15 July 2011 - 22:06
رمز الخبر: 3684
پ
مساقط ضوء على التجربة الفقهیة للشهید الثانی
رسا/حوارات- فی تاریخ الفقه الشیعی هناک أسماء لامعة تفرض حضورها بفعل أدوارها التاریخیة وإسهاماتها الممیزة، فی هذا الحوار مع سماحة الشیخ حیدر حب الله الباحث الإسلامی المعروف والأستاذ بالحوزة العلمیة نحاول أن نسلط بعض الضوء على الشیخ زین الدین علیّ بن أحمد الجُبَعی العاملی المعروف بالشهید الثانی (911 – 965هـ).
فی حوار مع الشیخ حیدر حب الله



یرى الشیخ حیدر حب الله أن من أهمّ میزات فقه الشهید الثانی هو تلك الصیاغة القانونیة التی قدّمها للفقه الإمامی، فبعد عصر المحقّق والعلامة الحلیین یمکن الحدیث عن الشهید الثانی بوصفه صاحب صیاغة قانونیة للفقه، وذهب إلى أنه یحتمل أن یکون ظهور شخصیّتین تعاصرتا زمناً وهما المحقق الکرکی والشهید الثانی فی أواسط القرن العاشر قد أعاد حرکة الاجتهاد إلى سابق عهدها فی عصر العلامة الحلی، ویشیر حب الله إلى ملمح أجتهادی عند الشهید الثانی حین یقول بأنّ الشهید الثانی لم یکن یعیش حساسیة الاقتباس من الاجتهاد السنّی، فمشروعه فی إعادة بعث علم الحدیث فی الوسط الشیعی اعتمد على نقل مکثف للتجربة السنّیة.. وعن خصائص اجتهاده یعتقد الشیخ حب الله أنّ من میزات اجتهاد الشهید الثانی هو العفویة الاجتهادیة التی تبتعد عن التعقید فی فهم النصوص الدینیة.


1- أین تضعون الشهید الثانی فی التحقیب التاریخی للفقه الشیعی، وما هی خصائص فقهه، وما هی القیمة المضافة فی آراءه ومنهجه الفقهی؟

الشیخ حیدر حبّ الله- لعلّه یمکن تصنیف الشهید الثانی مع الجیل العلمی الثانی من مدرسة العلامة الحلی، بحسب التقسیم الذی أرتئیه لأجیال هذه المدرسة، وهو الجیل الذی صعد بهذه المدرسة إلى الذروة قبل العصر الإخباری الذی جمّد تنامیها، ویقف مع الشهید الثانی فی هذا الجیل کلّ من ولده الشیخ حسن وصاحب المدارک والمقدّس الأردبیلی وأمثالهم، وهم یتمتعون بنزعة متحرّرة نسبیاً من تراث المتقدّمین ویتصفون بمیول نقدیّة، غلا أنّ الشهید الثانی کان أکثر اعتدالاً من بینهم فی حرکة النقد هذه للمورث.
ولعلّ من أهمّ میزات فقهه هو الصیاغة القانونیة التی قدّمها للفقه الإمامی، فبعد عصر المحقّق والعلامة الحلیین یمکننا الحدیث عن الشهید الثانی بوصفه صاحب صیاغة قانونیة للفقه، ونحن نعرف أنّ المسألة البیانیة بالغة الأهمیة فی ضبط حرکة الدقّة الفقهیة والقانونیة، وأنّ سلسلة الشروط والقیود والضوابط التی تحیط القضیة الفقهیة تستدعی ضبطاً صیاغیاً للموضوع لا یتوفر للکثیرین من الفقهاء أنفسهم.

2- وصف ابن العودی تصانیف أستاذه الشهید الثانی(ره) بأنها "أبهى من القلائد.. وأنه أقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلک فیها مسالک المحققین وهجر طریق المتقدمین..ما هی تجلیات هذا الاختلاف مع طریق المتقدمین وما هی حدوده؟

الشیخ حیدر حبّ الله- لا أجد هذا التوصیف دقیقاً؛ بل فیه قدرٌ من المبالغة، فلا یبدو لی أنّ الشهید الثانی قد هجر طریقة المتقدّمین فی مناهج الاجتهاد، إلا إذا أخذنا بعین الاعتبار الطریقة السائدة بین عصره وعصر الشهید الأوّل، ففی هذه الفترة ـ أی طوال القرن التاسع الهجری ـ شهدنا رکوداً حقیقیّاً فی الاجتهاد الفقهی عند الإمامیّة، وربما یکون ظهور شخصیّتین تعاصرتا زمناً وهما المحقق الکرکی والشهید الثانی فی أواسط القرن العاشر قد أعاد حرکة الاجتهاد إلى سابق عهدها فی عصر العلامة الحلی، حیث بدأنا نرى مع هذین الفقیهین نموّاً مطرداً للدراسات الموسّعة فی الاجتهاد، مع مثل کتاب جامع المقاصد وروض الجنان والمسالک والروضة وغیر ذلک.

