معظم الحکومات العربیة لا تستریح للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، لکنها فى الوقت نفسه لا تستریح لفکرة خلعها عن طریق صحوة شعبیة یمکن لأثرها أن یقفز فوق الحدود، وهو ما یمکن أن یساهم فى تفسیر رد فعل السید جمال مبارک عندما فوجئ بسؤال حول رأیه فى تداعیات الانتخابات الإیرانیة، فکانت إجابته العفویة ابتسامة ونفساً عمیقاً وکلمتین: «سؤال سخن». وبالمقابل نجد معظم الشعوب العربیة مفتونة بنموذج أتى قبل ثلاثین عاماً على ظهر أشرطة الکاسیت وبین یدیه مصحف کى یقُضّ حتى هذه اللحظة مضاجع الإسرائیلیین والأمریکان والحکومات العربیة، لکنها فى الوقت نفسه لا تتمنى أن تعیش تحت رحمة نظام عقائدى مماثل، یأکل ما بقى لدینا من حریات مدنیة ویجرنا إلى الوراء باسم المقاومة والصمود. هکذا وحّدتنا إیران مع حکامنا.. ولکن فقط فى البلبلة وقلة الحیلة.
یبدو أن الإیرانیین طوروا خلال العقود الثلاثة الأخیرة عادة تلفت النظر فى علاقتهم بالأمریکان: کلما انتخب هؤلاء رئیساً معتدلاً ظهر فى طهران رئیس یمیل هو أیضاً إلى الاعتدال، وکلما انتخبوا رئیساً متشدداً ظهر فى طهران رئیس أکثر تشدداً. ویبدو أیضاً إذا صحت مزاعم المرشحین الخاسرین فى الانتخابات أن آیات الله المحافظین فى الجمهوریة الإسلامیة قرروا فجأةً کسر هذه العادة.
الحسابات الأولیة تشیر إلى أن نهج الرئیس الأمریکى المعتدل، باراک أوباما، أفزع المرشد الأعلى فى الجمهوریة الإسلامیة بصورة تشبه تلک التى وضع بها خطابه فى القاهرة رئیس الوزراء الإسرائیلى فى موقف المدافع الملتصق ظهره بالحائط، سوى أن الحالة الإیرانیة أکثر تعقیداً. فبغض النظر عن التصریحات الرسمیة، یدرک الإیرانیون أن أوباما، صاحب الشعبیة المرعبة، یسیر فى طریق من شأنها فى النهایة إضعاف الموقف الإیرانى داخلیاً وإقلیمیاً وعالمیاً. ربما کان الرئیس الأمریکى الجدید المختلف على علم بما یمکن لسیاسة جدیدة مختلفة أن تُحدثه داخل إیران وربما لم یکن، وحتى تتأکد محاولة جادة للتحلیل الموضوعى من ذلک، لابد من منحه حق شبهة العلم إلى أن یثبت عکس ذلک. لهذا المدخل لدى المرشد الأعلى فى الجمهوریة الإسلامیة وصف أکثر بساطة: «مؤامرة».
فأولاً، یقع الإیرانیون فى حیرة بین رغبتهم فى إبعاد الفیل الأمریکى عن حدودهم مع العراق، وبین خسارتهم ورقة ضغط شدیدة التأثیر عندما یحدث هذا. یدرک الأمریکیون أن محاشمهم ستبقى فى أیدى رعاة الجمهوریة الإسلامیة طالما بقى جنودهم فى العراق، وهو سبب من أسباب أخرى یدعو الرئیس الأمریکى إلى ضرورة الانسحاب فى أقرب فرصة ممکنة، دون حتى أن یترک قاعدة عسکریة واحدة وراءه مثلما أعلن فى القاهرة.
وهو أیضاً سبب من بین أسباب أخرى یدعو مصادر مقربة من مطابخ الاستخبارات إلى استنتاج أن واشنطن لا تستطیع أن تسمح لتل أبیب إذا سمحت لها بتوجیه ضربة جراحیة إلى البرنامج النووى الإیرانى قبل اکتمال عملیة الانسحاب. وهذا بدوره هو أقوى الأسباب الحقیقیة وراء عصبیة رئیس الوزراء الإسرائیلى تجاه الیوم وقلق المرشد الأعلى فى الجمهوریة الإسلامیة من الغد.
وثانیاً، مثلما تأثر تنظیم القاعدة سلباً برحیل بوش وتشینى ورامسفیلد، استشعر المحافظون فى إیران بوادر خطر جدید، یتمثل فى هدوء الجبهة الخارجیة بعد تبنى أوباما نهجاً جدیداً یعمد على الأقل إلى تأجیل المواجهة فى إطار إعادة ترتیب الأولویات. ولأن بعض القواعد فى السیاسة لا تتغیر باختلاف الأزمنة أو الأمکنة، فقد أدرکت طهران أن من شأن هدوء الجبهة الخارجیة تحفیز جدل داخلى ربما تکون فى غنى عنه.
