الباحث الحوزوی أکبر راشدی نیا:
رسا ـ الهم الأساسی للتلمسانی بصفته الشارح الأول لکتاب فصوص الحکم لابن عربی توضیح المواضع الغامضة من الکتاب لا شرحه بجمیع أقسامه .
انضم حجة الإسلام أکبر راشدی نیا؛ الباحث وأستاذ الحوزة؛ إلى الحوزة العلمیة سنة 1991م ،فأتم دروس المقدمات والسطح فی 1997م ، واشترک منذ التاریخ الأخیر حتى الوقت الحالی فی دروس خارج الفقه والأصول، کما حضر أبحاث الحکمة والفلسفة لکبار العلماء کآیة الله جوادی الآملی وأنصاری الشیرازی، واستفاد من بعض الأساتذة البارزین فی حوزة تبریز مثل آیات الله: الغروی العلیاری والسید أبو الحسن مولانا والمیرزا محسن کوجه باغی .
هذا المتخصص فی العرفان والحکمة المتعالیة الذی یدیر فی الوقت الحاضر قسم العلوم العقلیة فی مرکز الدراسات الکمبیوتریة للعلوم الإسلامیة، درّس بعض کتب الأصول والحکمة والعرفان کأصول الفقه للشیخ المظفر، وبدایة الحکمة للسید الطباطبائی، والمظاهر الإلهیة، وتمهید القواعد، وشرح فصوص الحکم، کما أنجز بعض الأعمال على مؤلفات الملا صدرا الشیرازی کمفاتیح الغیب، وشرح الهدایة الأثیریة، ورسائل أجوبة المسائل، والمظاهر الإلهیة، ورسالة اتحاد العاقل والمعقول، وزاد المسافر .
أحدث مؤلفات حجة الإسلام راشدی نیا تحقیق کتاب شرح فصوص الحکم لعفیف الدین التلمسانی؛ ولهذا السبب التقیناه ودار بیننا حوار نقدمه لقرّاء موقع وکالة رسا للأنباء :
رساـ العرفان من العلوم التی ولدت ونشأت فی مهد الإسلام، فهل العرفان الحالی ینبع من العین ذاتها للعرفان الأول ؟
العرفان علم سلوکی عرض بنحو متفرق فی زمان أهل البیت (علیهم السلام) وفی آیات القرآن الکریم وکلام رسول الله (صلى الله علیه وآله) والأئمة الطهارین (علیهم السلام)، ثم دوّن وقدّم مکتوباً فی القرن الرابع الهجری؛ وتأسیساً على ذلک یعدّ علم العرفان نتیجة لعلم السلوک، أی ما یجب على السالک أن یطویه لیصل إلى مبتغاه وهو الحق والحقیقة. وعندما یصل إلى المعرفة التامة ویعرف لله تعالى فسینظر من هذا العلو إلى کل الوجود، فهو یعرف الله ویراه، ولکن لیس من الأسفل الأعلى، بل یرسم نظاماً کاملاً منسجماً من الأعلى إلى الأسفل .
رساـ أحدث مؤلفاتکم فی طریقه إلى النشر، وهو تحقیق کتاب شرح فصوص الحکم لعفیف الدین التلمسانی، فتفضلوا ببیان موضوع فصوص الحکم .
موضوع فصوص الحکم لابن عربی هو العرفان، وقد وصل هذا العلم إلى مرحلة النضج بنحو مدون فی القرن السادس الهجری على یدی ابن عربی، وبلغ به الذروة أحد تلامذته باسم صدر الدین محمد القونوی فکتب له مبادئ وقضایا وخاتمة.
فصوص الحکم والفتوحات المکیة من أهم مؤلفات ابن عربی، والفصوص کتاب منسجم ومنظم حاز مکانة متمیزة لدى العرفاء، وأما الفتوحات المدون فی مباحث متکاثرة فلم یستطع إحراز ما للفصوص من مکانة .
شکـّل فصوص الحکم محور المباحث العرفانیة، فلا نکاد نجد مرحلة منذ زمن ابن عربی حتى الوقت الحاضر إلا واشتملت على شرح أو عدة شروح لهذا الکتاب، وأرى أننا نفتقر إلى إحصائیة دقیقة لتلک الشروح، وقد ذکر عثمان بن یحیى 130شرحاّ له .
