یبدو أن قوى المعارضة الثوریة ومعها معظم الشعب المصری قد انجزت مهام التعبئة والتحضیر للیوم الموعود الذی یراد منه أن یکون یوم الحسم لتنحیة الرئیس محمد مرسی وقطع ید الإخوان التی غرست أظافرها فی الثورة محولة إیاها إلى مغنمٍ إخوانیٍّ صاف عبر توافقات مع الأمریکیین وفی قلب هذه التوافقات رعایة أمن(إسرائیل) ومصالحها.
فی خطابه الأخیر الذی کان عبارة عن ثرثرة مملة لیس فیها من فضیلة الإقرار بالخطأ والتقصیر شیئا، ارتفع منسوب الغضب لدى الشعب المصری، فمع الزعم أن عنوان الخطاب وموضوعه هو کشف حساب عن سنة من حکم مرسی، فإنه لم یکن فی الواقع إلا کشفا عن بؤس رئیس لا یشبه مصر فی شیء ولا یقاس بعظمتها على ای معیار، کما بدا بعیدا فی ممکناته السیاسیة والثقافیة والتدبیریة عن حلم ثورة 25 ینایر المجیدة.
وبعیدا عن عدید من الملاحظات التفصیلیة حول الخطاب وقارئه؛ فیمکن القول أن الخطاب الذی أعدّ فی مطبخ مجلس الإرشاد (السلطة الحقیقیة فی مصر) واستعان فیه الإخوان بخبراء غربیین فی علم النفس، جاء بئیسا وکاشفا عن هوس السلطة والتمسک بها حتى وإن أدى ذلک لإغراق مصر فی بحر من الدماء وأقحم أرض الکنانة فی عُشریّة کاملة من ظلمات الفتنة والحرب الأهلیة على غرار ما شهدته الجزائر فی مطلع التسعینات من القرن الماضی مع فارق السیاق والملابسات.
لیس هناک أصعب على شعب ثائر من أن یستفیق على حقیقة مرة من حجم أن ثورته قد سرقت، وأن أهدافها العظیمة تمت مقایضتها بغطاء سیاسی أمریکی لفائدة أصحاب (المشروع الإسلامی)، والأقسى من کل ذلک ان یزعم السراق أنهم ثوار وأن من لم یقبل بالأمر الواقع فهو من الفلول وطرف فی مؤامرة على الثورة!! بل هو عدو لله ولأولیاءه من الإسلامیین، ودمه مهدور مادام یصطف فی جهة العلمانیین الکفرة!
یحتج مرسی ومعه جماعة الإخوان وبعض التیارات السلفیة بأنه حائز على الشرعیة، وبالتالی فالخروج علیه هو انقلاب على الشرعیة وکفر بالدیمقراطیة وتشکیک فی المولود المقدس الذی قذفت بها صنادیق الاقتراع الشفافة والطاهرة إلى سدة الحکم..وکأن مرسی یحاکی فی ذلک من حیث لا یدری أصلا اعتقادیا عند المسلمین وهو أنه لا یشکک فی نبوّة نبی مرسل إلا کافر أوجاحد.
ویتجاهل مرسی أن الشعب هو مصدر السلطات، ومن حقه أن ینحی رئیسا تبدى أنه ملتزم بتوجیهات مکتب الإرشاد أکثر مما هو ملتزم بأهداف الثورة، متناسیا أن الذین انتخبوه وبفارق بسیط عن منافسه أحمد شفیق فعلوا ذلک من باب الاضطرار لتجرع برنامج انتخابی عنوانه "النهضة"، لم تغرب علیه الشمس حتى اعتبره "خیرت الشاطر" نائب رئیس مجلس الإرشاد لحرکة الإخوان؛ مجرد أفکار للإستهلاک الانتخابی!
ثم أن الرئیس الإخوانی أخل بشرف القسم حین فاجأ المصریین بإعلانه الدستوری الذی جمع من خلاله کل السلطات وحصّن من خلاله کلّ قراراته، وعوض أن یکون رئیسا لکل المصریین ویتصرف کرئیس دولة جنح به منطقه التنظیمی الضیق لکی یزدری معارضیه بل وکل الشعب المصری خاصة عندما بدأ یتوجه فی بعض خطاباته لعشیرته من جماعة الإخوان ومناصریهم.
