الشیخ محمد علی الأنصاری الباحث بالحوزة العلمیة فی قم :
رسا / حوارات ــ أفاد مسؤول لجنة تحقیق تراث الشیخ الأنصاری : لقد أقدم الشیخ الأنصاری ببحثه الدقیق للمسائل وتفریع الفروع وإیجاد مطالب علمیة وفرعیة جدیدة فی موضوع واحد على إنتاج العلم ، وأضاء لنا السبیل إلیه .

ذکر مراسل وکالة رسا للأنباء أن الشیخ مرتضى بن محمد أمین الأنصاری الدزفولی أحد علماء الشیعة البارزین فی القرن الثالث عشر الهجری ، وقد آلت إلیه المرجعیة الدینیة العامة للشیعة وهو فی الثانیة والخمسین من عمره لاشتهاره بالورع والتقوى وشهادة عدد من أساتذته ـ مثل الشیخ علی کاشف الغطاء والملا أحمد النراقی ـ على أعلمیته .
وقد بلغت البحوث الفقهیة فی زمانه قمتها فی التوسع والدقة المتناهیة ، وارتقى الفقه مراتب مرموقة من حیث المنهج الاستدلالی . وهو کان قائد الدورة الثامنة من أدوار الفقه ، ورائد الدورة الخامسة من أدوار البیان الفقهی ، وحامل رایة الدورة السابعة من أدوار الاجتهاد ، ومؤسس بعض الأصول الفقهیة .
أسلوب الشیخ الاستدلالی البلیغ ومقدرته الفقهیة والأصولیة کانت على درجة عالیة من الجودة بحیث استطاع إعداد مایقرب من مئتی مجتهد مسلم باجتهاده وتقدیمهم إلى الحوزات العلمیة الشیعیة ، ومن جملة تلامذته الذین یعدون کالنجوم المتلألئة فی سماء العلم : المیرزا محمد حسن الشیرازی ، والمیرزا حبیب الله الرشتی ، والشیخ محمد الآشتیانی ، والآخوند محمد کاظم الخراسانی ، والشیخ جعفر الشوشتری ، والملا حسین قلی الهمدانی ، والشیخ حسن نجم آبادی الطهرانی ، والمیرزا حسین النوری .
وعلى الرغم من أن الشیخ الأنصاری حاز المنصة العلیا لتدریس الفقه والأصول وإعداد العلماء خلال سبعة وعشرین عاماً فی النجف ، وتحمل على عاتقه أعباء الزعامة الدینیة ومرجعیة الشیعة خلال خمسة عشر عاماً ، إلا أنه لم یهمل الکتابة والتألیف فأبدع عدة مصنفات نفیسة کالمکاسب والرسائل أخذت مسارها إلى الحوزات العلمیة کمنهج أساسی للدراسة والبحث على مدى أعوام عدیدة وماتزال .
وبمناسبة رحلة الشیخ مرتضى الأنصاری إلتقینا الشیخ محمد علی الأنصاری الشوشتری أستاذ الحوزة العلمیة فی قم ، ومسؤول لجنة تحقیق تراث الشیخ الأعظم الأنصاری فی مجمع الفکر الإسلامی ، تلک اللجنة قد أنجزت حتى الآن تحقیق وتدوین ثمانیة وعشرین مجلداً من مؤلفات الشیخ ، وطبعت بنحو عصری حدیث .
ومن أعمال الأستاذ الشیخ محمد علی الأنصاری تألیف عدة کتب مهمة منها : الموسوعة الفقهیة المیسرة ، وأهل البیت : إمامتهم وحیاتهم ، ودراسة حول الإسراف . کما حقق ونشر مصنفات نفیسة کتاریخ حصر الاجتهاد للمرحوم آقا بزرک الطهرانی ، وبدایة الهدایة للشیخ الحر العاملی ، والوسائل للمحدث العاملی ، وغیرها .
وفیما یلی تفاصیل لقائنا إیاه نقدمها لقراء وکالة رسا الأعزاء :
رسا ـ بدایة نرجو أن تذکروا نبذة عن عملکم فی تحقیق تراث الشیخ الأعظم الأنصاری (قدس سره) .
تولیت مسؤولیة لجنة التحقیق العلمی خلال 1420ـ1421هـ ، وتکونت من خمسة عشر محققاً من حوزة قم العلمیة ، وعملنا معاً على تحقیق کتب الشیخ الأنصاری (قدس سره) ، وأثمر عملنا الجماعی فی نشر مجموعة مؤلفات الشیخ بجهود مجمع الفکر الإسلامی ، وأزیح الستار عنها بمناسبة مرور مئتی عام على ولادته ، وعلى هامش مؤتمر الشیخ الأنصاری الذی أقیم فی مدینة قم .
