04 November 2009 - 23:55
رمز الخبر: 1037
پ
رسا/تحلیل سیاسی- لا یمکن النظر إلى حادثة اقتحام السفارة إلا باعتبارها تجلّ لذلك الصراع الحتمی بین منطق استکباری تعاملت به أمریکا مع الشعوب المستضعفة وبین منطق تحرری خلاصی وثوری انبثق کمعادلة جدیدة فی الصراع الدولی مع انتصار الثورة الإسلامیة .
فی الذکرى الثلاثین لاقتحام وکر الجواسیس..لا صوت یعلو فوق صوت "الموت لأمریکا".

                                                                                                                                                                                      / بقلم عبدالرحیم التهامی


مرت ثلاثون سنة على حرکة الطلبة الثوریین فی سیطرتهم على وکر التجسس الأمریکی، هی تقریبا عمر الثورة الإسلامیة، وطوال هذا التاریخ ما بدّلت الثورة وما غیرت، بل ظلت ثابتة على نهجها وخطها، وماسکة على مبادئها وشعاراتها.
لم یکن حدث اقتحام السفارة معزولا عن سیاق الثورة الإسلامیة، وفق منطق تتالی الأحداث والتطورات، فنظام الشاه کان وکیلا لأمریکا فی الداخل؛ والشاه المقبور نفسه کان یعترف بأنه ینفذ الأوامر داخل وطنه؛ ودرکیها على الصعید الإقلیمی، وکانت أمریکا متورطة بشکل فاضح فی کل السیاسات التی عانى منها الشعب الإیرانی المسلم، ولم یکن ممکنا أن تنشأ علاقة دبلوماسیة عادیة بعد الثورة بین إیران الإسلام والولایات المتحدة الأمریکیة، لأن منطق الثورة التطهیری والتطّهری کان یدفع نحو حتمیة القطیعة بل الصراع، بین ثورة إسلامیة منفتحة على أفق المحرومین والمستضعفین؛ تأبى الظلم ولا یمکن لها الرکون للقوى المتغطرسة؛ وبین قوة تسلطیة استکباریة تتعاطى فی سیاسیاتها تجاه الشعوب بمنطـق القوة والاستلحاق. لذلک لا یمکن النظر إلى حادثة اقتحام السفارة إلا باعتبارها تجلّ لهذا الصراع الحتمی بین منطق استکباری تعاملت به أمریکا مع الشعوب المستضعفة وبین منطق تحرری خلاصی وثوری انبثق کمعادلة جدیدة فی الصراع الدولی مع انتصار الثورة الإسلامیة وبزوغ عهد المستضعفین.
أما عن السبب الظاهری والمتمثل فی استقبال الشاه الفار والهائم على وجهه فی القارات کضیف فی أمریکا، فلم یکن إلا الذریعة التی وفرتها أمریکا للطلبة الثوریین لکی یُخرجوا مشهد القطیعة والمفاصلة مع أمریکا بما یلیق بغطرستها وظلمها للشعوب، فکان مشهد جواسیس الدبلوماسیة الأمریکیة وهم معصوبی الأعین وتحت قبضة الطلبة الثوریین؛ مشهدا یلیق بهذه النهایة، ویصل بالتناقض إلى نقطة الذروة.
کان بحق المشهد رائعا، وکانت الأیام444 من الاحتجاز بالنسبة للشعوب المستضعفة وکأنها موسم مسترسل للشماتة فی أمریکا ورئیسها المذلول کارتر، والذی ضاقت علیه الخیارات بعد محاولته البائسة فی صحراء طبس، ممّا أرغمه على القبول بشروط التفاوض.
وفی التقدیر السیاسی فإن مبادرة الطلبة الثوریین باقتحام السفارة؛ والتی بارکها الإمام الخمینی(ره)؛ أفادت الثورة بشکل کبیر، لأنها دفعت بالاصطدام إلى مداه وأسهمت فی ترسیم القطیعة بین الثورة الإسلامیة الصاعدة ورأس الاستکبار العالمی، بل وأعطت مستمسکات قویة لإدانة أمریکا وفضحها فی العالم، فالوسائل التجسسیة التی اکتشفت فی وکر التجسس، والوثائق التی وقعت فی ید الطلبة، بما فیها تلک التی تم تمریرها فی آلة الفرم، حیث تم تجمیعها..کل ذلک أظهر للعالم الدور التخریبی للبعثات الأمریکیة، خاصة فی دول ما کان یعرف بالعالم الثالث، حیث الوظیفة التآمریة لهذه البعثات والقائمة على معاکسة وإجهاض کل محاولة فی التحرر من الأنظمة الدیکتاتوریة العمیلة، والتخطیط للانقلاب على إرادة الشعوب کما حصل فی إیران نفسها من خلال الإطاحة بحکومة مصدّق المنتخبة، وقد کان نصیب أمریکا من إزاحة هذا الأخیر الحصول على 40 فی المائة من أسهم شرکة النفط الإیرانیة القومیة، أو ما حصل فی التشیلی من خلال تدبیر انقلاب عسکری دموی على حکومة منتخبة دیمقراطیاً برئاسة سلفادور اللندی فی العام 1973م تمخضت عنه حکومة دیکتاتوریة بزعامة بینوشی مدعومة أمریکیا، وأدى ذلک إلى اختفاء 130 ألف مواطن وتعلیق المسار الدیمقراطی حتى عام 1990، إلى غیر ذلک من نماذج التآمر على الشعوب وإجهاض حرکتها التحرریة.
