12 May 2011 - 16:22
رمز الخبر: 3408
پ
فی أفق مؤتمر "الشهیدین" ببیروت:
رسا/آفاق- بعد فاصل زمنی یقرب من السنتین على مؤتمر الشهیدین فی دورته الأولى المنعقدة بمدینة قم، تحتضن بیروت فی أواخر شهر أیار/ مای من هذا العام 2011م الدورة الثانیة من المؤتمر، والذی سیکرس معظم أعماله للشهید الثانی. هذه مقالة تقترح بعض الإضاءات الممکن تسلیطها على مسیرة هذین العلمین/ بقلم عبد الرحیم التهامی.
مؤتمر الشهیدین والإضاءات الممکنة<BR>



مؤتمر واحد لا یسع الدارسة العلمیة التی ترید أن تحیط وتتناول معظم الحقول العلمیة التی خاض غمارها الشهیدان وقدما فیها إسهامات عظیمة ومؤثرة أسهمت فی تطور مسار المعرفة الدینیة، وافتتاح مجالات علمیة جدیدة أمامها کما تجلى ذلک فی علم التعلّم أو الأخلاق العلمیة(آداب المعلم والمتعلم) الذی أسس له الشهید الثانی من خلال کتابه الفرید "منیه المرید فی أدب المفید والمستفید".
لاشک فی أنّ الاحتفاء بالشهیدین؛ محمّد بن مکّی العاملی الجَزینی المعروف بالشهید الأول (734- 786هـ)، وزین الدین علیّ بن أحمد الجُبَعی العاملی المعروف بالشهید الثانی (911 – 965هـ)؛ وإن اندرج ضمن تقلید ممدوح وسنّة حسنة تکرّم العلماء الکبار من ذوی الأثر البالغ فی الفقه أو فی مجمل المعارف الإسلامیة؛ وتحیی آثارهم فی شکل موسوعات جامعة، فإنّ عقد مؤتمر برسم الشهیدین یکتسب خصوصیة تخرج بالاحتفاء عن الإطار المرسوم له ویتجاوز المتوقع فی کلّ إحیاء وهذا ما سنحاول بسطه فی هذه االمقالة.
مسوغّ هذا الکلام هو تلک الحاجة الماسة إلى استئناف النظر فی فکر الشهیدین وفقه الشهیدین ومسلک الشهیدین.. والتی یمکن أن نرقى بها إلى مستوى الحاجة التاریخیة، فعندما تواجه الأمة انسدادات فی مسارها التاریخی؛ کما هو حاصل الآن، ویتعطل فعلها الحضاری عن الإبداع بل وترتکس إلى الجهالة المغلفة بالدین وتلوذ بعصبیاتها المذهبیة، وتفتتح على مسرح التاریخ الحدیث وعلى أعین الأشهاد حروبا مذهبیة کما حصل فی العراق، وکما قد یحصل فی أکثر من ساحة محتقنة، فإن ذلک یدفعنا إلى استحضار کل تجارب الإصلاح فی أمتنا، واقتباس جذوة النور من حملة المشاعل والاستعانة بها لعلنّا نحدث الخرق المطلوب.
والمخرج من مأزق الانسداد التاریخی؛ وهو ممکنٌ تاریخیٌّ أیضا؛ وتجاوز معضلاته یحتم حالة الاستدعاء هذه لنماذج وتجارب الإصلاح فی الأمة واستئناف النظر فی مشاریعها ومناهجها، وهذه لیست نزعة ماضویة أو تراثیة، فنحن أمة تعیش راهنها لکنّها لا تنفصل عن تراثها وماضیها، ولا نرى أنفسنا ننزلق بهذا الطرح إلى هوامش الحداثة، بل نرید أن نکون فی القلب منها وفق ثابت تاریخی وفلسفی لا یختلف فی کون أنّ لکل امة حداثتها الخاصة بها تعیشها على وفق شرطها الثقافی والدینی.
