07 May 2011 - 15:44
رمز الخبر: 3384
پ
رسا/ آفاق- إنّ وظیفة بناء النموذج انطلاقا من حیاة الزهراء(ع) وتحویله إلى مجموعة قیم اجتماعیة وأخلاقیة ورسالیة ملهمة ومؤثرة؛ یمر بالضرورة من خلال فصل منهجی بین المقامات المعنویة وبین التجربة الإنسانیة. بقلم عبد الرحیم التهامی.
الزهراء(ع) والحاجة إلى بناء النموذج




متى یمکن أن نتحدث عن الزهراء علیها السلام من دون أن یطغى التفجّع على حدیثنا؟ فی ذکرى میلادها کما فی ذکرى وفاتها علیها السلام لا مجال إلاّ للحزن، وإن کان هذا الحزن فی ذکرى المیلاد یحبس نفسه فی تضاعیف فرح یبدو کأنه یأبى أن یکتمل، وطبعا ثمة دائما فرق بین حزن وحزن، حزن عفوی یتدفق من قنوات الحبّ والولاء، وحزن مؤدلج یستثمر الألم کمعطى تاریخی وبحوّله إلى عنصر فی الهویة الدینیة.
الحدیث عن الزهراء(ع) فی ذکرى شهادتها یکاد ینحصر بشکل أساسی فی مرحلة ما بعد رحیل الرسول الأکرم (ص)، حیث یتم تناول قضایا محوریة ثلاث: أول هذه القضایا؛ دفاعها عن حق زوجها الإمام علی(ع) فی الولایة بنصّ من رسول الله (ص) امتثالا لأمر ربّه (یا أیها الرسول بلّغ ما أنزل إلیک من ربک وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله یعصمک من النّاس..)، والمسألة الثانیة هی قضیة "فدک" المنزوعة منها ظلما وغصبا وخطبتها علیها السلام فی مسجد أبیها فی ما یعدّ مناظرة ومحاججة شرعیة للقوم لم تقف عند حدّ فضح ادعاءات الحزب القرشی فی سلبها "فدک"، بل تجاوزتها إلى تعریة وتجرید حزب قریش من کلّ شرعیة مدّعاة، وبالنتیجة وضعها لمجتمع الأنصار أمام مسؤولیته الدینیة والتاریخیة، وثالثا الهجوم على بیتها الشریف ویلی ذلک من تفاصیل شهادتها المؤلمة.
وهذا الترکیز الدائم على هذه المحطات الثلاث من حیاة الزهراء، وهی محطات تندرج فی سیاق المواجهة والتصدی الشرعی والسیاسی للانحراف، یعیدنا إلى مناخات ما یمکن أن نسمّیه بتوترات الشرعیة بین البیت الهاشمی وحزب قریش المستنفر لکل ترسّبات القبلیة والعصبیة فی الدفاع عن مصالحه، هذا التوقف والترکیز على هذه المحطات –على أهمیته- لا یستجیب فی واقع الأمر إلاّ لحاجات ایدیولوجیة عند فریق من الشیعة ممن یحرصون کثیرا على القضایا التاریخیة لمذهَبة التشیّع بما یضمن القطیعة والمفاصلة مع الآخر –الأخ فی الدین-، وهکذا یتحوّل التاریخ إلى مصدر حصری للهُویة الدینیة، و تتحوّل استعادة الحدث التاریخی المشوب بکلّ مفردات الدراما إلى منبع یشبع الحاجات السیکولوجیة لما یمکن أن نسمیه بالکائن التاریخی المفجوع .
هذا الاقتضاء الإیدیولوجی لدى أصحابه هو الذی یغفل جوانب أساسیة فی حیاة الزهراء(ع)، سواء لجهة مناقبتیها النموذجیة، أو لجهة مختلف الأبعاد الأخرى فی الزهراء کابنة، أو الزهراء کزوجة، أو الزهراء کأم، أو الزهراء کأدوار رسالیة، ثم الزهراء کإنسانة، الزهراء فی علاقاتها الاجتماعیة، الزهراء فی زهدها وبساطة عیشها، الزهراء و فلسفتها فی الحیاة..
نعم فی أجواء إحیاء الذکرى یتم الإلماح إلى بعض هذا، لکن دونما طموح أو رغبة جادة فی الخروج من کل تلک التفاصیل والأبعاد بصورة لنموذج إنسانی یمکن أن نقدمه للإنسانیة وللمرأة بوجه خاص، بحیث یکون المثال ونموذج المرأة فی الإسلام، أولیست الزهراء بنص الروایات سیدة نساء العالمین؟
بل الملاحظ أنّ الجموح المذهبی عند البعض ینزع عن الزهراء طابعها الإنسانی والبشری، مع أنّ کمالها فی التجربة الحیاتیة هو فی تکییفها لشرطها الإنسانی مع اقتضاءات العبودیة الخالصة لله والفناء فیه، نعم لا أحد یجادل فی سمو مرتبتها المعنویة فقد روی عن الإمام الصادق(ع) أنه قال:" إن فاطمة کانت مُحدّثة" أی أن الملائکة کانت تؤنسها وتحدثها.