کتب القونوی عناوین فصوص الحکم لأول مرة، وشرح الکتاب المشار إلیه کاملا عفیف الدین التلمسانی. وکذلک شرحه الإمام الخمینی (رحمه الله) والعلامة حسن زادة الآملی حتى الیوم فی القرن الحالی، فشرح الفصوص یعد سیرة متواصلة للعلماء فی إیران وترکیا وبعض الدول العربیة. بناء على ذلک لم تکن مؤلفات مدونة فی العرفان قبل ابن عربی، فقد بدأ هذا العلم من زمانه، ووصل إلى الکمال على ید صدر الدین القونوی، والتحق بعده عدة شرّاح بشرح هذه المدرسة، فکان أحدها شرح التلمسانی.
رساـ ماهو مجال العرفان النظری، وماهی آثاره ؟
بدءاً ینبغی الالتفات إلى أن کلمة العرفان النظری لیست مناسبة بعض الشیء لتعریف هذا العلم، فلو تفحصنا النصوص العرفانیة سنرى أن هذا المصطلح لم یکن له وجود قبل خمسین إلى ستین عاماً فی مختلف المراحل، وغالباً ماعرّف بعلم الحقیقة وعلم العرفان ومعرفة الله، ولم یعرف بعلم العرفان النظری فی أی مکان، وعلیه نستنتج أن هذا العلم لیس بنظری .
وعندما یقول العرفاء: النظر، فیعنون: الاستدلال؛ ومن هنا قالوا عند الحدیث عن علمهم: لدى أهل النظر هکذا، ویضعون أنفسهم فی مقابل أهل النظر .
علم الکلام والفلسفة من العلوم النظریة، و(علم العرفان) أوجده بعض الأشخاص فی مرحلة معینة واستعمل وشاع على الألسن، ولکننا لم نجد فی المؤلفات ما یؤید هذا المصطلح، بل أکدوا دائماً أن هذا العلم لیس نظریاً بل شهودیاً، ومنشؤه الشهود لا الرأی والنظر؛ لذا لیس لدینا عرفان نظری .
رساـ إذا لایوجد لدینا عرفان نظری فکیف نفصل عنه علم العرفان العملی؟
إطلاق العرفان على هذا لیس مناسباً أیضاً، والشاهد علیه أن الإمام الخمینی (رحمه الله) قال بصراحة فی تقریرات الفلسفة: هناک اختلاف بین استعمال التصوف والعرفان الشائع على ألستنا لایراعى بدقة، فما یهتم بنظام سلسلة المخلوقات یقال له العرفان، ومن یصل إلى هذه المرتبة هو العارف؛ وبناء علیه یقال لذلک العلم: علم السلوک والطریقة، لاعلم العرفان .
رساـ ماذا تقدم من تعریف لعلم العرفان ؟
العرفان نتیجة سلوک العارف ووصوله إلى الحق. وآخر مرحلة لسلوک العارف وفقاً لترتیب وأسس الخواجه عبد الله الانصاری هو التوحید، فعندما یبلغ مقام التوحید فیحنئذ یصل العارف إلى الحق ویتحقق لقاء الله، فهو یعرف البارئ تعالى، وعنده معرفة به کما هو حق، کما یعرف المخلوقات کما هی حق، ووفقاً لحدیث التقرب بالنوافل:« ما تقرب إلی عبد بشیء أحب إلی مما افترضت علیه، وإنه لیتقرب إلی بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به، وبصره الذی یبصر به، ولسانه الذی ینطق به، ویده التی یبطش بها، إن دعانی أجبته، وإن سألنی أعطیته»[1]سیکتسب کل وجده صبغة إلهیة .
فإذا دوّنا من الأعلى سلسلة نظام الوجود استناداً إلى تلک الرؤیة الإلهیة، تیسر اتصال الحق بالخلق، ومن ثم کملت معرفة الإنسان؛ لأن الإنسان الکامل کون جامع وخلیفة الله، وخلیفته یصطبغ بصبغة من الحق. فالله جامع لکل الکمال، وهو عین ذاته وطبعه. إنه علم یبحث عن الحق فیما یتعلق بالمخلوقات والمعرفة الکاملة .
