
لا شك فی أن هناك مصلحة إسرائیلیة أمریكیة فی تجنب لحظة الانسداد التام على المسار الفلسطینی وإبقاء العملیة التفاوضیة عملیة مستمرة ولا نهائیة، لیس فقط بسبب الخشیة من كون المحور المقاوم جاهز لاستثمار لحظة الانسداد هذه استثمارا استراتجیا قد یغیّر الكثیر من موازین القوى فی المنطقة، بل لأن مبدأ التسویة یمثل قناعة أمریكیة قبل أن یكون مصلحة إسرائیلیة، هذا بمعزل عن صیغة التسویة أو عن المقابل الذی یُرضی الطرف الفلسطینی؛ ولا نقول العربی إجمالا لأن العرب نفضوا أیدیهم من القضیة الفلسطینیة، ولم یعودوا بحاجة لإرساء مشروعیة أنظمتهم على قاعدة التحریر كما كان التقلید فی أوج المد القومی، فقد جرى ماء كثیر تحت الجسر، جرف معه الشعارات والمبادئ وتحوّلت بعض الأنظمة إلى استبدادیات عائلیة مشغولة بتمریر مشاریع التوریث، وترتیب اقتضاءاتها السیاسیة والثقافیة وحتى الأمنیة، وتوفیر أثمانها الباهظة التی تدفع من رصید السیادة ومن حق الشعوب فی تقریر مصائرها للراعی الأمریكی فی صیغة حلف عربی اعتدالی/إسرائیلی، فی مقابل إیران ومجمل ظاهرة المقاومة وتشكیلاتها.
لكن مع ذلك نبقى معنیین بمقاربة العودة غیر المحمودة للمفاوضات غیر المباشرة التی أذعنت لها سلطة عبّاس؛ مقاربة سیاسیة تضیء على مخطط الإجهاز على القضیة الفلسطینیة، باستحضار شیء من التاریخ للامساك بلحظة الانزلاق الأولى فی مسیرة منظمة التحریر الفلسطینیة التی انطلقت ذات خریف 65من القرن الماضی رافعة شعار التحریر الكامل للأرض؛ والأرض هنا لیست إلا اراضی48، والتی صاغت میثاقا فلسطینیا حدّد هویة وأهداف كفاح الشعب الفلسطینی، فجاءت مواد المیثاق واضحة وصریحة ومصممة كما فی المادة 21 على سبیل المثال لا الحصر: (الشعب الفلسطینی معبراً عن ذاته بالثورة الفلسطینیة المسلحة یرفض كل الحلول البدیلة عن تحریر فلسطین، تحریراً كاملاً، ویرفض كل المشاریع الرامیة إلى تصفیة القضیة الفلسطینیة أو تدویلها). ثم لنرى كیف أنه قبل أیام اتخذت اللجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر الفلسطینیة قرارا صادقت بموجبه على نهج استنفد كل إمكاناته وتحوّل إلى مسلخ للقضیة الفلسطینیة عنوانه: استئناف التفاوض مع العدو، والذی لا تلطّفه اللغة بإضافة صفة "غیر المباشرة".
بالعودة إلى التاریخ فإنه وفی الدورة الثانیة عشرة للمجلس الوطنی الفلسطینی (التی انعقدت فی القاهرة) تم تبنّی ما سمّی بـ"برنامج النقاط العشر" عام 1974، وهو البرنامج الذی اعتُبِر البرنامج المرحلی، وقد حدّد هدفه بإقامة "سلطة فلسطینیة" على الأراضی التی ینسحب منها الاحتلال. وبدءا من هذا التاریخ تحوّل هاجس إقامة السلطة إلى عنوان استراتجی للمنظمّة ودیدن قیادتها، بدل التركیز على مشروع التحریر. وعلى اثر خروج قوات منظمة التحریر من بیروت بعد اجتیاح عام 82 وجد منظّرو المنظمة السیاق مناسبا لبلورة فكرة "السلطة" وتحویله إلى الأفق الممكن لنضال الشعب الذی یناضلون باسمه-الشعب الفلسطینی-، وهكذا ما طُرح على أساس أنّه هدف تكتیكی تحوّل إلى مسعى استراتیجی، ومع انعقاد دورة المجلس الوطنی الفلسطینی التاسعة عشرة فی الجزائر عام 1988 أعلنت قیادة المنظمة عن قیام الدولة الفلسطینیة المستقلة فی الضفة والقطاع، وانتخب عرفات رئیساً لها، وهو الإعلان الذی تضمن اعترافا غیر