3- سافر الشهید الثانی کثیرا فی الحواضر العلمیة وتتلمذ على مشایخ المذاهب الإسلامیة فی عصره، بعض هذا التتلمذ کان لأجل التعرف على مناهج التدریس، کما نجده قد اهتم بالتصنیف واعتمد فی ذلک أسلوبا جدیدا..بل وألّف فی أخلاق العلّم (منیة المرید)، هل یمکن أن نقول –بناءً على کلّ ذلک- أنّ الشهید الثانی کان معنیا بشکل أساسی ببناء مدرسة/ حوزة علمیة نموذجیة؟

الشیخ حیدر حبّ الله- تقول بعض المعطیات التاریخیة بأنّه کان بصدد التفکیر فی بناء وضع ما للحوزة العلمیة فی بلاد جبل عامل ضمن الظروف التی کانت تسمح بحرکةٍ ما فی ذلک الزمان، لکنّ التأکّد من أنّ تصنیفاته کانت تقع فی سیاق مشروع من هذا النوع یبدو غیر سهل، (وتحلیل أسفاره وعلاقاته موضوع یفتح على الکثیر من الأفکار) فمن الواضح أنّ الأسلوب البیانی الذی تمتع به الشهید الثانی کان یمیل نحو التوضیح والتشریح والتبسیط بدل التعقید والغموض، لکنّنا لا نعثر عنده على شیء یتصل بموضوع وضع برامج دراسیّة لبناء أنموذج حوزة علمیة فی مکان ما، سوى مع کتابی منیة المرید والبدایة فی علم الدرایة، وحتى هذین الکتابین لا یؤکّدان لنا ـ إذا تخطینا أیّ وثیقة تاریخیة ـ أنّهما جاءا فی هذا السیاق، فقد ألّف العلماء فی المسألة الأخلاقیة فی التربیة والتعلیم خارج إطار مشروع مؤسّسی مدرسی، کما أنّ کتاب البدایة وبعده الرعایة فی علم الدرایة والحدیث قد یمکن تفسیرهما بالوقوع فی سیاق إعادة تنشیط علم الحدیث فی الوسط الشیعی تلبیةً للنزعة التی کان أصّل لها من قبل أحمد بن طاووس فی النقد الحدیثی واتّبعها العلامة الحلی بجدارة وإخلاص حتى تحوّلت إلى مأخذ على مدرسته فی العصر الإخباری. فلعلّ الشهید الثانی قد رأى غیاباً لهذا العلم فی الوسط الشیعی فأراد استحضاره مرّةً أخرى متحسّساً أهمیّته لا بدافع بناء مشروع تعلیمی لحوزة أنموذجیّة.

4- عرف عن الشهید الأول(ره) اهتمامه بالبعد المقاصدی فی الشریعة، ویبرز ذلک جلیا فی کتابه "القواعد والفوائد"، إلى أی حد تبلور هذا البعد المقاصدی فی النتاج الفقهی للشهید الثانی(ره)؟

الشیخ حیدر حبّ الله- إنّ المتتبع لنتاج الشهیدین الأوّل والثانی یجد عندهما بعض التعابیر التی توحی بنزعة مقاصدیّة، لکنّ صورة هذا الاتجاه لا تبدو واضحة بما یسمح لنا بالحدیث عن حرکة أو توجّه عام، لاسیما مع الشهید الثانی، فإنّ النهضة المقاصدیة التی عرفت مع الشاطبی (790هـ) یمکن أن تکون قد تسرّبت إلى فکر الشهید الأوّل المعاصر للشاطبی زمناً، لاسیما مع مشروعه فی البحث القواعدی للفقه (القواعد والفوائد)؛ لأنّ فقه القواعد یمکن فهمه بوصفه حلقةً وسطى بین فقه المسائل وفقه المقاصد، فیمکن التنبؤ بنزعة مقاصدیة نتیجة عنصری الفقه القواعدی والتزامن بالنسبة للشهید الأوّل، لکنّ الأمر یبدو عسیراً مع الشهید الثانی؛ لأنّ النزعة المقاصدیة التی أطلقها الشاطبی لا یبدو أنّها شهدت نفوذاً فی المؤسّسة الدینیة السنیّة نفسها فی القرن التاسع الهجری، بل غابت غیاباً طویلاً إلى أن أطلق الإسلامیون حرکتها فی نهایات القرن التاسع عشر مع الشیخ محمد عبده وآخرین.
وبالعودة إلى واقع فقه الشهید الثانی لا نجد المقاصد منهجاً وإنّما قد نجدها على شکل إثارات هنا وهناک ربما بدت لنقّاد کتابی: الروضة والمسالک، أنّها استحسانات أو أقیسة، ولعلّ ما یؤکّد کلامی أنّ الإخبارییّن لم یأخذوا النزعة المقاصدیّة عیباً على التیار الأصولی الذی کان الشهید الثانی من روّاده المعتدلین، وهذا یعنی أن الإخباری لم یلاحظ ـ وهو شدید الحساسیة فی هذا الموضوع ـ تأثیراً لفکر سنّی مقاصدی فی فقه الشهید الثانی.