رساـ من هم المخالفون للعرفان النظری، وماهی آراؤهم، وماهو أکثر شیء ینتقدونه فیه ؟
یقول المخالفون: إن أهل البیت (علیهم السلام) لم یوافقوا على هذه العلوم، ولکن یجب الالتفات إلى أنه على الرغم من عدم تدوینها فی زمانهم فما لایمکن إنکاره وجود بحوث کافیة فی الآیات القرآنیة وکلام المعصومین تصلح لأن نعتبرها أصولاً عرفانیة .
طبیعی أن المخالفین أشخاص لم یلجوا هذا العلم لیفقهوه بأصوله ویتمکنوا من ناصیة معرفته، فلا نرى مخالفاً فی أی مرحلة زمنیة من العلماء، سواء کانوا شیعة أم سنة، فقهاء أم مفسرین أم لهم اتجاه فکری آخر ممن ورد هذا العلم وأخذ عن أستاذة أصوله وقضایاه، فأکثر المخالفین أشخاص إما لم یدرسوا هذا العلم مطلقاً، وإما تعاملوا مع منتخبات منه، وهؤلاء موجودون فی کل زمان حتى فی وقتنا الحالی، فمثلا قال الإمام الخمینی (رحمه الله): شرب مصطفى الماء بقدح فقالوا: اغسلوه لأنه یقول بوحدة الوجود. ولکن مما فسح المجال للمخالفة ظهور کثیر من مدعی العرفان الکذابین .
رساـ ماهی آفة علم العرفان برأیکم ؟
المدعون الکذابون هم آفة علم العرفان .
جاء عارف إلى الإمام الخمینی (رحمه الله) واعترض بأن الناس ینکرون کلامی ویتسببون فی إیجاد المشاکل لی، فقال له الإمام: لماذا تصرّ على أن تقول هذا الکلام للجمیع. وضرب له مثلا: لو کانت بیدک درة وقال الجمیع بأنها حجارة لاخیر فیها، فهل یقلل شیئاً من حقیقتها فی أنها درة؟ هذه هی سیرة العرفاء .
إدعاء العرفان أحد ممیزات العرفان الحقیقی من الکاذب، فالشخص المدعی عرفانه کاذب، وإذا نطق صدقاً فنهایة الأمر أنه کلام حق سرقه من آخرین. العرفاء الحقیقیون لیس لدیهم دوافع للمرآة والادعاء والبحوث الجدلیة، أما العرفاء المزیفون فهم مدعون ومراؤن ویزجون بأنفسهم فی واجهات الإنکار والجدل فی کل الأزمنة. وبالمرور على جمیع الکتب من القرن الرابع إلى هذا القرن نرى العرفاء یستغیثون من المدعین الکذابین لهذا العلم .
الحاج الآملی وجد له موطأ قدم فی تبریز، وهناک ادعى کذباً أنه من الشیوخ الکبار، ومن مریدی الشیخ صدر الدین ابراهیم بن حمویه الجوینی. وبالرغم من أن عفیف الدین التلمسانی لم یکن معروفاً فی إیران، بید أن صدر الدین بن حمویه ذائع الصیت، وحینما یدعی فی تبریز أنه من تلامذته فالجمیع سیصدقه! وبهذا ارتکب فساداً کثیراً، حتى وصل خبره إلى الشیخ صفی الدین. إن أمثال هذه الحوادث تکشف عن أن الکذابین ممن ادعى العرفان فی القرنین السابع والثامن یفوقون الواقع .
أما رسالة الحاج الآملی فأصلها إجازة کتبها التلمسانی لشخص یدعى الطبری الآملی؛ لأن أحد تلامذة التلمسانی هو أبو القاسم الطبری الآملی من کبار العلماء وقد کتب له شرح فصوص الحکم، ومن المحتمل أن عفیف الدین أعطاه إجازة، فأخذها الحاج الآملی وروّج لکل شیء باسمه. إن هؤلاء الکذابین کانوا یفسدون ویجرون الناس نحو الضلال .
رساـ ماهی خصائص فصوص الحکم، ولماذا کتب لها کل هذه الشروح ؟
بعض الکتب مرموزة ولها بواطن مختلفة، وبعضها لایختلف ظاهرها عن باطنها، ولو کتب لها شرح سلس سیغنی عن کتابة شروح أخرى. والمرموز منها مثل الکتب السماویة، وهی فی ذروتها، فمهما کتبنا من تفاسیر للقرآن الکریم فبالنهایة سنقول: إننا لم نتمکن من جمیع علومه، وبقی لنا الکثیر لنبلغها. وبالرغم من أن فصوص الحکم لایمکن مقایستها بالقرآن أبداً، ولکن من جهة أنها مرموزة ـ وبخاصة ماذکره المؤلف من أنه تلقاه بالمکاشفة من ید رسول الله (صلى الله علیه وآله)ـ تنطوی على علوم یستطیع کل شخص أن ینهل منها، وبهذا کتبت لها شروح متعددة .
