18 May 2010 - 17:51
رمز الخبر: 2235
پ
رسا/آفاق- یصعب علینا فی هذا السیاق الدینی المفرط فی تمذهبه، أن نخوض فی بعض المفاصل الحسّاسة من التاریخ، لکنّ الحقیقة دائما ثوریة، والحقیقة حقٌّ علینا أن نتشاطرها مع إخوة الدین، لا بعنوان أنّها حقیقة مطلقة نفرضها علیهم، بل بما یعتریها من نسبیة حین تدخل مجال السجال المتقوّم بالإنصات والتأدب والاحترام، وإتباع الدلیل.. فی أفق وعی تاریخی إسلامی عار عن کل أدلجة. بقلم عبدالرحیم التهامـــی.
فاطمة الزهراء..قراءة فی خطبة الاحتجاج ومفاعلیها.



لأنها الزهراء.. أم أبیها وبضعته التی منه، جاءت شهادتها على عصرها من سنخ المکانة والمنزلة عند الله ورسوله..فقیمة الشهادة کل شهادة على العصر وبحساب التاریخ تتقوّم بمکانة من ینهض بها، وبأهمیة وخطورة اللحظة التاریخیة التی تندرج فیها هذه الشهادة بمعزل عن الآثار والمفاعیل المباشرة أو الآنیة..لأن الشهادة على العصر تمتلک قیمتها الذاتیة من کونها حدث فی التاریخ.
یکفیها علیها السلام علوّ مقام وسموّ شأن عند الله أن أباها رسول الله(ص) وهو من لا ینطق عن الهوى أو عن انحیاز لقرابة، خاطبها بالقول: "یا فاطمة، إنّ الله لیغضب لغضبک ویرضى لرضاک".. هی أم الأئمة المیامین الذین ائتمنهم الله على دینه واختارهم خلفاء یهدون بأمره، هی المشمولة بأیة التطهیر (إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت ویطهرکم تطهیراً)، هی سیدة نساء العالمین، هی من شهد لها بعلها أمیر المؤمنین علی (ع):".. "أنتِ أعلم بالله، وأبرُّ وأتقى وأکرم وأشدّ خوفاً من الله..".
أما العصر فهو زمن لم یبعد عن لحظة تنزّل الوحی،(هذا والعهد قریب)، زمنٌ لازال طیف النبی الأکرم یشغل مدیاته، زمنٌ لازالت فیه صورة صاحب الرسالة وصوته ملئ السمع والأبصار..ولازالت الأرض فی ارتجاجها الواهن من أثر الوحی الذی انقطع عنها بعد حین..
کانت فدک التی أُخذت منها وهی حقّ لها، مجرد عنوان لإعلان الموقف من الانحراف، واثبات بطلان الخلافة، وإظهار الخلیفة فی حالة تلبس بمخالفة النص القرآنی "یا ابن أبی قحافة أفی کتاب الله ترث أباک ولا ارث أبی؟ᴉ" لذلک کانت خطبة الزهراء فی القوم تقیم ربطا بین غصب فدک منها وغصب الخلافة من بعلها، بل هی تتهم وفی وضوح وجرأة، الحزب القرشی ودون أن تسمّیه بالتربص الکیدی للاستئثار بالأمر(..تتربصون بنا الدوائر وتتوکفون الأخبار)، ثم هی وعلى قاعدة هذا الاتهام تتوجّه بخطاب الملامة للأنصار؛ تستقبح فیهم السِنة عن ظلامتها بعد سابقتهم المشهودة فی النصرة لأبیها ولدین أبیها، وهل بعد قولها هذا استفزاز لحمیتهم الدینیة:" أأهضم تراث أبی؟ وأنتم بمرأى منّی ومسمع..وتتصاعد حدّة الاستثارة للحمیّة درجة التوبیخ" توافیکم الدعوة فلا تجیبون؟ وتأتیکم الصرخة فلا تعینون؟ وأنتم موصوفون بالکفاح، معروفون بالخیر والصلاح.." إلى أن تضعهم أمام مرآة أنفسهم وتصدم وجدانهم بجملة حقائق حین قالت فیهم من جملة قول یهزّ الوجدان "..ونکصتم بعد الإقدام".