یبلغ مجموع مؤلفات الشیخ الأنصاری الیوم ثمانیة وعشرین مجلداً بطباعة رزینة وفهرس ومعجم لألفاظها ، وهی فی متناول أیدی الباحثین فی العلوم الإسلامیة بالنحو الآتی :
المجلدات الأول إلى الخامس : کتاب الطهارة ، وهو شرح لکتاب شرایع الإسلام للمحقق الحلی وإرشاد الأذهان للعلامة الحلی .
المجلدات السادس إلى الثامن : مجموعة أحکام الصلاة .
المجلد التاسع : أحکام الخلل قی الصلاة .
المجلد العاشر : کتاب الزکاة .
المجلد الحادی عشر : کتاب الخمس .
المجلد الثانی عشر : بحث الصوم .
المجلد الثالث عشر : بحث الحج حسب ترتیب المنهج الفقهی ، وقد ترکناه حتى تصل نسخ النجف ونکمل تنقیحه .
المجلدان الرابع والخامس عشر : المکاسب المحرمة .
المجلدان السادس والسابع عشر : البیع .
المجلدان الثامن والتاسع عشر : الخیارات .
المجلد العشرون : النکاح .
المجلد الحادی والعشرون : الوصایا والمواریث .
المجلد الثانی والعشرون : القضاء والشهادات ، وقد طبع لأول مرة ، ولاوجود حتى لنسخته الحجریة .
المجلد الثالث والعشرون : رسائل فقهیة مختلفة تعکس الفکر الفقهی للشیخ الأنصاری فی مختلف أبواب الفقه .
المجلدات الرابع والخامس والسادس والعشرون : کتاب فرائد الأصول ، وهو مجموعة بحوث فی أصول الفقه .
المجلد السابع والعشرون : قد ترکناه فارغاً لکتابات الشیخ المتفرقة فی علم أصول الفقه ، ولم تصلنا إلى الآن موضوعات فی هذا المجال لکی نقوم بتحقیقها .
المجلد الثامن والعشرون : حاشیة على موضوع الاستصحاب من کتاب قوانین الأصول للمرحوم أبوالقاسم القمی .
طبعت هذه الکتب بنحو أنیق مع هوامش التحقیق وفهرس المحتویات ومعجم لألفاظها .
الجدیر بالذکر فی هذه الکتب هی التقطیعات فی أول کل بحث بواسطة عنوان یناسبه ، وهی ضروریة لفهم کلام الشیخ ولإشکالات وأجوبة کثیرة .
هذه العناوین المستقرة وسط المطالب المفصلة للشیخ هیأت الکتاب لیکون منهجاً دراسیاً ، وقدمت یداً قویة تعین الأساتذة على التدریس والطلاب على فهم المادة .
رسا ــ تفضلتم أن الشیخ الأنصاری (قدس سره) تصدى لبحث أبواب کثیرة فی الفقه والأصول ، غیر أن قسم المعاملات الفقهیة والأصول من بحوثه احتلا الیوم موقعاًً خاصاً فی المواد الدراسیة لمرحلة السطح الثالث فی الحوزة العلمیة ، ماهو السبب فی أن الحوزات العلمیة اهتمت بهذه البحوث أکثر من سواها ؟
ینبغی الإقرار بأن ابتکارات الشیخ الأنصاری ازدهرت أکثر فی ذینک المبحثین ، وما یبین شخصیته العلمیة هی آراؤه الأصولیة وفقهه فی المعاملات .
فقبل الرسائل لم یوجد کتاب فی أصول الفقه بهذا الترتیب والتنظیم ، وعلى الرغم من اتحاد جذور وأصول الموضوع إلا أن تقسیم الشیخ وتفریعه للفروع لانظیر له فی هذه البحوث .
ففی بحث الأصول العملیة من کتاب الرسائل قسّم المکلف إلى عالم وغیر عالم ، وحصر حالات الأخیر فی مواجهة الحکم بثلاث : الیقین والظن والشک . ومن هنا بدأ موضوع القطع ، وبحث ماهیته وأنواعه وحجیته .
وبین الشیخ مراحل الاستنباط بتنظیم دقیق جداً لمن یسعى فی الاجتهاد ، فهو یأخذ بید الشخص قدماً فی هذا السبیل فإذا حصل له القطع فحجیته ذاتیة ، وإذا حصل الظن فحجیته بحاجة إلى دلیل ، وذکر عدة أمور فی إثبات الحجیة کخبر الواحد الثقة والشهرة والإجماع وقول اللغویین وغیرها .
ثم بلغ وظیفة المجتهد فی مرحلة الشک ، وقسم الشبهات إلى تحریمیة ووجوبیة مع إثبات الأقوال المختلفة فی الموضوع .