من مظاهر ما أسمیناه بالانسداد التاریخی أن معلمه الأبرز وتعبیره الصارخ نابع من أزمة تدیّن فی مجتمعاتنا، فنحن أمام فهم للدین ینتج التعصب والانغلاق وینتهی بجمهور عریض من المتدینین لیس فقط إلى ادعاء الحقیقة بل واحتکارها، ومن الطبیعی أن تنشط دینامیة التوترات المذهبیة وتتفاقم إلى مستویات من التکفیر والاستباحة وتقویض أسس الاجتماع السیاسی والعصف بکل قواعد العیش المشترک فی الوطن الواحد، وعلى صعید الأمة الواحدة.
هذه الأزمة فی العلاقات الإسلامیة- الإسلامیة لها جذورها التاریخیة، فمنذ أن انقسم المسلمون إلى سنة وشیعة، لم ینجح الطرفان إلى الآن فی تدبیر الخلاف بما یحرر طاقة الأمة من ثقل التاریخ ویخفف عن جسمها ضغوطات التوتر، وإذا تساءلنا بموضوعیة: هل یختلف واقع علاقاتنا المذهبیة الیوم عمّا کان علیه الوضع زمن الشهید الأول والشهید الثانی أی ما بین القرنین الثامن والعاشر الهجری؟ فی تقدیرنا –وللأسف- أن جوهر المشکل لا زال قائما سواء على مستوى العلاقة أو على مستوى التمثل وتوارث نفس النظرة النمطیة إلى الآخر، نعم برزت إلى السطح الحالة التقریبیة المحمودة، لکنها لم تحدث اختراقا قویا - إلى الآن- فی البنیة المذهبیة المستحکمة والمغلقة بل والمتفاقمة فی بعض مستویاتها فی وقتنا الراهن، ویکفی مؤشرا على ذلک أن ما أتاحه العصر من تکنولوجیا فی الاتصال کشبکة الانترنت وإعلام فضائی عابر للقارات وما إلى ذلک؛ تحول إلى عدّة حرب للتناحر المذهبی لا تجد کلمةً سواء یمکن أن یتوحد علیها أبناء الملّة.
من هذا الواقع الإسلامی المثقل بأزمته الدینیة وألوان أزماته المتعددة، والعالق فی هامش من االعطالة الحضاریة، تمدنا تجربة الشهیدین وبلحاظ التشابه الکبیر فی الأبعاد الشخصیة لکلیهما، والسمات الزمانیة، والأدوار العلمیة والتاریخیة، بالکثیر من الإضاءات التی إن عرفنا کیف نسقطها على بؤر العتمة فی تجربتنا التاریخیة فإنها تستحیل إلى دوائر من نور تعزز مظاهر الاستنارة المغتربة والمستوحشة وتتلاحم معها فی أفق اجتراح زمن إسلامی مختلف وراشد.
میزة الشهیدین أنهما انتسبا إلى مدرسة التشیّع وکانا وکما هو معروف وفق المعیار الاجتماعی ضمن الأقلیة المذهبیة فی الفضاء السنّی الوسیع، فرتّب علیهما هذا الوضع وبحکم التنشئة العلمیة والدینیة لکلیهما التزامات تمشی فی اتجاهین، التزامات تتصل بطائفتهما وبتراثها العلمی استیعابا وتطویرا، والتزامات تجاه فضائهما الإسلامی الأوسع انفتاحا على مذاهبه الإسلامیة ورتقا للفتق المذهبی المزمن فی نسیجه الدینی والاجتماعی على سبیل إرساء الاجتماع الإسلامی على التعدد فی إطار الوحدة؛ وحدة أمة تقوم بدور الشهادة على الناس.