لکن الملفت فی خطبة الزهراء؛ أنها سلام الله علیها وبعد کل الخطاب الموجّه للأنصار والذی یشتمل على تنوّع فی مقاماته بین تذکیر بالسابقة فی الدین والجهاد، واستثارة للوجدان والحمیّة الدینیة بأقوى ما یمکن أن تکون علیه الاسنثارة فی لغة العاطفة، ومن عتاب وتوبیخ قاسیین- قساوة الحقیقة- یستفز فیهم عناصر الخیریّة ویحرضهم على الفعل والحرکة، بعد هذا تنهی کلامها لهم بهذا الاستدراک المحیّر للألباب " ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّی بالخذلة التی خامرتکم..ولکنّها فیضة النّفس، ونفثة الغیظ..وبثّة الصدر، وتقدمة الحجة.."، وحتى یُعلم من أنها تخاطب فی هذا المورد من خطبتها الأنصار حصرا، فالخذلة لا تبدر إلا ممّن توسمت فیهم المسارعة إلى نصرتها فی ظاهر الحال، لاعتبارات عدّدتها وهی تخاطبهم.
هی إقامة الحجة على القوم لا غیر، وحین عبّرت بـ"ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّی بالخذلة التی خامرتکم.."، فلأن مقامها الشریف الآبی عن الإحاطة یمتنع معه أن تقول مثلا:(ألا وقد قلت ما قلت وأنا آیسة من نصرتکم)، فالمقام الألیق بالصدّیقة الطاهرة هو مقام المعرفة "..على معرفة منّی "، وهنا نفهم حین عبّر الرسول عن حقیقة فاطمة بقوله "فاطمة بضعة منّی.."أنّه عنى فی إخباره هذا؛ الامتداد الروحی والمعنوی لنفس الرسول، والتلبّس بکل کمالاته (ص)، وهذا یستوی مع کونها سلام الله علیها عنصرٌ فی ذلک القطب النورانی المباهِل، فی واقعة المباهلة التی أوعز إلیها الوحی، کما هی مستوعبَة تحت ذلک الکساء الربّانی المستوعِب للطهر فیما أرادته المشیئة الإلهیة من مقام التطهیر للصفوة من خلقه، وکانت فیه فاطمة واسطة العقد بین النبوّة والإمامة.
زد على ذلک أنّه من الراجح أن تکون رهانات البیت العلوی من تلک الخطوة-خطبة الزهراء- فی ذلک المفصل التاریخی الدقیق، الذی لم یکن یسمح بالمواجهة المسلحة؛ الإعلان عن بطلان الخلافة وفضح انحرافها بل والتحریض علیها بلا مواربة، خاطبت الانصار "وأنتم ذوو العدد والعُدّة، والأداء والقوة، وعندکم السلاح والجُنّة"، وفی هذا الإبطال والفضح والتحریض ما یربک حزب الخلافة، ویقوّض شرعیته الدینیّة، ویکسر حاجز الخوف والتهیّب، ویجعل من البیت العلوی عمود المعارضة المتربصة بحالات الیقظة فی الأمّة، والمنفتحة على هوامش من الحرکة قد تنطلق بعد حین من السِنة، کلّما صدم الانحراف المتسع اضطرادا وعیها الدینی بابتداعاته التی تقوّض معالم الدین، وترتکس به إلى مجرد مطیّة للأهواء والمصالح.
لکن إذا کانت فاطمة(ع) قد تحرکت بکل هذا الحزم فی مواجهة الانحراف، ورفعت سقف الاحتجاج والإدانة عالیا فی مسجد رسول الله(ص)، وعرّت الحزب القرشی من شرعیة البیعة التی تدثر بها "أفعلى عمد ترکتم کتاب الله ونبذتموه وراء ظهورکم؟ᴉ" وکل ذلک فی محضر جمع من المسلمین الذین أقامت علیهم الحجّة "أیها المسلمون أأغلبُ على إرثی؟ᴉ" فیما یعنیه ذلک من أن سلطتکم هذه (أیها المسلمون) نابذت کتاب الله وأعرضت عنه، وعوض تقیّدها بشرع الله؛ وهی تدّعی خلافة نبیّه- هاهی ذی تصدر فی قراراتها من منطلق الغلبة التی تنحصر فیها الخیارات إلى مجرد القمع ومصادرة الحقوق من أصحابها..