هذا البیان المتسلسل لمنهج الاجتهاد لم یکن له وجود قبل الشیخ الأنصاری .
وفی البحوث الفقهیة یتجسد تفوق الشیخ على الفقهاء السابقین له ، ففی بحث البیع ثم فی الخیارات أصبح المنهج کما اختطه الشیخ الأنصاری بأن البیع ذریعة للعقد ، ثم الأخذ ببیان الأحکام الکلیة للعقود .
وشاع الیوم بحث باسم نظریة العقود ، وهو من الابتکارات العلمیة للشیخ الأنصاری ولم یوجد قبله .
وله مطالب قیمة فی بحث الخیارات ، وهی قابلة لمناقشات کثیرة بطبیعة الحال ، غیر أنه یطرح البحث بطریقة ممتازة فریدة .
رسا ــ ماهی خصائص أسلوب الشیخ الأنصاری فی بحوثه ؟ وماهی أفضلیته على أسالیب الآخرین فی طرح المباحث الفقهیة ؟
عقدنا مقارنة فی مقدمة المجلد الأول من المکاسب بین أسلوب الشیخ الأنصاری وصاحب الجواهر، وبینا جوانب تفوق أسلوب الشیخ فیها .
فالشیخ یتقدم فی طرح البحث بترتیب عقلی ، ویبینه بنحو منظم من البدایة حتى النهایة ، أما المرحوم صاحب الجواهر (قدس سره) فلیست له هذه الدقة فی الشروع بالبحث والخروج منه ، وینتقل بکنایة واحدة من بحث إلى آخر .
وبعبارة أخرى : یبدأ الشیخ الأنصاری من أول البحث إلى آخره تدریجیاً ، ویستفید من مناسبة ملائمة للانتقال إلى بحث آخر ، أما صاحب الجواهر فمع الأخذ بنظر الاعتبار أن کتاب الجواهر شرح مزجی لشرایع الإسلام وفی بعض الأحیان لم یتطرق مؤلف الشرایع إلى بحث موضوع معین ، فلذلک ینتقل صاحب الجواهر إلى بحث آخر بمناسبة کلمة واحدة ، وهو ما أطلق علیه التموج فی التعبیر .
رسا ــ الشیخ الأنصاری کشخصیة علمیة کبیرة فی عالم التشیع ، ما هو دوره فی تقدم الحوزات العلمیة ؟ وکمرجع شیعی کبیر ، ماهی الخطوات التی اتخذها فی سبیل تطور الحوزات والازدهار العلمی ؟
للمرحوم الشیخ الأنصاری سفرات کثیرة فقد ذهب إلى العراق وبروجرد وإصفهان وأخیراً إلى نراق ، وتلمذ للمرحوم النراقی .
کما تلمذ فی کربلاء لشریف العلماء وهو من المفکرین والعلماء الکبار ، ولابنی کاشف الغطاء الشیخین موسى وعلی ، وللمرحوم المجاهد صاحب المناهل .
وللشیخ تأثیر متقابل أینما ذهب وفی أی درس اشترک، أی یتأثر بأساتذته ویؤثرون به ، فحضر فی آخر سفرة له درس صاحب الجواهر فی النجف ، واستطاع أن یؤثر فی آراء أستاذه .
فالمعروف أن مصطلحی : الحکومة والورود من ابتکارات الشیخ الأنصاری ، ولکنی عثرت فی دراساتی على أمثال هذه العبارات لصاحب الجواهر ، وجمعت عدة شواهد لإثبات أن قصد صاحب الجواهر هو الحکومة والورود الاصطلاحیان لاغیرهما .
وفی لقائی للمرحوم الشیخ أحمد سبط الشیخ ـ أحد أسباط الشیخ الأنصاری ـ طرحت هذا الموضوع علیه ، فصرح بأن هذه من البحوث من التأثیرات المتقابلة للشیخ على صاحب الجواهر ، ولهذا السبب انضم إلى حلقة درس الشیخ المیرزا حسن الشیرازی والشیخ حبیب الله الرشتی مع أن لکل منهما حلقة للتدریس فی الحوزة العلمیة .
الهیمنة العلمیة للشیخ الأنصاری کانت وراء تأثیره فی معاصریه ، هذا التأثیر الذی مازال مستمراً حتى الوقت الحاضر، حیث نرى تأثر الحوزات العلمیة الشیعیة بأفکاره .
فالیوم تشکل أفکار الشیخ المحاور الأساسیة لبحوث الخارج فی الحوزات وللکتب الفقهیة والأصولیة ، ولکن هذا لایعنی أن لایوجه إلیه نقد علمی ، بل إن من خصائص الحوزات العلمیة هی نقدها لآراء کبار العلماء وإنتاج فکر جدید .
