15 June 2011 - 18:24
رمز الخبر: 3566
پ
رسا/تحلیل سیاسی- یمثل خطاب قائد الثورة الإسلامیة لدى استقباله رئیس وأعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافیة فی إیران، مدخلا لتناول المشروع الثقافی للثورة وللحدیث عن التحدیات التی تواجهها الثورة على صعید الهویة والأسس الثقافیة. بقلم عبد الرحیم التهامی.
الثورة الإسلامیة والتحدیات الثقافیة


بعد أسبوع على تعیین الرئیس الجدید والاعضاء فی المجلس الأعلى للثورة الثقافیة فی دورته الجدیدة، ألقى سماحة الإمام السید علی الخامنئی خطابا تاریخیا فی أعضاء هذا المجلس، اشتمل على التذکیر بمهمة المجلس والتشدید على خطورة وحساسیة موضوع الثقافة باعتبارها مجال صراع واشتباک متواصل مع المشروع الاستکباری، مشیرا إلى سبل التصدی للغزو الثقافی المتضاعف على الجمهوریة الإسلامیة والذی "یکمن فی توسیع وترسیخ رسائل الثورة الإسلامیة فی المجالات الاخلاقیة والسلوکیات الفردیة والاجتماعیة والمعتقدات الدینیة والقضایا السیاسیة"، ومؤکدا فی الآن نفسه على أنّ مهمة رسم الخطوط الاستراتجیة العریضة للمشروع الثقافی او بحسب تعبیر سماحته؛ "صیاغة خارطة الهندسة الثقافیة" تبقى من اختصاص المجلس الأعلى الذی یتوفر على ضمانات دستوریة وتنفیذیة ، کما شدد سماحته على الاهتمام بالنخبة المثقفة والعنایة بأفکارها الخلاّقة والعمل على استیعابها ضمن أطر العمل الثقافی المتعددة.
بعد سنتین تقریبا من انتصار الثورة الإسلامیة أعلن الإمام الخمینی(قده) عن تشکیل المجلس الأعلى للثورة الثقافیة، وقد مثّـل ذلک الإعلان التاریخی أحد القرارات الحاسمة والمصیریة فی تأمین هویة الثورة وتحصین مجتمعها من کل اختراق، فقد فتح انتصار الثورة على صیرورات من البناء الذاتی لإعادة تأهیل مجتمع الثورة وفق القیّم والأهداف الکبرى للإسلام التی جاءت الثورة لتجسیدها على أرض الواقع، وصولا إلى بناء النموذج الملهم للشعوب والمستضعفین فی العالم، کما فتح على تحدیّات الخارج وفی طلیعتها الإستهداف الأمریکی الواسع والمفتوح على کل الخیارات لإجهاض الثورة وإعاقة تکاملها وتقدمها.
فی استراتجیات الهیمنة وتجارب الاستعمار نلاحظ أن المسالة الثقافیة احتلت دائما أهمیة حیویة، فالتجربة الاستعماریة تمدّنا بمعطیات دقیقة حول الاستهداف الممنهج الذی کانت تتعرض له منظومة القیم الاخلاقیة والدینیة (وهذه القیم تعد من مشمولات مفهوم الثقافة کما هو متسالم علیه فی علم الاجتماع) من قبل الدول الاستعماریة، وتبرز لنا کیف أن درجة التفکیک للنظام القیمی کانت تعدّ مقیاسا فی نجاح المشروع الاستعماری، بل وکانت إلى جانب النخب الموصولة ثقافیا بالاستعمار تمثل الضمانة الأوثق التی استطاعت من خلالها القوى الاستعماریة تأمین شبکة مصالحها فی الدول المستعمَرة، والهیمنة -أیضا- على قرارها السیاسی فی مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر.
