رسا/آفــاق- لم یکن الدافع فی هذا المقال أن نتجاسر على أحد، ولا أن نسعرّ خطابا طائفیا، فنحن دعاة وحدة وتقریب، لکن حین یتم العدوان على ثورة شعب والنیل من شهداءه والتشکیک فی وطنیته وتبریر قمعه.. وأن یتم ذلک من على منبر خطبة الجمعة، فإن السکوت على ذلک فعل من عمل الشیطان/بقلم عبد الرحیم التهــــامی.

أکد الدکتور یوسف القرضاوی رئیس الإتحاد العالمی لعلماء المسلمین فی تصریح لقناة الجزیرة "أن حکم الفرد المطلق انتهى وأن الشعوب تغیرت، غیر أنّ الحکام المستبدین لا یفهمون التاریخ". لکنّه نسی أن یستثنی بعض الممالک الخلیجیة، حیث الشعوب محظور علیها أن تثور، وإن فعلت ذلک فما هی إلا هبّات طائفیة کما فی حالة البحرین، کما فاته أن یشفع لبعض المستبدین من الحکام الذین لم یفهموا التاریخ لأنهم على الأقل فهموا الجغرافیا؛ والجغرافیا السیاسیة بالتحدید حیث یربض عنوان بارز اسمه إیران.
وحول المستجدات فی مصر، هنأ الشیخ الشعب المصری على خوضه انتخابات حرة لأول مرة (استفتاء السبت على التعدیلات الدستوریة) بعد نجاح ثورته، وتمنى أن یهنئ عمّا قریب الشعب اللیبی والشعب التونسی والشعب الیمنی والشعب السوری وکل الشعوب التی تتطلع إلى الحریة.. ولیس فی حسابات الشیخ -طبعا- الشعب البحرینی الذی یُقتل شبابه ویُنّکَـل بأحراره ویصادر حقّه فی الحریة!
فشعب البحرین حسب الأب الروحی للثورات العربیة یمثل حالة شاذة لأنّ المحتجین فی البحرین یعمدون إلى "الاستقواء بالخارج ویعبرون عن آراء فئة مذهبیة ولیس عن الشعب بکامله" صدر هذا القول فی خطبة الجمعة بتاریخ18/3، وزاده توضیحا من على منبره: "سؤال سُئلت عنه من أکثر من شخص ومن أکثر من جهة ومن أکثر من فرد، یقولون لی تحدثتَ عن الثورة التونسیة، وتحدثتَ عن الثورة المصریة، وتحدثتَ عن الثورة اللیبیة، وتحدثتَ عن الثورة الیمنیة، ولکنک لم تتحدث عن ثورة واحدة؟! قلت: ما هی؟ (لاحظوا درجة التجاهل والاستخفاف بنضال شعب وتضحیاته وقد رأى الأجساد التی غربلها رصاص الشونز) قالوا: ثورة البحرین، لماذا لم تتحدث عن ثورة البحرین؟! قلت لهم: دعونی أجبکم بصراحة: إن ثورة البحرین ثورة غیر هذه الثورات"!، وتابع: "ما یحدث فی البحرین ثورة طائفیة، أما باقی الثورات الأربع فکلها ثورة شعب ضد حاکمه الظالم" واستدل القرضاوی على ذلک بمغالطة مفضوحة، لأنّ فی کل شعب عملاء وطابور خامس وطبقة مرتبطة بالنظام، وشرائح لها مصلحة فی الوضع القائم:"الشعب المصری خرج بکل فئاته وطوائفه، مسلمین ومسیحیین، شبابا وشیوخا، رجالا ونساء، تقدمیین ورجعیین، أهل الدین وأهل الدنیا، یعنی الشعب المصری کله، وکذلک الشعب التونسی، کذلک الشعب اللیبی، وکذلک الشعب الیمنی(وماذا عن تظاهرة "التسامح" التی حشدها نظام علی عبد الله صالح یوم الجمعة الأخیر فی مقابل تظاهرة "الرحیل" لقوى التغییر) ولکن الثورة البحرینیة ثورة طائفیة"!
