رسا/الرأی- هلک الطاغیة معمر القدافی وأمام الشعب اللیبی استحقاقات التخلص من ترکته وبناء الدولة على أنقاض وحطام جماهریته المشؤومة، وتقدیم نموذج حضاری للعالم یتناسب وحجم التضحیات وطول مدة التغییب القسری..لکن التحدی الکبیر والامتحان الصعب هو فی الدفاع عن حریة القرار السیاسی وتأمین ثروات لیبیا من أطماع دول حلف الناتو.

بعد أکثر من أربعة عقود من التسلط والاستبداد ..وفی واحدة من أبشع نماذج الدیکتاتوریات التی عرفها العالم المعاصر، قُتل القذافی وشهد العالم کله لقطات من عملیة التنکیل به على أیدی الثوار قبل أن یلقى حتفه..
هی نهایة جدیرة بطاغیة أوغل فی دماء شعبه؛ وإن کنا نود لو أنه قدم لمحاکمة عادلة؛ طاغیة تضخمت لدیه أعراض جنون العظمة فلم یعد یر شعبه جدیرا بممارسة أبسط حق من حقوقه السیاسیة والمواطنیة، ولم یر له حقا أصیلا فی الثروة التی بدد بعضها على مغامراته السیاسیة والبعض الأخر جعله تحت تصرف أبنائه وقرابته، فیما قسم منها استودعه فی بنوک خارج لیبیا أو فی شکل استثمارات خارجیة.
ولما دقت أجراس الثورة فی العاصمة طرابلس فی تناغم مع شقیقتها فی أقصى الشرق بنغازی استکثر على الشعب اللیبی أن یرتفع له صوت؛ فنظر إلى الثوار على أنهم نکرات حین خاطبهم من أعلى حصن منطقة العزیزیة :من أنتم؟! ثم شرع یصفهم بأقذع الأوصاف فنعثهم بالجرذان وب"المقملین" (أی من یعشش فی رؤوسهم القمل) ومتعاطی حبوب الهلوسة قبل أن یتوعدهم بالسحق من بیت إلى بیت ومن زنقة إلى زنقة.
لم یکن القذافی مجرد دیکتاتور متسلط بل جمع إلى ذلک السخف والتفاهة والجنون والإسراف فی الفساد.
لقد عرف العالم الکثیر من الدیکتاتوریین استأثروا بالسلطة وقمعوا معارضیهم وصادروا إرادة الشعب وکتموا الأنفاس وسجنوا وغیبوا وقتلوا على الشبهة والظنة..لکنهم کانوا إلى جانب سجلهم الإجرامی أصحاب مأثرة سواء لصدهم عدوانا على بلدانهم ، أو لاجتراحهم نهوضا فی الاقتصاد أو لافتکاکهم مکانة دولیة لوطنهم على غرار ما فعله ستالین سیء السیرة والذکر لبلده. أما بالنسبة إلى القذافی فإن جریمته المغلظة والمضافة إلى استبداده وفساده وعمالته لأمریکا خاصة منذ 2003 أنه أوقف الزمن الاقتصادی للیبیا وجمد مؤشرات النمو فیها، ولم تنعکس عائدات البلد الغنی بالنفط لا على العباد وعلى البلاد ولو فی مستوى العمران وقطاع الخدمات. بل انه خنق الثقافة والإبداع وعطل کل مظاهر الدولة ومؤسساتها، وحوّل دجله الذی ضمّنه کتابه "الأخضر" إلى تراتیل مقدسة فرضت على طلبة المدارس وتلامذتها.
وککل طاغیة أمن القذافی من مکر التاریخ، وأسقط من حسابه عدالة السماء..لم یخطر بباله أن یواجه مصیرا کالذی شاء الله له أن یجرعه خزیه ومهانته سواء وهو هارب مطارد بعد أن تهاوت عاصمة سلطانه وسقطت بید الثوار، أو وهو فی لحظاته الأخیرة حینما أمکن الله والثوار یصفعونه ویرکلونه ویجرونه إلى حتفه بعد أن ظفروا به مختبئا کجرذ فی قناة لصرف الماء على حاشیة طریق فی مدینة سرت.
حصل هذا وتناقلته کل شاشات العالم..کان المشهد صاعقا للطغاة والمستکبرین..کما کان درسا للمستضعفین بأن لا شیء یحول دون قدرة الله فی الانتصار لهم وتمکینهم من عدوهم وإذلاله فی الدنیا قبل الآخرة..کانت المسافة تبدو متلاشیة بین عقود من القمع ولحظة تمکن الثوار من الطاغیة وعیناه زائغتان هلکت عنه کل القوة والغطرسة، ولم تشفع له الألقاب التی حکم بها واستبد.. بدا حقیرا ومهانا وذلیلا یستعطف الماسکین بخناقة وقد أردک أنها نقمة الله وسوء المنقلب.." فأخذه الله نکال الآخرة والأولى".
هلک الطاغیة ولا زالت شعوب عربیة أخرى ترزح تحت استبداد یعطل مسیرتها ویحجب حضورها السیاسی والثقافی ویعبث بمقدراتها..ودرس القذافی ومن سبقه من الطغاة الذین تهاووا لن یفید من بقی من الطغاة لأنهم أشربوا فی قلوبهم الطغیان، لکن الشعوب علیها أن تستفید من درس الطاغیة و أن تدرک أن الطغاة جبناء بطبیعتهم، وأن اقرب طریق إلى الخسف بهم وبعروشهم هی وحدة الکلمة وإرادة التغییر والاستعداد للتضحیة.
هلک الطاغیة وأمام الشعب اللیبی استحقاقات التخلص من ترکته وبناء الدولة على أنقاض حطام جماهریته المشؤومة، وتقدیم نموذج حضاری للعالم یتناسب وحجم التضحیات وطول مدة التغییب القسری..لکن التحدی الکبیر والامتحان الصعب هو فی الدفاع عن حریة القرار السیاسی وتأمین ثروات لیبیا من أطماع دول حلف الناتو.
ندرک ان فریقا من الثوار انتبه لحسابات الناتو والذی راهن فی مرحلة من مراحل الثورة على فرض مخرج سیاسی للصراع..کما ندرک أن هذا الفریق سیأخذ فی الاعتبار معطیات القوة التی أظهرتها الثورة وجعلت الناتو یعید حساباته.
لیس أمام الشعب اللیبی والذی أنهى مرحلة القذافی المظلمة سوى الیقظة والنضال لرفع کل وصایة دولیة على قراره السیاسی وقطع کل ید تمتد لسرقة ثرواته.
إن مشهد وزیرة الخارجیة الأمریکیة وقد خرجت عن طورها فی إحدى حواراتها التلفزیونیة؛ وهی تعبر عن فرحها وسعادتها بالدور الأمریکی فی لیبیا یجعلنا نخشى على مصیر هذا البلد العزیز..لکن وکما أظهرت تجربة العراق فقد تأتی حسابات العدو ناقصة، لأن ثمة دائما ماردا اسمه الشعب.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.