صریح بالقرار 242، مما یعنی الاعتراف بالعدو ویمهّد الطریق للدخول فی لعبة التسویة والمفاوضات السریّة، وهكذا وبعد مؤتمر مدرید الذی افتتح مشروع ما یسمى بالتسویة الشاملة من خلال التفاوض على المسارات الفلسطینیة والأردنیة والسوریة واللبنانیة؛ وبرغم أنّ المنظمة عبّرت عن استعدادها للاعتراف بـ(إسرائیل) واعتبرت میثاقها لاغیا فقد ضُمّ وفد من داخل فلسطین إلى الوفد الأردنی لیفاوض تحت مظلة الأردن؛ كانت مفاجأة اتفاق أسلو عام 93 عبر مفاوضات مباشرة وسریّة بین وفد من فتح (محمود عباس – أحمد قریع) ووفد من حزب العمل على رأسه بیریز، وهو الاتفاق الذی جاء فی حینه اقل من المطالب العربیة، أی القبول بتسویة على اقل من اراضی67 وعلى أساس ما یسمّى بحل الدولتین. وكما هو معلوم لم تطبق (إسرائیل) أیا من التزاماتها فی كل الاتفاقات، كما لم تفلح أمریكا فی إخراج التفاوض من مأزقه سواء من خلال خطة خارطة الطریق بهدف الوصول إلى دولة فلسطینیة فی2005، أو عبر مؤتمر أنابولیس الذی دعا إلیه الرئیس الأمریكی الأسبق عام2007 لإطلاق مباحثات من أجل الوصول إلى حل الدولتین، وبناء دولة فلسطینیة ذات حدود متصلة وقابلة للحیاة.. واستمر العبث فی مفاوضات لم تحرز ادنی خطوة فی ما راهن علیه أهل التسویة، حتى كان اعتراف كبیر المفاوضین الفلسطینیین صائب عریقات بفشل 18 عاما من المفاوضات، مؤكدا أن لحظة الحقیقة قد أزفت لمصارحة الشعب الفلسطینی بأننا لم نستطع أن نحقق حل الدولتین من خلال المفاوضات التی استمرت 18 عاما.
لكن لحظة الحقیقة هذه تبخرّت، ولم یكن مقدّرا لها أن تملی خیارات أخرى على الفریق الفلسطینی، فمن جهة، الطرف الإسرائیلی بحاجة إلى المفاوضات لإیهام العالم انه یفاوض، كما أن أمریكا بحاجة إلى اجتراح أیة تسویة مهما كانت بئیسة - والرئیس أوباما اضطر من واقع هذه الحاجة إلى الخضوع للتعنت الإسرائیلی فی موضوع الاستیطان- لأن أمریكا ترید إنفاذ رؤیتها الخاصة بالشرق الأوسط، وهی بحاجة لتحرز على شروط مواجهة أفضل مع إیران ومحور الممانعة، ومن جهة ثانیة فرئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس لا یترك مناسبة إلا ویعلن رفضه لفكرة المقاومة المسلحة ضد (إسرائیل)، مشیرا إلى أن السلطة تعتبر المبادرة العربیة هی أهم سلاح فی ید العرب!
وعوض ان یتنحى عباس وسلطته، ویترك للشعب الفلسطینی أن یحدّد اختیاراته، ها هو ومنظمته وبضوء أخضر من لجنة متابعة مبادرة السلام الوزاریة العربیة، یخوض غمار مفاوضات غیر مباشرة، مرفوقة بإذلال إسرائیلی للطرف العربی والفلسطینی من خلال مواصلة الاستیطان والتأكید على أن القدس الموحدة ستبقى عاصمة أبدیة لـ(إسرائیل)، بل إن كل الأطراف المنخرطة فی هذه المهزلة تدرك أنّ ما یسمّى بالمفاوضات غیر المباشرة ما هی إلا ضرورة تقتضیها المنطقة فی هذه المرحلة ربحا للوقت، إلى حین أن تنضج الخیارات على واجهة الملف النووی الإیرانی، وواجهة سلاح "حزب الله"، وواجهة المقاومة العصیّة فی غزة .
ان الخوض فی تسویة على حساب حقوق الشعب الفلسطینی وثوابته ومقدساته أمر مخزی، والأخزى منه أن یتم العبث بقضیته وإدراجها فی استراتیجیة تفاوضیة فارغة خدمة للحلف الأمریكی الصهیونی وحساباته فی المنطقة.
ماذا عن الشعب الفلسطینی، وعن فصائله المقاومة؟؟ هذا ما سنعود الیه فی قراءة لاحقة.