وأضاف القرضاوی: "مشکلة ما حدث فی البحرین أنه ثورة شیعة ضد السنة، وماذا أقول وأنا متهم بطبیعتی بأنی ضد الشیعة، وأنا لست ضد الشیعة، أنا ضد التعصب وضد الطائفیة وضد التفریق بین الناس بعضهم وبعض على أساس المذهب أو الفرقة"!!
ولفت القرضاوی فی نفس الخطبة إلى أن:" السنّة فی البحرین تحرکوا لما تأکدوا من أن الأحداث فی البحرین تحمل طابعاً مذهبیاً، وخرجوا بمئات الآلاف فی التجمع الذی جرى فی جامع الفاتح فی المنامة". وماذا کان یتوقع من آلاف المجنّسین، ومن الطابور الخامس ومن الفئات المنتفعة من نظام التمییز الطائفی السائد فی البحرین منذ استقلالها؟
ولم یقف تجنی القرضاوی على الحقائق عند هذا الحد فتجنى على المعتصمین الذین کانوا فی دوار اللؤلؤة وجسدوا أرقى مظاهر التحضر، یقول: "لم یکونوا سلمیین..(لعلّه یستحضر صور السکاکین والقضبان الحدیدیة التی زعمت الداخلیة انها ضبطتها فی الخیّم بعد فضّ الاعتصام الأول وسقوط شهداء) بل اعتدوا على کثیر من أهل السنة واستولوا على مساجد لیست لهم، واستعملوا الأسلحة کما یفعل البلطجیون فی الیمن وفی مصر وغیرها ضد کثیر من المستضعفین من أهل السنة"! لاحظوا النفس الوهّابی الحاقد فی کلامه.
بل إنّه طعن فی أصالة الغالبیة من شعب البحرین وعرّض بوطنیته اعتمادا على مشاهد مصورة تبثها قناة "صفا" المتصهینة؛ وهی المشاهد التی تعود إلى أیام انتصار المقاومة فی حرب تموز2006 حیث خرجت المسیرات فی البحرین ترفع صور قائد المقاومة السید حسن نصر الله وصور حامی المقاومة وداعمها آیة الله السید علی الخامنئی، فقال:"الخطر أن ینسب الشیعة أنفسهم إلى بلاد أخرى ویحملوا صورة (المرشد الإیرانی علی خامنئی) وصورة (الأمین العام لحزب الله حسن نصر الله) وصورة کذا.. وکأنهم ینتسبون إلى إیران ولا ینتسبون إلى البحرین، هم من أهل الخلیج، فلماذا یخرجون عن الخلیج؟! نحن نرید أن تکون المواطنة حقیقیة"!. وأین ذهب مشهد الأعلام البحرینیة التی غطت کل الساحات، علم البحرین الذی تخضب بدماء الشهداء؟..فلم ترفع رایة غیر رایة الوطن وکل الکامیرات وثقت ذلک.
هکذا انتصر القرضاوی للطغیان والاستبداد الذی لا یخفى عنه فی البحرین، متجاهلا نضال الشعب البحریبی منذ عقود، نضال خاضته قوى شیعیة وسنیة وتوزعتها الحساسیات الایدیولوجیة من قومیة ویساریة إلى إسلامیة ووطنیة، شخصیات على اختلاف مذهبها انتظمت فی جمعیات وأطر تنظیمیة لإحداث التغییر فی بنیة النظام القائم على الحکم المطلق، ولا یستطیع القرضاوی أن یدعی جهله بقوى المعارضة وهی مختلطة مذهبیا، ولا بتوحد أهم جمعیاتها فی إطار جبهة عریضة وموسّعة، ویکفینا هنا لإبطال فریة الطائفیة أن نذکّر القارئ الکریم بواحد من البیانات قبیل دخول القوات السعودیة تحت غطاء ما یسمى بقوات درع الجزیرة، فقد أرسلت الجمعیات السیاسیة السبع (جمعیة الوفاق الوطنی الإسلامیة، جمعیة المنبر الدیمقراطی التقدمی، جمعیة العمل الوطنی الدیمقراطی، جمعیة التجمع القومی الدیمقراطی، جمعیة العمل الإسلامی،جمعیة الإخاء الوطنی، جمعیة التجمع الوطنی الدیمقراطی الائتلاف الوطنی) نداء استغاثة عاجل إلى "بان کی مون" الأمین العام للأمم المتحدة وقالت فی النداء الموجه: إننا شعب البحرین وحینما خرجنا للمطالبة بحقوقنا التی تکفلها لنا المواثیق الدولیة وبصورة سلمیة وحضاریة تمت مواجهة مطالبنا بحملات عنف ممنهج من قبل الأجهزة الأمنیة والعسکریة والمحسوبین علیها.
