق 7-3-2003م
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.