على طریقة الطغاة وبأسلوب فیه الکثیر من مجافاة الواقع، وبغیر قلیل من الخدر فی حاسة الاستشعار السیاسی جزم محمد مرسی بأنه"لن تکون هناک ثورة ثانیة فى مصر"! هکذا صرح لصحیفة «الجاردیان» البریطانیة، صباح أمس 30 یونیو، قبل أن یأتیه الرد عبر میادین مصر کلها حیث هتفت الملایین بشعار "ارحل" مطالبة بسقوطه وسقوط حکم الإخوان معه.
لقد اقترف مرسی وخلال سنة من رئاسته لمصر الثورة الکثیر من الأخطاء، وبنى کل تصرفاته على أساس أن "المشروع الإخوانی" یحظى بمبارکة أمریکیة، ورأى هو وجماعته أن التصور الأمریکی للمنطقة بعد ما سمی بـ(الربیع العربی) یقوم على دعم وصول الاخوان للسلطة فی کل المنطقة العربیة لیمثل ذلک الصعود رأس حربة للمحور السنی المعزز بإخوان ترکیا ومشیخات الخلیج فی مقابل إیران وحزب الله والعراق.
لذلک حین عمد مرسی إلى طبخة مشروع الدستور غیر التوافقی، او عندما ضم لسلطته التنفیذیة باقی السلطات عبر إعلانه الدستوری کان یفعل ذلک وهو مطمئن إلى المظلة الأمریکیة التی ستؤمن له کسر عظام معارضیه وفتح بوابات الجحیم علیهم عبر حلفائه السلفیین الذین لا یؤمنون بالآخر ولا یتقبلون ای مظهر من التعددیة السیاسیة ویستعملون سلاح التکفیر بحق المعارضین السیاسیین لاغتیالهم معنویا وحشرهم فی الهامش.
ولم یمر وقت طویل على خطابه فی میدان التحریر بعد ادائه للیمین الدستوریة، والذی اعتبر فیه الشعب مصدر السلطات، متعهدا بتحقیق أهداف الثورة، حتى انقلب على کل التزاماته وصرف کل جهده وطاقته فی التمکین لجماعة الاخوان فی مؤسسات الدولة ومفاصلها مقصیا کل القوى التی صنعت الثورة ومتنکرا لحلفائه السلفیین، مما أثار علیه حلیفه السیاسی الأقرب ایدیولوجیا "حزب النور السلفی".
وعوض أن یلمس الشعب المصری بعض آثار مشروع "النهضة"، کما روجت له الجماعة فی أثناء حملة الانتخابات الرئاسیة، اکشف المصریون أن الرئیس فاقد للأهلیة وأنه لا یملک مشروعا، وجاء بأضعف حکومة فی تاریخ مصر، حکومة تدهورت معها الاوضاع الاقتصادیة والمعیشیة، وبدت مصر ما بعد الثورة وکأنها فی وضع أسوأ من زمن المخلوع، کما بدت أنها مقیدة بنفس أغلال المرحلة السابقة على الثورة على صعید مکانتها الدولیة ودورها الإقلیمی.
وبدل مشروع النهضة الذی اعترف احد قیادات الإخوان أنه مجرد إنشاءات أملاها السباق الرئاسی، استفاق المصریون وقوى المعارضة على مشروع "أخونة مصر"، والذی لا یمکن فرضه على مصر إلا بالعودة إلى الدیکتاتوریة، وهنا استفاد الإخوان من کل اللفیف السلفی والجماعات الجهادیة لخلق انقسام حاد فی المجتمع المصری بین أنصار المشروع الإسلامی المزعوم وأعداءه من القوى الوطنیة والعلمانیة الذین طالتهم تهم التکفیر والخروج على الشرعیة.
وبالعودة إلى ما حدث البارحة 30 یونیو من خروج عظیم لکل أطیاف الشعب المصری، فیمکن القول أن مرسی فقد شرعیته کرئیس منتخب، وأن الشعب استعاد ثورته من السراق بشکل أسقط رهانات الإخوان فی قدرتهم على تدجین الشعب المصری عبر استغلال عاطفته الدینیة..ما حصل أمس هو ثورة جدیدة بکل المعاییر لأن ذلک الحضور الملیونی وجه رسالته لمدعی الشرعیة الانتخابیة، فوکانت الرسالة الصارخة أن الشعب الذی منحک ثقته ها هو یملأ کل الساحات ویقول لک انتهت اللعبة.."ارحل".
وأمام هذا الوضع فلیس أمام مرسی إلا حسابات الشاطر لتقلیل الخسائر، فإما إذعان لإرادة الجماهیر الثوریة ورحیل عن المشهد السیاسی، وبهذا سیؤمن لحزب الجماعة "العدالة والحریة" فرصة المشارکة السیاسیة فی الانتخابات الرئاسیة السابقة لأوانها وبعد ذلک فی انتخابات مجلس الشعب (البرلمان)، وإما عناد ومکابرة ستسیل معها الدماء وبالتالی ستکون الخسارة الفادحة فی شکل مصیر أسوأ من مصیر (الحزب الوطنی)، ومعه العودة إلى السجون والتیه فی المنافی.
بین الإذعان للثورة الثانیة فی مصر (أی ما استبعده مرسی بالأمس) وبین المعاندة والمکابرة التی تمیز العقل الإخوانی هناک الکثیر من الحسابات التی تتصل بکل المجال الإقلیمی، فسقوط مرسی وتنحیه بالرضا أو الإکراه سیعنی انهیارا فی منظومة الشرق الاوسط الذی خططت لها الإدارة الأمریکیة ومنحتها هویة إخوانیة. لذلک یترجح أن یکون الرحیل قسریا ومکلفا فی الآن نفسه، لکن فی اللحظة التی تبدو فیها مصر أنها تقف على المنحدر الأول على طریق الصومال..هنا سیکون تدخل الجیش حتمیا.
ومع سیناریو مجئ الجیش للسلطة فإن ذلک لن یکون إلا لأجل تأمین المرحلة الانتقالیة..فالجیش فهم أن الشعب المصری تغیر، وهو الأمر الذی لم یستوعبه عقل الإخوان.
مبروک لمصر ثورتها الثانیة..ومبروک للأحرار احتراق الورقة الأمریکیة الجدیدة بعد سنة فقط من اختبار فاعلیتها.