وأردفت: إن التطور الأکثر خطورة -وقت کتابة النداء العاجل- هو التهدید الجاد من دخول قوات سعودیة وخلیجیة أخرى لمواجهة شعب البحرین الأعزل، الأمر الذی یعنی أن شعب البحرین فی خطر حقیقی یتهدده بشن حرب من قبل جیش مسلح ضد المواطنین البحرینیین دون إعلان حالة الحرب، وإننا نعتبر دخول أی مجند أو آلیة عسکریة إلى إقلیم البحرین البری والجوی والبحری احتلالاً سافراً لمملکة البحرین...".
فی الجمعة التالیة التی أعقبت خطبة الشیخ القرضاوی؛ وقف رجل عالم على منبر مسجد الإمام الصادق(ع) بمنطقة الدراز بالعاصمة البحرینیة المنامة، رجل حیاته کلها جهاد متصل، رجل یعد مدرسة فی الوطنیة، وقف لیخطب ولیقول قولا معروفا، لنسمع إلیه وهو یقول:علینا أن نجاهد أنفسنا، لنکون المسلمین الواعین المخلصین لدین الأمة وأبنائها ووحدتها وعزتها وکرامتها، لا ندعو لفرقة ولا نستجیب لها، ولا تغیّرنا الخطوات المستفزة على طریقها.
کیف یکون الرجل طائفیا وهو یصدع بمثل هذا القول: وإذا قلنا هیهات منا الذلة، علینا أن نقولها نفیاً لها عن کل مسلم، وطلباً للعزة والکرامة له. فنحن لا نقول هیهات منا الذلة لنثبت الذلة لمسلمٍ آخر..علینا أن نکون طلاباً للعزة والکرامة والخیر لأنفسنا ولکل مسلمٍ ولکل إنسان.
ما انزلق إلیه الشیخ القرضاوی عند تشویهه لثورة شعب حر وتغطیته للاستبداد من خلال الفریة الطائفیة، یقابله الصدق والمسؤولیة ووضوح الرؤیة عند الشیخ عیسى قاسم حیث یقول: رؤیتنا أن أی إرادةٍ بشریةٍ لا یصح أن تتحکم فی إرادةٍ بشریةٍ أخرى ، وأنّ حکم الحاکم لا یکون حکمه فی الناس إلا برضى وتوافقٍ وتعاقد. ولا یصح حکم الغاب وأن تُمضی الإرادة البشریة ـ بما هی إرادةٌ بشریة ـ رأی متسلطٌ بما هو رأی متسلط على الآخرین.. لو کانت إرادة الرسول (صل الله علیه وآله) إرادةً بشریة، ما کان له الحق أن یفرضها على إرادةٍ بشریةٍ أخرى، وإنما لأن إرادته من إرادة الله ولأن رأیه من حکم الله کان على الناس أن یستجیبوا لطاعته. ولیخلص الشیخ قاسم بأن هذا هو فکر الدنیا کلها الیوم، والآخذُ فی الإنتشار والتمکن فی جمیع الأقطار وبقاع المعمورة، لا یستوحشه من شعوب العالم شعبٌ من الشعوب، ولا یعادیه منصف فی الناس.
وفی رد غیر مباشر على المصابین بالعُصاب الطائفی، یکشف الشیخ قاسم عن معدن شعب البحرین الأصیل: کم فرح هذا الشعب لفرح الشعوب المسلمة الأخرى، وکم تألم لألمها، لا یفرق بین شعبٍ وشعب، وبلدٍ وبلد، وأهل مذهبٍ وآخر. وبعد سرده للعدید من الأمثلة یقول: وتطلعنا لا ینقطع لفرج کل شعب مسلمٍ یعانی من ظلم ظالم وطغیان طاغیة.