ودعوتنا إلى حفظ حقیقتها الإنسانیة - سلام الله علیها- لا یعنی فی المقابل إغفالا لمقامها المعنوی ومکانتها عند الله والشأن الذی لها عنده، وهو ما یقصر الخلق عن إدراکه والإحاطة به.
لم یقدم لنا التاریخ تفاصیل کثیرة عن حیاتها القصیرة سلام الله علیها ، لکن ما هو متوافر بین أیدینا یسمح ببناء صورة مکتملة عن حیاة الصدّیقة الزهراء، وتحویلها إلى نموذج فی الحیاة الأسریة وفی الأبعاد الأخلاقیة.
ووظیفة بناء النموذج انطلاقا من حیاة الزهراء وتحویله إلى مجموعة قیم اجتماعیة وأخلاقیة ورسالیة.. ملهمة ومؤثرة؛ لا یعنی تیارات أدلجة التشیّع ولیس ذلک من شؤونها قطعا، فضلا على أنّ ذلک یمر بالضرورة من خلال فصل منهجی بین المقامات المعنویة وبین التجربة الإنسانیة والحیاتیة، لأننا کلما خلطنا بین هذه الأبعاد جمیعها فإنّا نشوّش بذلک على الحقیقة الإنسانیة، وبتعبیر آخر فإنّنا نهدر القیمة القابلة للتصریف اجتماعیا وأخلاقیا، فالمرأة مثلا قد تحاکی السیدة الزهراء فی بساطة مهرها وفی نماذج من صبرها وفی بعض زهدها، وفی درجة من عظیم إیثارها، لکن مقامها المعنوی وعلى طریقة العرفاء قد یجعل منها کائنا فوق بشری، وبالنتیجة یتعسر الإتّساء ویتعطل الاقتداء.
فالقرآن الکریم حرص على إبراز بشریة الرّسول الأکرم (ص) من قبیل قوله تعالى: (قل سبحان ربّی هل کنت إلاّ بشرا رسولا)، وقوله عزّ من قائل: (قل إنّما أنا بشر مثلکم یوحی إلی..)، مع أنه نال مقام القرب (ثم دنا فتدلی ° فکان قاب قوسین أو أدنی ﴾، بل أنّ حقیقته البشریة کانت محط تعجّب القوم (وقالوا مالِ هذا الرّسول یأکل الطّعام ویمشی فی الأسواق..).
وعلى هذا الأساس من بشریة الرّسول الأکرم (ص) تقرّرت قدوته للناس (لقد کان لکم فی رسول الله أسوة حسنة لمن کان یرجو الله والیوم الآخر وذکر الله کثیرا..).
إنّ إطلالة على جوّ مناسبات الإحیاء على وفق التقویم التاریخی الشیعی یُشعر بالحاجة الماسّة لحرکة إصلاح فی الواقع الشیعی، ومعها یبرز ذلک الحنین للأدوار الطلائعیة التی کان یضطلع بها الشهید مرتضى مطهری؛ الذی نعیش هذه الأیام ذکرى شهادته؛ فنفتقد فیه الفقیه والمثقف المجدّد الذی کانت حیاته کلّها إیقاعا واحدا من الحرکة والإبداع والنقد والاستباق لکل الأسئلة المفترضة والممکنة. کان رجلا عرف کیف یعیش عصره ویتفاعل معه، وعرف کیف یستشرف المستقبل، وکان همّه الأساس الإسلام وقضایا الأمة.
لقد أدى تیار الأدلجة المغلق ذی النفس الأخباری إلى تشویه الثقافة الدینیة، وتسبب لنا فی خسارة شرائح من الشباب نفرت من نمط التدین الذی یروّج له هذا التیار.
لقد استهدف مشروع التغریب المرأة بشکل منهجی، وذلک لأنّ المرأة عنصر أساسی فی تماسک المجتمع، فصلاحها ینعکس صلاحا على المجتمع، والعکس صحیح، ومشروع الحفاظ على کیان المرأة وربطها بأدوارها ووظائفها المصیریة فی المجتمع یحتاج إلى خطاب دینی ناضج وأصیل، کما یحتاج إلى الأنموذج والمثال، وسیّدة نساء العالمین هی النموذج والقدوة الإنسانیة للمرأة، لکنه مثال یحتاج لمن یقرّبه من الإنسانیة ویسکّن به هذا القلق الوجودی الذی تعانیه الکثیر من النساء عبر التاریخ، فهل بمثل هذا الخطاب الذی نشهده على بعض المنابر یمکن أن نفلح فی ذلک؟!
السلام على الزهراء فی ذکرى شهادتها.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.