الشیخ الأنصاری أستاذ تفصیل البحوث وتفریع الفروع العلمیة ، ولذلک فالأقل فی أسلوبه أن یطرح آراءه النهائیة ، والأکثر أن یتصدى للبحث ویبین الفروع والاحتمالات الممکنة ، ویسعى فی کل ذلک لأن یحافظ على الأطار العلمی فی مراحل الوصول إلى الاستنباط ، ویوضح للقراء سبیل الوصول إلى النتیجة .
رسا ــ أدخل الشیخ الأنصاری الفقه مرحلة جدیدة فی بحثه للمعاملات حیث شرح الشائع منها فی السوق استناداً إلى السیرة والعرف ، ثم توجه إلى تقییمها الفقهی وتبیین أحکامها وفروضها المختلفة فی المبادلات التجاریة للناس . والیوم یزخر المجتمع الإسلامی بالبنوک وأوراق التـأمین وأسواق المال والمعاملات الإنترنتیة ، فکیف یسعفنا ـ بنظرک ـ أسلوب الشیخ الأنصاری فی کتاب البیع للوصول إلى الحکم الشرعی فی المعاملات الجدیدة ؟
العلم لیس له حدود ، وهو فی مسیرة تکامله یطوی یومیاً مراحل جدیدة ، ومن هنا یواجه علم الفقه الیوم أسئلة مختلفة ثقافیة واقتصادیة وقضائیة وغیرها .
والشیخ الأنصاری ببحثه الدقیق للمسائل وتفریع الفروع وإیجاد مطالب علمیة وفرعیة جدیدة فی موضوع واحد أقدم على إنتاج العلم ، وأضاء لنا السبیل إلیه .
وقد عرف العلامة الحلی بأنه أستاذ تولید الفروع فی علم الفقه ، وهذا لاهتمامه بالفقه المقارن ، ولکن أشکل بعض العلماء على العلامة لبیانه فروعات متعددة فی البحث ، إلا أننی اعتقد أن طریقة طرح الموضوع بهذا النحو تبعثت على أن ینقده الآخرون ویبینوا وجهات نظرهم ، ومن ثم یتقدم علم الفقه فی مسیرة تکاملیة .
رسا ــ ختاماً إذا بقی شیء تودون قوله عن الشیخ الأنصاری فنرجو أن تتفضلوا بذلک .
من المناسب أن أذکر هنا واحدة من ذکریاتنا عن أیام تحقیق کتب الشیخ الأنصاری .
عندما کنا منشغلین بالعمل فی کتاب أحکام الخلل فی الصلاة واجهت عبارة للشیخ الأنصاری تبین أننا کثیراً ما نغفل فی أثناء العمل خصوصاً حینما نصلی ، فلا ننتبه سوى إلى بدایتها وانتهائها .
فقلت : إن هذه علامة على تواضع الشیخ الأنصاری ویجب أن أشیر إلیها فی الهامش ، ولکنی لا أعلم بأی عبارة أوضح هذا المطلب . وخرجت من محل العمل وهذه الفکرة تدور فی ذهنی ، فإذا بالمرحوم سبط الشیخ یواجهنی صدفة ، فبینت له الأمر وأجابنی بقصة عن جده ، فقال :
أصیب الشیخ الأنصاری فی آخر عمره بضعف فی البصر، وکان أخوه الشیخ منصور یقرأ له کتاباً ، وفی أثناء القراءة وصل إلى موضوع أشار صاحب الریاض إلى أن المحقق الأردبیلی نقل الإجماع علیه فی کتاب مجمع الفائدة والبرهان .
فطلب الشیخ الأنصاری من أخیه أن یقرأ نفس عبارة مجمع الفائدة لأنه یحتاط فی مثل هذه الأمور ، فقرأها ولم یجد أثراً على الإجماع فیها .
وهنا أذن المؤذن فتوضأ الشیخ ووقف یصلی ، وعندما انتهت الصلاة التفت إلیه الشیخ منصور وقال : أظن أن الإجماع المذکور عن المحقق الأردبیلی هو فی الموضوع الفلانی . فأید الشیخ هذا الاحتمال ولکنه سأل الشیخ منصور : متى خطرت هذه الفکرة فی ذهنک ؟ فقال : فکرت بذلک حینما کنت أصلی . فرمقه الشیخ الأنصاری بنظرة متفحصة وقال : وهل یفکر أحد وهو یصلی بغیر الله ؟
نعم للشیخ الأنصاری مستویات سامیة من الکمال والروحانیة ، فهو فی العرفان والأخلاق تلمیذ السید علی الشوشتری الذی کان تلمیذاً للشیخ الأنصاری فی الفقه .
رسا ــ نشکرکم کثیرأ على منحنا قسطاً من وقتکم الثمین .
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.