وفی هذا الوسط وجد بعض الغلو، ولعل واحدة من المشاکل الأساسیة لشراح الفصوص هو الغلو، کمن یقول: إن هذا الکتاب على قدر من العظمة بحیث لو کتبت له آلاف الشروح فیتسع للمزید. وربما الأمر لیس على هذا النحو، ولکن الفصوص یشتمل على مطالب إلى حد ما یمکن توضیحها بلغات مختلفة، ومن هنا غدا من التقالید منذ القرن الثامن والتاسع ومابعدهما أن یکتب أشخاص شروحاً للفصوص یبتغون شرحاً یجمع کل ما قیل قبله من المطالب، وبالطبع لم یوفق أحد إلى ذلک .
رساـ ماذا یعنی أن یکون کتاب الفصوص مرموزاً؟ هل یمکن القول بأن ما موجود فی القرآن من رمز موجود فی هذا الکتاب أیضاً ؟
کلا لیس بمعنى أن الفصوص لها الرمز القرآنی ذاته، المدعى ـ فی الواقع ـ هو أن لکل نبی سره، وقد ذکرت فی القرآن بنحو مغلق، فمثلا نحن نعلم بشأن الرؤیا أن قصة نقلت عن النبی یوسف (علیه السلام)، ولکن ما حقیقتها، وماهی العلاقة بینهما؟ غیر معروف، وقد خصص ابن عربی أحد فصول کتاب الفصوص بذلک النبی، وبحث هناک الرؤیا والخیال بالتفصیل وبنحو تفتقده الکتب الأخرى .
وفی موضوع الخلقة کذلک، حیث نواجه فیه النبی آدم (علیه السلام) ونرى البحوث المطروحة ، ولکن ماهی العلاقة بینها، وماهی حقیقة الخلقة، وماذا حدث لیخلق الله البشر فجأة؟ وهل قبلها لم یکن خلق وحدث فجأة؟ إنه بحث الحدوث. والأسئلة محاولة لکشف أسرار ما قد حدث، وتفتقر إلى شرح وتوضیح؛ لأنها ذکرت بنحو مقتضب .
رساـ ماهی المنزلة والمرتبة العلمیة والعملیة للتلمسانی بین شرّاح الفصوص، وماهی خصائص شرحه للکتاب المذکور ؟
شرح التلمسانی أول شرح یکتب لفصوص الحکم بالرغم من أن عثمان بن یحیى أخبر عن شرح ابن سودکین (ت 647هـ) للفص الرابع من الفصوص، وظن بعض اتباعاً لکلامه أن ابن سودکین من شرّاح فصوص الحکم، بید أن هذا الخبر لیس إلا مجرد خطأ منشؤه التشابه الاسمی لرسالة ابن سودکین مع الفص الإدریسی لفصوص الحکم .
والهم الأساسی قبل کل شیء للتلمسانی ـ بصفته الشارح الأول لکتاب فصوص الحکم لابن عربی ـ توضیح المطالب الغامضة للکتاب لاشرحه بجمیع أقسامه، ومن هنا اکتسب منهجاً یختلف تماماً عن الشروح التالیة له، ولعل ذلک یشکل إحدى خصائص هذا الکتاب، أی إن الموارد فی المرحلة المتصلة بزمان الشیخ واضحة ومقبولة لدى کبار العرفان، وموارد أخرى تحتاج إلى شرح وتوضیح .
ویبدو لنا الیوم ونحن نتطلع إلى شرح فصوص الحکم لعفیف الدین التلمسانی أنه یتوفر على معرفة أفضل للفصوص وللمرحلة التی ألفت فیها، وهو من المصادر المهمة؛ فلمعرفة مؤلفه القریبة بالشیخ وتلمذه له جعلته أفضل من أی شخص لعرض آراء ابن عربی بنحو یؤهله لتقدیم تصور سلیم ومجرّد من الغلو عن منزلته العلمیة، فهو على افتراق مع مؤید الدین بن محمود الجندی وآخرین ممن لم یروا ابن عربی أبداً ولکنهم تأثروا بعظمته وتلقوا أقواله على أنها وحی منزل، إنه عارف مستقل حر التفکیر ینقد بیسر أقوال الشیخ ابن عربی .