وإذا کانت فی مخاطبتها للأنصار قد استنفدت تمام الاستصراخ المشوب باللّوم والتقریع، مع معرفتها المسبقة بالخذلان واستیقانها بالنکوص، فهل من سبیل إلى أن نعرف نحن؛ لا من زاویة معرفتها هی وأنّى لنا ذلک؛ بل فقط بما یسعف به التحلیل وما تتیحه معطیات علم النفس الاجتماعی لنقارب هذا السلوک الشاذ فی مجتمع کانت تفصله –وفق بعض الروایات- عشرة أیام لا أکثرعن ارتحال خاتم الأنبیاء والمرسلین؟
نرید أن نقرّر أولا مسالة، وهی أنّ الآیات التی تعرضت لمجتمع النبی(ص) لم تنزهه تمام التنزیه، کما أن الآیات التی اشتملت على مدحٍ لأصحاب النبی(ص)، وبمعزل عن موردیتها، کشفت عن عنصر الخیریّة فیهم على نحو السمة الغالبة، دون أن یعنی ذلک بالضرورة أنّ هذه الخیریّة قسمة متساویة فی تمام أفرادهم، أو هی شاملة لأجمعهم، وملازمة لهم حتى مماتهم، وإن کان منهم وکما أخبر القرآن الکریم(من المؤمنین رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه فمنهم من قضی نحبه ومنهم من ینتظر وما بدلوا تبدیلا)، وإذا کان بعض علماء الشیعة یرون فسق معظم الصحابة فالقضیة لا تشکّل إجماعا..من هنا نقترح رؤیة فی تفسیر المشهد الاجتماعی بعد النبی(ص) فی جملة عناصر:
- تعرّضَ الواقع الإسلامی لصدمة عنیفة بوفاة النبی(ص)، والتبس أمامه المستقبل والمصیر، وهذا الاضطراب عکسه تلکؤ جیش أسامة فی مسیره والرسول بعدُ على فراش المرض، وقد کان الاضطراب ألقى بظلاله القاتمة یوم همّ الرسول(ص) بکتابة الوصیة فکان التجاسر علیه من بعض القوم، ودبّ الخلاف بین یدیه روحی فداه، حتى قال اخرجوا عنّی..وهو الاضطراب الذی فاقمه عمر حین صدم جموع المسلمین بتهدیده ووعیده لمن یقول أن النبی(ص) قد مات، ثم ما کان من صاحبه الذی استدرک على الناس باستدراک غریب حین قال:" أیها الناس، من کان منکم یعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن کان منکم یعبد الله فإن الله حی لا یموت..".
- تفاجأ عامة المسلمین بسرعة تحرک الحزب القرشی، وهم غرقى فی حالة من الحزن والفقد، والفقد هنا لرسول کان(بالمؤمنین رؤوف رحیم)، وللوحی الذی انقطع عنهم، وقد کان صلتهم بالسماء یرعى مسیرتهم ویهدیهم للتّی هی أقوم، ویواکب کدحهم بکل متطلبات بناء الأمة المنذورة لوظیفة الشهادة على الناس، کان المشهد سریالیا؛ نبی الله لم یوارى الثرى بعد، فیما تم الإعلان فی الناس أنّ البیعة قد تمت للخلیفة الأول، هلموا فبایِعواᴉ وهو المشهد الذی أصاب جماعة المسلمین بحالة خدر، وشلّ قدرة الناس على الفهم والاستیعاب، واستهانوا فی المقام بفعل الانکسار العاطفی، بکل مصیبة بعد مصیبتهم فی وفاة رسول الله(ص).
- لعلّ الأنصار أدرکوا من یوم الوصیة التی أجهضها عمر بزعمه أنّ النبی(ص) "لیهجر"، أنّ الفریق القرشی یخطط لشیء، لأنّ قطع الطریق على الوصیّة المکتوبة بتلک الفجاجة، لم یکن یعنی إلا إرادة تسلیک الطریق أمام مخطط یدبّر بلیل، وهذا ما أرهبهم، وهو ما یفسر تداعیهم إلى سقیفة بنی ساعدة لمبایعة زعیم الخزرج سعد بن عبادة، فلما دخل المهاجرون على الخط، وانکشف الجدال عن العصبیات التی انطلقت من عنانها، مفسدة الأمر على الأنصار حین بادر بشیر بن سعد لبیعة أبی بکر حسدا لابن عمّه، ثم ما کان من حثّ أسید بن حضیر رئیس الأوس لقومه قائلا:" والله لئن لم تبایعوا لیکونن للخزرج علیکم الفضیلة أبدا"، فبایعوا أبا بکر.