وسمة الانفتاح هذه والتی عبّر الشهید الأول نفسه عنها فی إجازته لابن الخازن بالقول: "وأما مصنفات العامة ومرویاتهم فإنی أروی عن نحو أربعین شیخا من علمائهم بمکة والمدینة، ودار السلام بغداد، ومصر ودمشق وبیت المقدس، ومقام إبراهیم الخلیل.."، لم تکن انفتاحا محایدا بل انفتاحا تفاعلیا یخضع لشروط الممارسة العلمیة، وهذا ما انعکس بقوة على ذهنیته و فی أحد أهم مؤلفاته "القواعد والفوائد" والذی لا یخلو من تأثر بالتدوین القواعدی الفقهی عند أهل السنة من قبیل "قواعد الأحکام فی مصالح الأنام" لابن عبد السلام الشافعی(٦٦٦هـ) وکتاب الفروق للقرافی المالکی(٦۲۸هـ)، ولم یکن وصف الشهید لکتابه هذا "لم یُعمل للأصحاب مثله"، إلاّ شهادة على أنه سلک فیه منهجیة خاصة ممیزة ومبدعة.
وکذلک الحال بالنسبة للشهید الثانی الذی أحاط إحاطة واسعة بمختلف المذاهب الإسلامیة فی الفقه والحدیث والتفسیر، وکان فی بعلبک یفتی کل فرقة بما یوافق مذهبها، ویدرّس فیها کتب المذاهب بأجمعها.
هذا الانفتاح على الآخر والانغماس فی مدرسته وتجشم عناء الرحلات للتتلمذ على مشایخه، بل واعتبار ذلک تکلیفا شرعیا، یدخل ضمن مشمولات التفقه بمعناه الواسع، واستحضار الرأی الآخر فی الممارسة الفقهیة بما حقق طفرة هائلة فی الفقه المقارن مع الشهید الأول فی کتابه الذی لم یقدر له أن یکتمل "ذکرى الشیعة فی أحکام الشریعة" والذی یعد بحق تطویرا نوعیا لکتاب "تذکرة الفقهاء" للعلاّمة الحلّی (٦٤۸هـ٧٢٦هـ) لجهة سعة استقصائه أدلة وروایات السنة والشیعة واستفاضته فی تقییمه للآراء وعمق مباحثه.
وفضلا على المردود العلمی لهذا الانفتاح على صعید المعرفة الدینیة کما ألمحنا إلى ذلک، فإنّه یصلح لأن یمثل صاعقا قویا لظاهرة الانغلاق المذهبی والاستغناء بآراء المذهب والاکتفاء بها ذاتیا، کما هو سائد الآن بینا، وهو الانغلاق الذی یمثل ارتکاسة عن مراحل من تاریخ العلوم الإسلامیة کانت فیها المعرفة محکومة لمنطق الجدل الداخلی بین الآراء والحساسیات المذهبیة، فضلا عن تفاعلها وتأثرها بأنماط من المعرفة الیونانیة والفارسیة وغیرها.
أیضا یمکن أن نعتبر هذا الانفتاح؛ على طریقة الشهیدین؛ شرطا معرفیا، فلا معرفة حقّة إلا بالانفتاح على الأخر الذی نشترک معه فی أهم مصادر التشریع ونحمل معه نفس الهویة الدینیة ﴿..هو سمّاکم المسلمین من قبل وفی هذا لیکون الرسول شهیدا علیکم وتکونوا شهداء علی الناس.. ﴾/الحج٧۸، فیغدو الآخر شرطک المعرفی الذی لا تستوی معرفتک ولا تکتمل إلاّ به، وهذا قد یستدرج على الصعید العلمی قطیعة مع منطق الاستعلاء والاکتفاء المعرفی الموهوم والمتسیّد على واقعنا الدینی، ویفتتح دینامیة جدیدة فی اتجاه المعارف الشیعیة خاصة، باعتبار حجم التجافی عنها والإعراض عن مکتبتها ونفائسها یعدّ موقفا التزمه معظم الجمهور؛ إذا جوّزنا لنفسنا استعمال هذا التعبیر؛ وذلک على عکس فقهاء الإمامیة والذین على طول التاریخ کانت إحاطتهم –دائما- بآراء ومصادر أهل السنة لیست بأقل من إحاطتهم بآرائهم ومصادرهم الخاصة.