وهو أحیاناً یشتکی من إیجاز کلام الشیخ، وأحیاناً یستشکل على إطالته. ویرى أن بعض مطالب الفصوص یناسب أهل الحجب، وبعضها یناسب أهل العلم، وبعض منها مناسب لمقام المعرفة، ولکنه یعتقد أن التحقیق فی هذه المطالب سیبین أنها لاتخلو من إشکال، ثم یترک بعض عبارات الشیخ من دون توضیح ویقول: ولست أقول إنّ هذا الفصل یستغنی عن البیان، لکنی لا أبیّنه إلا مشافهةً، أدباً مع الشیخ رضی الله عنه .
ویصرح التلمسانی فی الفص السلیمانی بأن الفصوص صادرة عن العلم لا عن المعرفة، ویقول: والعلة فی هذا الأمر هی مراعاة عقول المحجوبین؛ لأن النبی (صلى الله علیه وآله) أمره: «هذا کتاب فصوص الحکم خذه واخرج به إلى الناس ینتفعون به»، والمعرفة لیست لعموم الناس، بل العلم للعموم. کما أشار إلى هذه المسألة فی الفص الاسحاقی وأکد أن البحوث العلمیة لیست فی حدود الکتب العرفانیة، ومن یستقصی تلک البحوث فعلیه بمراجعة کتب المتکلمین .
وخلافاً لتصور أکثر کتاب السیر والتراجم الذین یعتقدون أنه من تلامذة صدر الدین القونوی، فعلى الرغم من أنه کذلک، ولکنه تلمذ لابن عربی أیضاً، ولدینا دلیل قاطع یثبت ذلک. فالمصنفات التی کتبها ابن عربی کانت تقرأ علیه وبحضور بعض الأشخاص، فإذا أخطؤا فی القراءة صححها، ثم یختم فی نهایتها ویشهد بأننی ابن عربی سمعته وکان فی المجلس هؤلاء الأشخاص وفلان یقرأ. وصدر الدین القونوی قرأ قسماً من الفتوحات المکیة فی مجلس حضره التلمسانی، وشهد على ذلک ابن عربی نفسه.
وعفیف الدین التلمسانی أصغر بخمسة أعوام من صدر الدین القونوی، أعرب فی مکان عن رأیه فی أساتذیه بأن شیخی القدیم الأول کان عارفاً ثم فیلسوفاً، وأستاذی التالی له کان فیلسوفاً ثم أصبح عارفاً. کما صرح التلمسانی فی عدة مواضع من شرح الفصول بأننی سمعت ذلک مباشرة وشفاها، وسألت الشیخ أو سمعته .
مکث التلمسانی مدة بعد وفاة ابن عربی لدى صدر الدین القونوی وتلمذ له، ولکن یبدو أن الجوانب الفلسفیة لصدر الدین لم تجد مکانتها لدیه، فغادر إلى مصر وغدا من تلامذة ابن سبعین. وعندما سألوا الأخیر: کیف وجدت هذین: صدر الدین وعفیف الدین؟ قال: صدر الدین من المحققین (محقق فی مراتب العرفان)، ولکن الشاب المرافق له أکثر حذاقة. ولذا توجه بعدها التلمسانی نحو ابن سبعین .
أوصى صدر الدین عند اقتراب أجله بإرسال مؤلفاته إلى عفیف؛ لکی لاتقع إلا بید من یستحق الانتفاع منها.
وعلیه فعفیف الدین التلمسانی نائب عن ابن عربی بواسطة واحدة، عمّر ثمانین عاماً، ودرس فی بلدة تلمسان بالمغرب، وتلمذ لابن عربی وصدر الدین القونوی فی دمشق، وعاش ماتبقى من عمره فی مصر حتى توفی هناک .