وهکذا یظهر جلیا أنّ العصبیة القبلیة الضاربة الجذور فی الوجدان والتکوین النفسی للجماعات قد استیقظت على حین غرة عند الأنصار باعتبارها مجال الانتماء الحیوی الذی یؤمّن الحمایة والمصالح، وعند فریق الحزب القرشی لتمریر مخطط الأمر الواقع.
وفی الخلاصة فقد خرج الأنصار من السقیفة منقسمین مفککین خائبین متباغضین، یجترعون مرارة الخیبة، والانهزام أمام مکیدة الحزب القرشی الذی أسقطتهم فی فخ منح الشرعیة لمن لا یستحقها.
- وأخیرا؛ هناک عامل مهم یتصل بمنظومة الإدراک والتمثلات، و هذا ما سعى القرآن لتقویمه ومعالجته، فالبعض لم یکن یدرک معنى النّبی أو النبوّة ومقامها، ولنقل أنهم کانوا ینظرون إلى ذلک من خلال المترسب فی ثقافتهم، وبوعیهم المحصّل عن الزعامة والقیادة فی مجتمعهم القبلی، ویمکن أن نسوق نماذج فی السیاق، من مثل عدم الاستئذان على رسول الله(ص) حتى قال القران(..إن ذلکم کان یؤذی النبی فیستحیی منکم والله لا یستحیی من الحق..)، أو فی لمزهم النّبی فی الصدقات (ومنهم من یلمزک فی الصدقات فان أعطوا منها رضوا وإن لم یعطوا منها اذا هم یسخطون)، أو فی عدم التأدب ورفع الصوت عند النّبی کما فی مطلع سورة الحجرات (یا أیها الذین آمنوا لا ترفعوا أصواتکم فوق صوت النّبی ولا تجهروا له بالقول کجهر بعضکم لبعض أن تحبط أعمالکم وانتم لا تشعرون).
لذلک لیس بعیدا أنّ البعض لم یکن یدرک مقام الزهراء(س)، لا أقلّ فی الحدود التی بینّها الرسول(ص) وتنزّل بها الوحی، ولم یفقه هذا البعض من موقف الزهراء وهی تنکّل بفریق السلطة إلاّ أنها امرأة ناقمة بسبب ما اعتبرته حقا مسلوبا، مأخوذة بأثَـرة زوجها وابن عمها علی بن أبی طالب(ع)، وحتى ذلک التململ الذی سرى فی بعض الأنصار کنتیجة لخطبتها حسب کتب التاریخ، فقد أمکن للخلیفة أن یسیطر علیه حین صعد المنبر بعد انصراف الزهراء، مهددا متوعدا.
لکن ومع ذلک، وعَـبر التاریخ؛ ظلت خطبة الزهراء(ع) صرخة مدویة بوجه الانحراف، وقد اختطت للأحرار نهجا عنوانه أن لا مساومة مع الباطل ولا انهزام أمام سطوته، وأنّ المرأة کما الرجل مسؤولة عن حفظ خط الرسالة و صیانتها من عبث التحریفیین، وأن ساحة النضال تتسع للمرأة لتبلغ فیها مدیاتٍ قد یقصر عنها الرجل، کلمّا احتاج الحق لشحنة من العاطفة الصادقة، تهز القلوب وتستنفر الحمیّات، وتعبئ المترددین الواقفین على هامش معرکة الحق والباطل.
إن الحقیقة دائما ثوریة، لکن هذا لا یعنی تحویل الزهراء ومظلومیتها إلى عنصر اشتباک مع الأخ فی الدین والمخالف فی المذهب، فإنّ ذلک ممّا لا یستقیم ومرامی خطبة الزهراء، أو حرص الإمام علی(ع) على مصلحة الإسلام ووحدة الأمة، إذ یقول:" ..فخشیت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فیه ثلما أو هدفا تکون المصیبة به علی أعظم من فوتِ ولایتکم..".
السلام علیک یا فاطمة الزهراء.










ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.