هذه الخبرة الاستعماریة المتراکمة لدى بریطانیا خاصة؛ استتثمرها الاستکبار العالمی فی حربه على الجمهوریة الإسلامیة فی إیران منذ قیامها، وإذا کانت العُشریة الأولى من عمر الثورة؛ أی حتى نهایة الحرب المفروضة؛ قد سعى فیها الاستکبار - إلى جانب مراهنته على نتائج الحرب- وعلى الصعید الثقافی إلى تشویه صورة المشروع الإسلامی الثوری ومحاولة الحدّ من تأثیراته عبر أسالیب الدعایة المغرضة واللعب على الورقة المذهبیة.. فإن العقدین الأخیرین قد عرفا تصاعدا وقوة فی حجم الهجمة الثقافیة على إیران؛ خاصة مع الإمکانات التقنیة وبروز مشروع العولمة المتأسس على فکرة صِدام الحضارات، وفلسفة نهایة التاریخ على مشهد النظام "الرأسمالی اللیبرالی" باعتباره المرحلة النهائیة فی التطور العقائدی للجنس البشری على حدّ زعم فرانسیس فوکویاما.
إنّ تطور مقدرات النظام الإسلامی وتحوّله برغم کلّ المؤامرات إلى لاعب اقلیمی فاعل یعرقل حرکة المشروع الأمریکی/الصهیونی فی المنطقة بل ویکون عاملا حاسما فی إفشال على أکثر من ساحة على المستوى الاقلیمی، جعل الثقل الأکبر فی الهجمة الثقافیة التی یشنها الاستکبار یترکز على إیران، وهذا ما أشار إلیه سماحة الإمام الخامنئی حین قال:" إن نطاق الغزو الثقافی لجبهة الاستکبار، یشمل دول العالم کلها، إلا أنّ المستهدف الأهم والأول فی هذا الغزو هو نظام الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، لأن النظام الإسلامی وقف صامدا أمام نظام الهیمنة، وأثبت بأنه صادق فی هذا الصمود وله القدرة ایضا على المواجهة والتقدم".
حجم الاستهداف هذا، تعبّر عنه ضخامة المیزانیات المعتمدة، وجسارة القرارات التی یعتمدها الکونغرس الأمریکی فی کلّ حین لزعزعة الاستقرار فی إیران، ویتمثل أیضا فی الدور التحریضی والتخریبی(بالمعنى الثقافی) للقنوات التلفزیونیة الناطقة بالفارسیة والتی تبث من بعض الولایات الأمریکیة، بالاضافة الى خدمات الانترنت المتطورة التی اجتهدت الدوائر الاستخباراتیة الامریکیة فی جعلها الواجهة الإعلامیة لثورة مضادة مأمولة، ولا یجب أن ننسى إطلاق قناة البی بی سی بالفارسیة شهورا قلیلة قبل الاستحقاق الانتخابی الرئاسی فی إیران.. فی ذات السیاق یمکن أن نستحضر ما کتبه ولیام کریستول بعد احتلال القوات الأمریکیة للعراق - وکان فی حینه من أکثر الکتّاب المعبرین عن وجهة نظر صقور المحافظین الجدد فی وسائل الإعلام الأمریکیة – فی مقال تحت عنوان"نهایة البدایة" جاء فیه : "تحریر العراق کان أکبر المعارک الکبرى من أجل مستقبل الشرق الأوسط ... ولکن المعرکة الکبرى القادمة - ونتمنى ألاّ تکون معرکة عسکریة - سوف تکون من أجل إیران"، فاللافت فی هذا الکلام هو التعبیر عن المخطط بالمعرکة الکبرى، والتی کان یراهن الکاتب؛ وهو لم یکن إلاّ معبّرا عن مخططات المحافظین الجدد؛ على أن لا تکون عسکریة، بمعنى تحقیق نفس أهداف غزو العراق لکن بأدوات ثقافیة وسیاسیة وإعلامیة، وبالاعتماد على أطراف داخلیة، وهذا ما یسمى بالثورة المخملیة.