بعد الثورة، جاءت ضربة السفارة، وإذلال أمریکا لیبرز معها الوجه التحرری للإسلام، وهو ما أسهم فی تغییر الصورة النمطیة عن الدین عموما وموقعه فی الصراع لدى الکثیر من الحرکات والتنظیمات الیساریة فی العالم العربی والإسلامی، وهیأ عوامل کل هذه الصحوة الإسلامیة التی غیرت الخارطة التنظیمیة والفکریة فی العالم الإسلامی.
انحسر الیسار وتقدمت الحرکة الإسلامیة فی أکثر من ساحة، ولم یکن هذا التموقع المتقدم عائد بالضرورة إلى عناصر قوة فی مشروع هذه الحرکات- بمعزل عن الخوض فی ذلک النقاش الإشکالی المتمحور حول امتلاک هذه الحرکات الإسلامیة أصلا لمشروع مجتمعی أم أنها فقط تتحرک بمجرد شعارات إسلامیة - لکن الأکید أن قوة الدفع التی أحدثها انتصار الثورة، وما أعقبها من إذلال الطلبة الثوریین لأمریکا فی واقعة السفارة؛ وهو الإذلال الذی لن ینمحی من الذاکرة الأمریکیة التاریخیة؛ کل ذلک کان حاسما فی إطلاق دینامیة الإسلام السیاسی عبر العالم، حتى ونحن نقر بأن الاعتبارات المذهبیة والحرب المفروضة على الجمهوریة الإسلامیة الناشئة لم یسمحا لکثیر من هذه الحرکات بأن ترقى لأفق الثورة الإسلامیة، ولا بأن تتفاعل بالشکل المطلوب مع الجهاز المفاهیمی الذی بلورته الثورة فی سیاق معرکتها ضد الظلم العالمی.
لم تشهد أمریکا فی تاریخها حالة من المواجهة الثقافیة بجهاز مفاهیمی ینهل من الرؤیة الدینیة ویعتمد اللغة القرآنیة، بحیث تشخّصت فی الواقع الخارجی بصفتها الشیطان الأکبر، ورأس الاستکبار العالمی وعدوة المستضعفین فی الأرض. نعم وُوجهت أمریکا کنظام اقتصادی رأسمالی من خلال الأدبیات المارکسیة، وفی برامج الأحزاب الشیوعیة، واعتبرتها حرکات التحرر فی العالم ظاهرة امبریالیة، ونابذتها الشعوب بالعدواة والکراهیة، لکن مأزقها تعمّق مع الرؤیة الإسلامیة الثوریة التی أضفت علیها تطابقا مع الشیطان الأکبر فی کیده وتأمره وعداوته للناس.
ولعلّ هذا یضعنا أمام حقیقة وهی أن أمریکا لا تصلح أن تکون صدیقة للشعوب لأنها معضلتها بنیویة تتصل برکائزها الاقتصادیة والسیاسیة والعسکریة والأمنیة، وتمتد إلى تاریخ تشکلها وإلى أخلاقیاتها بکل المدلول السلبی للأخلاقیة الأمریکیة المتمحضة فی قیم القوة والغارقة فی النزعة العنصریة، وهی الحقیقة التی تتیح لنا أن نرسم سقفا للحظة الأوبامیة ورافعتها المتمثلة فی شعار "التغییر". فاوباما لن یستطیع أن یغیّر إلاّ فی صورة الوحش ولغته بشیء من التهذیب، أما أمریکا فلن تتغیر، أو بالأحرى یُفرض علیها التغیّر؛ إلاّ بیقظة الشعوب وبنضالها، وبافتکاک حقوقها السیاسیة والاقتصادیة، وبفرض سیادتها على قرارها وعلى مجالها الحیوی، وبتدبیر أمنها ضمن تکتلات إقلیمیة، بما یقطع دابر الوجود الأمریکی فی أکثر من ساحة، وبما یفرض علیها القبول بوضع جدید تکون فیه دولة کبرى لکن من دون نزعات استکباریة.
ولعل فشل أمریکا المروّع فی الحقبة البوشیة، وانهیار صورتها الأخلاقیة فی العالم، وانهیار حلمها فی "شرق أوسط جدید"، یجعل المسافة قریبة إلى مسرح اندحارها کلیا عن منطقتنا، وما هو إلا صبر ساعة حتى تقر أعین الأحرار بذلک، بمثل ما قرّت به الأعین ذات یوم من شهر "آبان" یوم سقطت السفارة بید الثوّار.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.