من المفارقات الکبیرة فی ثورة مصر أن الثوار لم یحسبوا حساب غد الثورة، فکانت تلک الثغرة الکبرى التی نفذ منها الإخوان برعایة أمریکیة ضمن مخطط أوسع لتعمیم النموذج الترکی کبدیل عن عصر الدیکتاتوریات المنتهیة الصالحیة، وکصیغة خلاقة فی بناء المحور السنی لمواجهة إیران ومحورها المقاوم الذی تقتضی المخططات الأمریکیة على تسمیته بالمحور الشیعی. لکن وبعد سنة من الحسرة على أهداف الثورة ودم شهداءها، وبعد معارک جزئیة على طول السنة الرئاسیة الأولى من عهد مرسی للتصدی لبعض سیاساته وقراراته، یبدو أن الکتلة الثوریة تعلمت الدرس جیدا وحضّرت نفسها جیدا تنظیمیا وسیاسیا لیوم الفصل؛ یوم النزول العظیم فی 30 یونیو، وعرفت من خلال مبادرة "تمرد" کیف تستثمر منسوب الخیبة الشعبیة العارمة من الرئیس مرسی لتحولها إلى قوة دفع ثوریة وجماهیریة هادرة تعصف بمشروع الأخونة فی أبعاده السیاسیة والإجتماعیة، وهی تمسک بیدها خارطة طریق لمرحلة ما بعد مرسی.
فی الدلالة السیاسیة یمکن النظر إلى یوم غد 30 یونیو باعتباره یوم إعلان سقوط المشروع الإخوانی سیاسیا، وقد سبقه إلى ذات المصیر السقوط الأخلاقی للإخوان عندما انکشفت جماعة الإخوان کتشکیل عصابی تحرض على العنف وتمارسه بحق المعارضین وتصمهم بالکفر، وتتخطى الحاجز الأخلاقی بحصیلة تتجاوز المائة شهید فی عهد الرئیس الذی تربی فی المدرسة التی وضع معالمها الشهید حسن البنا.
لم تجن مصر أی مکسب فی عهد الإخوان، بل تبدت أضعف وأهون مما کانت علیه فی عهد المخلوع "مبارک"، وقد حاول الإخوان أن یدغدغوا عواطف الناس بتصویر وصولهم إلى السلطة بأنه انتصار للثورة وللمشروع الإسلامی معا، متناسین أن الزمن کشّاف، وأن حبل الکذب قصیر، فلم تمر سنة من حکم مرسی حتى ضاق الناس بهم ذرعا، وهوت شعبیتهم إلى الأرض، وعض الناس الأنامل من الندم لتصویتهم على محمد مرسی.
لم یفلح الإخوان إلا فی إیجاد المناخ السائب لتنامی التکفیریین الذین یهددون السلم الأهلی ویعکرون الحیاة على المصریین بمعارکهم السخیفة وفتاویهم الشاذة، وکانت صورة مصر فی غایة البؤس عندما خطب مرسی قبل أیام فی ستاد القاهرة فیما سمی بمؤتمر(نصرة الشعب السوری) لیتصرف کخطیب شعبوی یمثل جماعة بعینها، وکمأجور حقیر یورط مصر فی الحرب المذهبیة عندما تلفظ ب"النظام الرافضی" وهو یصف النظام السوری الممانع، وکعمیل یقف على رأس أصابعه لیثبت لأسیاده أنه رئیس حقا یتخذ قرارات تاریخیة حین نطق " قررت الیوم قطع العلاقات تماماً مع النظام الحالی فی سوریة واغلاق سفارة النظام الحالی فی مصر وسحب القائم بالأعمال المصری فی دمشق"!
لیس هناک من خیار أمام مرسی إلا التنحی، فإذا کان یدرک حرمة الدم المسلم فلیحقن الدماء ولیرحل بدم مائة شهید فی رقبته ولا یزیدون، وإن أصر على وهم الشرعیة أو ظن أن الامریکان سیتمسکون به لخطورة التفاهمات التی اقترفتها جماعة الإخوان بما لا یمکن لأی طرف مصری أن یقدم علیه فهو واهم..فلا أمریکا قادرة على حمایته من ثورة شعب، ولا أکثریة الشعب تقر له بشرعیة أو حتى باحترام..
30 یونیو هو بدایة تصحیح أوضاع الثورات داخلیا وإقلیمیا، فقد کانت سنتین ونیف فرصة کافیة لیکتشف الناس فی مصر وفی غیرها بأن اللحى والقمصان لا تصنع مشروعا، وأن الدین قد یکون مجرد غطاء للسلطة، وأن الذی یخادع بالدین لیصل إلى السلطة تکون إزاحته عنها أکثر کلفة، ألم یقل صفوت حجازی وهو یهدد متمردی 30 یونیو "من یرشنا بالماء نرشه بالدم".
عندما تضع (إسرائیل) یدها على قلبها فإننا نستبشر خیرا.
نصبح وإیاکم على مصر وقد ثأرت لکرامتها وشرفها وثورتها. /9002