هی حرب لم تتوقف، ولم یخف وطیسها -غیر المسموع- مع تعاقب الإدارات الامریکیة لأکثر من ثلاثة عقود، وکانت إحدى حلقاتها الأخطر فی الدخول الاستکباری بکل ثقله الإعلامی والدعائی والثقافی على خط الأحداث التی أعقبت الانتخابات الرئاسیة قبل سنتین تقریبا، فقد تحولت مفاهیم ملغمة کـ"الدیمقراطیة" والحریات وحقوق الإنسان إلى أهم السلع فی الاستراتجیة التسویقیة للمفاهیم الأمریکیة لضرب إیران والنیل من نظامها السیاسی القائم على مبدأ ولایة الفقیه.
ویبقى أنّ التحدی الخارجی لیس هو البند الوحید والأهم فی جدول أعمال المجلس الأعلى للثقافة الإسلامیة، لأنّ وظیفته أیضا هی بناء مجتمع الثورة بما یتوافق وهویته الدینیة، فضلا على أنّ هناک تحدیات داخلیة تتمثل فی معالجة بعض ظواهر الخلل فی التدین الإجتماعی، وهناک الظاهرة المقلقة والمتمثلة فی تراجع الوظیفة التأطیریة للقیّم الدینیة وتوجیهها للسلوکات الفردیة والاجتماعیة، وعدم تجدد الخطاب الدینی وفق إیقاع یواکب أسئلة الشباب ویستجیب لانتظاراتهم وتوقعاتهم من الدین، وهذا لیس معناه تطویعا للدین بل الکشف عن القابلیات الموجودة فیه، والأحکام المکنونة التی تجلیها فاعلیة الاجتهاد على وفق أصوله وشروطه وضوابطه.
کما أن التحدی الأبرز دینیا هو فی عودة قویة للخطاب المذهبی المغلق على حساب الخطاب الإسلامی الأصیل الذی عبّر عنه الإمام الخمینی(قده) ونخبة من تلامذته کالشهید مطهری وسماحة الإمام الخامنئی.. ومثـّل خطاب الثورة وکان التعبیر الأصدق عن رؤیتها الدینیة.
یسجل للمجلس الأعلى للثورة الثقافیة ومنذ تأسیسه؛ أنّه یتصرف على أساس أن عملیة التحول الثقافی مشروع شاق وطویل، لذلک نجده لا یستعجل النتائج بما لا یتناسب مع إیقاعات الحرکة التی تفرضها البنیات الثقافیة حیث تحتاج إلى الوقت کی تتغیر أو کی تحصل فیها القطیعات المتوقعة.
کما یُسجّل للمجلس مرونته الکبیرة فی التعاطی بحکمة مع حقیقة تفاوت القابلیات الدینیة والمعنویة على الصعید الاجتماعی، فلیست هناک نزوعات لتنمیط التعبیرات الدینیة والثقافیة بقدر ما نحن أمام مستویات من التنوع والتفاوت وفق الحد الذی ینص علیه القانون.
یبقى استدراک على هذا المجلس العتید، وهو فی أن یعمل على تجاوز التقصیر فی عکس المشهد الثقافی الإیرانی إعلامیا إلى خارج إیران؛ وهو المتسم بالحیویة والإبداع والتنوع والغنى فی مضمون قیمته، کما فی القیمة الفنیة لتعبیراته ..ولعلّ ساحة الجوار العربی الأقرب ثقافیا وجغرافیا تکون مهیأة لذلک بفعل نهضة الشعوب وانتفاضاتها.
فبعد أن تُحسم المعارک السیاسیة، و یتم تخطّی المراحل الانتقالیة..ستکون الأولویة للثقافة، والثقافة التی تبلورت فی إیران بعد الثورة ونمت فی جوّ من الحریة ستجد لها بیئة صدیقة تتوق لإعادة اكتشافها والتفاعل معها على وفق ثابت التثاقف التاریخی الذی حكم العلاقة بین المجالین العربی والإیرانی. 
 
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.