وأضاف: ضمیر هذا الشعب یقف مع کل مظلومٍ فی الأرض، مسلماً کان أو غیر مسلم، ویحب السلم والسلام، والعدل والخیر، والإستقامة والسعادة لکل شعوب العالم.
ویخلص الشیخ قاسم -ومعه کلّ منصف- إلى أن: شعبٌ هذا شأنه، حقّ له أن تفرح الشعوب لفرحه، وتحزن لحزنه، وتتألم لألمه، وأن تکون له فی الحق لا علیه، وأن تضم صوتها إلى صوته المطالب بحقوقه.
وعلى خلاف إدعاءات القرضاوی التی أراد منها دغدغة وجدان المتعصبین عند حدیثه عن التعرض لمساجد سنّة البحرین، أکد الشیخ قاسم على ما شهد به العالم (ومنه بیان الاتحاد الأوروبی حیث دعت کاترین اشتون السلطات البحرینیة إلى الاحترام الکامل وحمایة الحقوق الأساسیة لمواطنیها بما فی ذلک الحق فی التجمع السلمی ومواجهة التعبیر السلمی لاهتمامات الشعب بالحوار): التحرک فی البحرین وبرغم کل الآلام والضحایا والإنتهاکات لم یغادر خط السلم، وهو مصرٌ على إلتزامه، ولا یصح له غیر ذلک. وهذا یزید فی وجوب تأیید هذا الشعب، ودعم هذا الشعب، وتأییده والوقوف معه، لا أن یکون الآخرون علیه أو یقفوا موقفاً غیر مبالٍ من محنته.
وکم کان قول آیة الله قاسم بلیغا حین وضع الوجوه المسودة أمام مرآة الدین والتاریخ وهو یقول: ولا یحمل روح الدین من وقف مع الظالم ضد المظلوم لأنّ الأوّل نصرانی والثانی مسلم، أو لأنّ الأوّل مسلم والثانی نصرانی، أو لأنّ الظالم شیعی والمظلوم سنّی.. أو العکس. ولیکن هذا المجافی فی موقفه للحق من أشد الناس إحاطةً بفهم الدین واستیعاباً لفقهه، فما دام مناصراً للظّالم على المظلوم فهو مع دین الله فی تعارضٍ واصطدام.
لقد سئمنا من هذا العبث الطائفی، وللأسف لم یفوّت القرضاوی خطبة الجمعة(بالأمس) الأخیرة دون أن یعرّض بالنظام السوری ویتهمه بالطائفیة ویقدم روایة مهزوزة عمّا حدث فی المسجد العمری بمدینة درعا السوریة تأجیجا للمشاعر الطائفیة.
فمنذ الانتصار العظیم الذی حققته المقاومة فی لبنان فی حرب تموز2006 والقرضاوی یعیش عقدة التشیع، سلخ عنه لباس الوسطیة والاعتدال ورکب قطار التعصب المذهبی إلى أن وصل به إلى هذا العمى وإلى هذه المواقف المخزیة.
لقد اخترت -أیها القرضاوی- ومن موقعک کرئیس للإتحاد العالمی لعلماء المسلمین الوقوف إلى صف الاستبداد ونلت من ثورة شعب حر أبیّ ومسالم، وافتریت ودلست على الناس، وقلبت الحقائق خدمة للطغیان وتزلفّا للسلفیین المتعصبین، استعملت لغتهم ونفثت من مزمارهم، فهل بعد هذا یحق لک أن تظل فی موقعک..؟
لن یسکت عنک أولیاء شهداء المذابح فی البحرین، ولن یسامحک الجرحى والمعاقون، ففی بعض المحاکم الدولیة سعة عدل، ولن تجد لک مجالس الثورة فی تونس ومصر والیمن ولیبیا وفی کلّ ثورة فی الأفق من عذر.
والأهم من ذلک نقول لک: کید کیدک واسعى سعیک وناصب جهدک وتجاهلنا ما بدا لک فوالله لن تمحونا من سیاق الثورة الهادر، ولن تمیت أشواق شعب البحرین للعدل والحریــــة والکرامة.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.