من أجل هذا لم یکن رد فعلها على خطاب أوباما التصالحى بارداً وحسب بل هجوماً حاداً على نفق أمریکى جدید لم تکن القیادة الإیرانیة مستعدة لوضع قدمیها على أعتابه بما یتطلبه هذا من تطویر آلة مختلفة تناسب دهلیزاً مختلفاً لا تعرف تماماً إلى أین سیؤدى فى النهایة.
ثالثاً، تجد السیاسة الخارجیة الإیرانیة الیوم نفسها ضحیة نجاحها خلال السنوات القلیلة الماضیة فى تعاملها بمهارة مع معطیات الموقفین الإقلیمى والعالمى. وقد بلغ هذا النجاح ذروته، لیس فقط فى قدرة طهران على امتصاص هوجة الإدارة الأمریکیة السابقة، بل أیضاً فى تحویل هذه الهوجة إلى طاقة تخدم أهدافها.
فمن ناحیة استخدمت طهران ذلک فى تهمیش الأصوات المعتدلة والإصلاحیة داخلیاً أمام خطر خارجى أهوج. ومن ناحیة ثانیة رفعت سقف تطلعات حلفائها التقلیدیین فى المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله، وأرسلت سیلاً من الرسائل القویة لیس فقط إلى إسرائیل، بل أیضاً إلى مرکز القوة العربیة فى القاهرة والریاض المتحالفتین مع واشنطن.
ومن ناحیة ثالثة أدارت الملف النووى فى ظل هذه الظروف بمزیج من الترهیب والترغیب بأسلوب یصلح أن یکون محل دراسة لطلاب مبادئ علم السیاسة، لکنه فى الوقت نفسه أسلوب عجز عن تطویر نفسه أمام تراجع الخطر الخارجى الأهوج.
رابعاً، رغم أنهم تدربوا لسنوات طویلة على احتواء الخطر الداخلى المتمثل فى دعوات الإصلاح والانفتاح والتحرر المدنى بأسالیب مختلفة ضمنت بقاء غطاء محکم فوق فوهة البئر حتى صارت تلک ممارسة روتینیة، فإن من الواضح أن المحافظین فى طهران فوجئوا قبل أشهر قلیلة بحرکة غیر عادیة للبخار داخل البئر بدأت تشکل زخماً متصاعداً یهدد بنسف الغطاء والخروج إلى السطح.
کانت حقیقة ذهاب جورج بوش الصغیر فى حد ذاتها کافیة لتشجیع البخار على البدء مرة أخرى فى الدوران، لکنّ ما ضاعف من إیقاع هذا الدوران هو حقیقة اتجاه الشعب الأمریکى على نطاق واسع إلى انتخاب شخص فى خصال باراک أوباما، وأنه عندما بدأ فى التنصل من «افتکاسات» سلفه وطرح سیاسات معتدلة، عجزت طهران عن الانتقال معه من لعبة الملاکمة البسیطة إلى لعبة الشطرنج المعقدة، رغم أن الفرس هم الذین اخترعوها.
کان هذا خیاراً استراتیجیاً لا یبدو معه الآن- ونحن ننظر إلى الوراء- أن طهران کانت تدرک مدى تأثیره على بئر البخار.
على هذه الخلفیة لم یستطع آیة الله خامنئى، مع الدائرة المباشرة للمحافظین، سوى أن یرى فى استمرار المواجهة مع الأمریکیین وحلفائهم سبیلاً یبدو مضموناً للبقاء، ومن ثم کان لابد من إعادة «انتخاب» محمود أحمدى-نجاد. لکن مجرد الاستمرار لم یکن لیکفى على ضوء المعطیات الجدیدة، فکان لابد أیضاً من المبالغة فى الفعل، وفى رد الفعل على أمل استثارة الطرف الآخر نحو العودة إلى مربع اللعبة المعتادة.
لم یکن خطاب أوباما فى القاهرة مرفوضاً من الناحیة الموضوعیة وحسب، بل اتجهت القیادة الإیرانیة أیضاً إلى شخصنة الأمور وإلى استخدام کلمات قویة علها تستثیر الخارج وتخیف الداخل، ثم انتقلت الکلمات إلى أفعال فتخلى المرشد الأعلى عن توازنه عندما انحاز إلى أحد طرفى النزاع الداخلى واتهم الطرف الخارجى بالتآمر واصطاد البریطانیین فى إطار ذلک، من أجل مشهد دبلوماسى غیر دبلوماسى.
فى الوقت نفسه، یخوض جانب لا یستهان به من الشعب الإیرانى معرکة مع حکومته لفرض إرادته بما یرى فیه صالحه وصالح وطنه، ویدفع فى سبیل ذلک أعز ما یملک. یحدث هذا للمرة الثانیة فى غضون ثلاثین عاماً لا أکثر.
العرب؟ یتفرجون