نسبه کثیرون إلى الشیعة، وعده عبد الرحمن الجامی من فرقة النصیریة الشیعیة المغالیة، ولکن وصفه الشیخ عباس القمی فی ترجمة عفیف الدین التلمسانی بأنه حکیم متکلم لغوی وأدیب عارف محدث حاذق جداً فی المذهب الشیعی؛ وتسبب هذا بأن یکون له مخالفون کثیرون، فاتهمه أهل السنة بالخسة والضلالة کثیراً ، وکال إلیه ابن تیمیة أسوأ الشتائم حیث قال: ابن عربی کافر، وأکثر کفراً منه صدر الدین القونوی، وغایة الکفر والبهتان عفیف الدین التلمسانی .
کتابه شرح منازل السائرین معروف، وکذلک دیوانه مشهور کثیرأ فی الأوساط العربیة، نظم أشعاراً قویة فی العرفان وعلى الرغم من أنها لیست على درجة عالیة من الجانب الأدبی، إلا إنها معروفة کثیراً من حیث المفهوم والمعنى. من أفضل کتبه شرح فصوص الحکم الذی تعد من أولى خصائصه إدراکه لزمن ابن عربی، فمعاصرته له تعنی أنه سیسأله عن بعض الموضوعات وسیدونها؛ ولأنه عاصر ابن عربی فسیکون شرحه خالیاً من الغلو .
رساـ إحدى المشاکل الأساسیة لشارحی الفصوص هو الغلو فیه کما أشیر إلى ذلک، فما للتلمسانی من مکانة فی هذا المجال ؟
أبتلی أکثر شارحی فصوص الحکم لابن عربی بالغلو، ولم یستطیعوا شرح کلامه فی أجواء علمیة، بل نظروا من زاویة عقائدیة ورأوا أن علیهم توجیه وتصحیح کل أقواله بأی نحو کان. أما التلمسانی فقد خلت نظرته من ذلک الغلو، فقال فی موضع بأن هذه المطالب لیست عرفانیة وتخالف الأصول الکلامیة، وهو یشرح فی موضع عندما یکون کلام ابن عربی أکثر شبهاً بأقوال الفلاسفة .
ینظر التلمسانی إلى ابن عربی على أنه واحد من العظماء والعرفاء، ولکن هذا لم یشکل سبباً لیترک نقده جانباً، ففی کل مورد یستحق أبدى رأیه النقدی وذکر أن هذا استنتاجه. وینبغی القول بأن شرح التلمسانی أول نقد علمی وعرفانی لفصوص الحکم، ولکنه لیس نقداً لأحد المعادین للعرفان، بل لواحد من علمائه .
التلمسانی لیس من یشرح فصوص ابن عربی سطراً سطراً، بل مایستحق الشرح منه، ونأى عن توضیح مالاغموض فیه.
من خصائص عفیف الدین الأخرى مبادئه، وأحد أصول مدرسة ابن عربی الاعتقاد بالأعیان الثابتة، فلکل إنسان قبل أن یأتی إلى هذا العالم عین ثابتة فی العالم الربانی، وله أقوال یقول عنها التلمسانی أنها تفسح مجالا للتناقض، فهو لایؤمن بالأعیان الثابتة، ویقول لیس بین الوجود والعدم شیء ثابث .
رساـ أشرتم فی بعض کتاباتکم إلى أن عفیف الدین التلمسانی قائل بالإسمانیة، نرجو توضیحاً أکثر لذلک .
هناک رأی فی مقابل الواقعیة والمثالیة ینفی الکلی أساساً ویقول بأن للألفاظ المتفوه بها دلالة على المفاهیم الکلیة. إنها فی الواقع نظیر المشترکات اللفظیة التی تدل على أمور متعددة. ویعرف مؤیدو هذه النظریة بالإسمیین أو القائلین بأصالة التسمیة. وقد اعتقد بها ویلیام اکامی فی القرون الوسطى، ثم تقبلها بارکلی، وتعد الوضعیة وبعض المدارس الفلسفیة الأخرى قسماً منها فی العصر الحالی .
والتفت مؤخراً إلى أن عفیف الدین التلمسانی یعتقد أیضاً بأن الکلی لا وجود له لا فی الخارج ولا فی الذهن، بل یرى أن أساس الفلسفة قائم على هذه النظریة، وأن الکلمات المتشابهة للفلاسفة القدماء أوقعت المتأخرین فی شراک الخطأ، واستشهد بکلام ثامسطیوس (ت 388م) الشارح المعروف لمؤلفات أرسطو تأییداً لرأیه، حیث قال: إنّ الکلی مأخوذ من تشبیه خفی فی الأشخاص، وهو إما أن لا یکون سبباً ألبتة، أو یتأخّر تأخّراً کثیراً عن الأشخاص .