5- بعد التطویر الکبیر الذی أدخله العلامة الحلّی على الفقه المقارن مستکملا دور الشیخ الطوسی فی ذلک؛ استأنف الشهیدان الأول والثانی هذا الدور، لدرجة یرى معها البعض أنّ النموذج الأفضل المطروح عبر تاریخ الشیعة فی مجال الفقه المقارن هو نموذج الشهیدین.. هل تتفقون مع هذا الطرح؟

الشیخ حیدر حبّ الله - لا أتفق مع القول الذی یذهب إلى أنّ الشهید الثانی کان رائداً فی الفقه المقارن، ویجب علینا أن لا نقوم بتضخیم المشهد، إنّ العلامة الحلی کان عملاقاً فی هذا الموضوع کما یثبته کتاباه: تذکرة الفقهاء، ونهایة الوصول إلى علم الأصول. إنّ الفقه المقارن والأصول المقارن عند العلامة واضحان جداً، أمّا عند الشهید الثانی فنحن نجد فی الغالب أنموذج کتاب (مختلف الشیعة) للعلامة الحلی، وهو کتاب جاء فی سیاق المقارنة الداخل ـ مذهبیة لا الخارج ـ مذهبیة، نعم، من الممکن والواقع هنا وهناک أن یتعرّض الشهید الثانی فی کتاباته للفقه السنّی، لکنّ هذا لا یخوّلنا الحدیث عن ریادة ولا حتى عن مشروع، ولعلّه لم یکن یرى حاجةً لهذا الأمر فی عصره.
نعم، النقطة التی یمتاز بها الشهید الثانی أنّه لم یکن یعیش حساسیة الاقتباس من الاجتهاد السنّی، فمشروعه فی إعادة بعث علم الحدیث فی الوسط الشیعی معتمداً على نقل مکثف للتجربة السنّیة، حتى أنّ البعض قد یسمّیها استنساخاً، وذلک مع کتابی: البدایة والرعایة فی علم الحدیث، یعطی مؤشراً أنّه لم یکن لیعیش عقدة التعاون المعرفی مع الآخر الإسلامی، تلک العقبة التی ظلّت مسیطرةً على العقل الإخباری لأکثر من قرنین بعد ذلک، إنّ تلمّذه على علماء أهل السنّة وسفره فی البلدان دون أن یعیش قلقاً فی هذا الموضوع، یشهد على درجة من الانفتاح لیست بالقلیلة، إلا أنّ هذا شیء والحدیث عن مشروع اجتهاد مقارن شیء آخر.

6- کیف تقیّمون الممارسة الفقهیة عند الشهید الثانی، وهل هنالک فی نظرکم قیمة کبرى مهدورة أو ملمح جوهری فی هذه الممارسة بحاجة إلى إحیاء وتطویر؟

الشیخ حیدر حبّ الله - أعتقد أنّ من میزات اجتهاد الشهید الثانی هو العفویة الاجتهادیة التی تبتعد عن التعقید فی فهم النصوص الدینیة ( المصدر)، وعن العُجمة فی تفسیر هذه النصوص، یبدو لی أنّه ذو نزعة عرفیّة فی الفهم نابعة من وعی حقیقی لدلالات اللغة العربیة ومناخها وسیاقاتها، وهو أمر یمکن التعویل علیه وتطویره فی الاجتهاد المعاصر، کما تبدو لی عملیة انفتاحه المعرفی على الآخر نقطةً ایجابیة یمکن الاشتغال على تنمیتها واعتبارها رصیداً تاریخیاً لمشروع التقارب المعرفی بین المذاهب.
یضاف إلى ذلک عنصر الاعتدال فی البحث الفقهی وعدم وجود حالة تشنّج إلا فی بعض المواضع المعروفة نسبیّاً، مما یستدعی تعمیم هذه الثقافة وترشیدها.
حاوره عبد الرحیم التهامی.



ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.