هذا کأثر علمی، أما أثره على الصعید الاجتماعی فإنّ الانفتاح الذی یفترض العبور إلیه عبر النقد والمراجعة وإعادة النظر فی نمط علاقاتنا المذهبیة قد یمهد الطریق نحو مشهد فی العلاقات الإسلامیة- الإسلامیة قائم على ترکزّ فکرة التعدد والاختلاف فی الوعی الجمعی للأمة، بما یجعلها تتصالح مع نفسها وتعید تأهیل نفسها للأدوار التی تنتظرها.
ویبقى أن نقول أنّ استحضار الشهیدین فی مثل لحظتنا التاریخیة القلقة هو فی الواقع استحضار لنهج تداخلت فیه الخصوصیة المذهبیة بالهویة الدینیة الجامعة، وانصهرت فیه فکرة التقریب بالسلوک الوحدوی الواعی، هو تلمس لمعالم مدرسة ترسم لنا خارطة طریق، خارطة تنتشلنا من التیه وتحدد لنا الاتجاه الصحیح، وعلى ضوء إشاراتها نتعلم کیف نعیش الانفتاح مع خصوصیة الانتماء، وکیف نحیّد المعرفة عن الاعتبارات المذهبیة، وکیف نلزم أنفسنا باحترام التعدد وتدبیر الاختلاف على وفق الأصول والقواعد الأخلاقیة، وکیف نعیش لأمة منذورة لأن تحتمل التعدد والاختلاف والتنوع فی داخلها، بل تحمیه وتصونه وتنمّیه وتترقّى به على مدارج الغنى الثقافی.
استحضار الشهیدین فی بیروت وعلى مسافة من موطنهما، هو استحضار فیه مواءمة بین خصلة الشهیدین فی الانفتاح وهویّة بیروت التعدد والتنوع والاحتضان الخلاّق لطوائفها ومذاهبها ولکل تیاراتها الفکریة والسیاسیة، التعدد الذی لم یمیّع بیروت أو هی تمیّعت به بل على عکس ذلک؛ ازدانت به و منحها هویة مضافة اسمها المقاومة.
استحضار الشهیدین هو إضاءة على حقیقة مرّة وهی أنّ التعصب الدینی الذی تربص بهما ونال منهما وهما فی ذروة العطاء؛ لازال سمة مستشریة فی نمط تدیننا، وکأنّنا نراوح فی نفس المحطة التاریخیة.
أیضا استحضار الشهیدین یؤکد حاجتنا لبعض التراث لاجتراح نهضة لا زالت لم تعرف کیف تهتدی إلى لحظة مخاضها المأمول، حاجتنا إلیه أکثر من حاجته –أی التراث- إلینا نحن تحت مسمیات الإحیاء أو استئناف النظر.
وثمة إضاءة أخیرة یحذونی الأمل فی أن لا یغفلها المؤتمر وهی الکشف عن جدل الفقیه والمثقف فی شخصیة کلّ من الشهیدین، فالإطلاع على ثقافة عصرهم لا یضاهیهم فیها أحد، ومواصفات المثقف العضوی وفقاً لمحددات الفیلسوف الایطالی أنطونیو غرامشی الذی فرّق بین المثقف التقلیدی والمثقف العضوی «النقدی» تنطبق علیهما، وتزداد علیها برسالیتهما..رسالیة انتهت بهما إلى الشهادة کوحدة مصیر، مصیر سیظل یؤرق العقل الراشد فی الأمة، من خلال همس منبعث من کلّ جراحات التاریخ: بأی حق تهدر مثل هذه القیمة الإنسانیة والعلمیة التی تجسدت فی الشهیدین؟ وإلى متى سیظل التعصب یتحکم فی مسارنا ویختار لنا النهایات المؤلمة؟
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.