رساـ إلى أی حد تمکن الاستفاة العملیة من تحقیق کتاب شرح فصوص الحکم للتلمسانی، وأی دار ستتولى نشره ؟
یقدم هذا الکتاب لمن یبحث فی مجال العرفان ومؤلفات ابن عربی أراء معینة وجهت أصابع النقد للمؤلف المذکور. فبعض أساتذتنا الکبار یظن أنه هل من الممکن أن یوجه نقد إلى ابن عربی!؟ وبهذا الکتاب نرید أن نوجد رؤیة جدیدة فی المجتمع تبتنى على إمکانیة نقد ابن عربی بکل ممیزاته .
«تحقیق کتاب شرح فصوص الحکم لعفیف الدین التلمسانی» باشتراک المرکز العلمی لتحقیق النصوص الفلسفیة والعرفانیة، یطوی مراحل نشره التی تصدت لها دار «سخن» للنشر، فی 440صفحة و1100نسخة. ونرید أن نلقی إلى العلماء أن الشخص مهما کان عظیماً وعارفاً ومحققاً وواصلاً إلى الحق، ولکن یمکن نقد ماقدمه من علم وثمرة ونتیجة سلوک عملی، والقول بأن هنا إشکالاً لم یوضحه حق توضیحه .
رساـ مع شکرنا الجزیل لما منحتموه من وقتکم الثمین لوکالة رسا للأنباء، سؤالنا الأخیر: هل منزلة العرفان النظری مقبولة فی الحوزات العلمیة أم لا ؟
لامخالفة فی الحوزات العلمیة مع العرفان، واصطلاحاً العرفان النظری، فکل من قرأ علم الکلام والفلسفة ثم اطلع على العرفان أراد تقدیم نظام عن العالم المحیط به، وعندما یرى أنه لیس فیه إشکال من إشکالات الفلسفة أو الکلام، یجد أنه أدق منظومة قدمت لنظام الوجود .
بعض الفلاسفة الکبار أمثال أبی حامد بن ترکة الإصفهانی الذی ألف عدة کتب فلسفیة، تعرّّف مؤلفات العرفان فجأة وشرع بتألیف کتاب قواعد التوحید. أما الملا صدرا الشیرازی الذی أتقن علم الکلام والفلسفة المشائیة والإشراقیة، فیرى أن أدق الآراء هی العرفانیة، ولم ینقد أقوال العرفاء فی أی موضع، وهو بصفته فقیهاً کتب رسالة فی نقد الفقهاء، ولکنه ألف کتاباً فی الرد على المدعین للعرفان، وقال: إنهم أصنام العهد الجاهلی .
وینبغی الأخذ بنظر الاعتبار أنه من الممکن تقدیم عرفان خال من أی إشکال، وبالتأکید سینبری له من یخالفه، إلا عرفان أمیر المؤمنین الإمام علی والإمام الصادق (علیهما السلام) فلا مخالف له، وإذا ما ظهر نقد فی هذا المجال فإما الناقد ضال وإما عمله؛ لذلک لاوجود لمخالف مطلق للعرفان، ولو وجد من یخالفه مطلقاً فقد تخطى حدود المنطق .
1ـ الکافی للشیخ الکلینی 2/352 .
2ـ هو أبو المکارم أحمد بن محمد بن أحمد السمنانی (659ـ736هـ) ، من کبار علماء السنة وعرفائهم وشعرائهم. ولد بسمنان بین الری ودامغان. تفقه وبرع فی العلم فزادت مؤلفاته على الثلاثمئة، طلب الحدیث وسمعه من الرشید بن أبی القاسم وغیره، وتأثر فی السلوک والتصوف بعبد الرحمن الاسفرائینی. من تلامذته: خواجو الکرمانی ونوربخش الخراسانی. أوکلت إلیه عدة وظائف فی عهد اباقا وارغون الایلخانی المغولی، ثم اعتزلها سنة 705هـ بإذن من الملک محمد خدا بنده الجایتو . سکن تبریز وبغداد وتوفی فی الأخیرة . تراجع: خلاصة عبقات الأنوارللسید حامد النقوی 9/315ـ316، وموسوعة ویکیبیدیا .
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.